وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هل يصلح الكسكسي ما أفسدته السياسة؟!

 طبق الكسكسي
سيدتان مغربيتان وهنّ يتناولن طبق الكسكس التقليدي في أحد المطاعم الموجودة في العاصمة المغربية الرباط يوم ٩ فبراير ٢٠١٨. المصدر: FADEL SENNA / AFP.

غسان عقله

من الجيّد حقّاً أن تنجح الدول المغاربية (تونس، الجزائر، المغرب وموريتانيا) في تسجيل طبق الكسكسي ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي. ورغم التجاذبات الكبيرة التي رافقت ذلك، إلا أنه يعتبر سابقة على تعاون تلك الدول في ملف مشترك، وهو تعاونٌ إيجابي يحسب لها على جميع الأوجه. لكن هل كان الأمر جيداً بما يكفي لاعتباره خطوة على طريق إعادة إحياء “اتحاد المغرب العربي” مثلاً؟ أو لإنهاء الصراع على قضية الصحراء الغربية؟ بكلمات أخرى: هل يمكن للطعام أن يرسم خارطة طريق لحل النزاعات بين الدول؟!

مرّ أكثر من شهر على مبادرة الدول المغاربية الناجحة (أُدرج الطبق في الـ16 من شهر ديسمبر الماضي). وطبق الكسكسي قد بَرُد الآن. وما عاد شهيّاً بما يكفي لجذب ناشطي مواقع التواصل الإجتماعي المغاربيين للحديث عنه، لا سخريةً منه ولا تعصّباً له حتى. وربما يحق لنا الآن بعد أن (قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان) أن نسأل عن حال العلاقات المغاربية عقب هذا النجاح؟!

في واقع الحال، قد يشارع البعض بأن السؤال متسرّع إلى حد ما ولم يحن وقت طرحه بعد. وبالفعل، فالخلافات بين الدول الآكلة للكسكسي لا تزال على حالها، والفتور على حاله! ولا يمكن لعاقل تصوّر عكس ذلك، ولم يمر بعد سوى شهر واحد فقط على المأثرة الثقافية التي تعاونت الدول المغاربية على إنجازها. حسناً، لنُعِد صياغة السؤال: هل يمكن أن يُحدث الكسكسي خرقاً إيجابياً بأزمة الصحراء الغربية بعد خمس أو عشر سنوات من الآن؟! قد يجيب أحدهم بأن ملف الصحراء الغربية واحدٌ من أطول وأعقد الصراعات السياسية والإنسانية في العالم، ولا يمكن تحميل الكسكسي ما لا يحتمل، لذلك لندعه جانباً. طيب، ماذا عن الخلاف الأبسط المتمثل بطلب الأمازيغ تغيير تسمية “اتحاد المغرب العربي” إلى “الاتحاد المغاربي” أو “اتحاد المغرب الكبير”، حيث أن التسمية تلك تقصيهم وهم مكوّنٌ أصيل وغير عربي في التركيبة المغاربية؟! هل سيشفع الكسكسي للقبائل الأمازيغية، الممتدة من المحيط الأطلسي إلى واحة سيوة في مصر، بنيل اعتراف حقيقي بهويتها وتمايزها الثقافي؟ أوليس طبق الكسكسي نفسه وبإجماع الكثير من المصادر التاريخية يعود أصله لتلك القبائل الأمازيغية؟!

لندع تلك الأسئلة أيضاً معلّقةً برسم السنين القادمة وننتظر. لكن هناك نقطة قد تبدو ملحّةً بعض الشيء: ماذا لو استفاقت ليبيا من غيبوبة الحرب الدائرة فيها وطالبت بحصتها من الكسكس؟! أليس الكسكس من حقها أيضاً؟! ألن يستدعي ذلك اشتعال خلافٍ جديد في منطقةٍ تترنح تحت حمل خلافات مزمنة؟! هل فكّرت الدول الأربع بإشراك ليبيا في الملف أم أنها تجاهلت ذلك مستغلةً انشغال الأخيرة بحربها الأهلية؟!

على ما يبدو من المبكر أن نقرر إن كان الكسكسي سينهي أزمات المنطقة بالفعل أو أنه سيشعل أزماتٍ جديدة. وإن كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فلماذا إذاً كل هذه الحفاوة والجهد المبذول من الدول المغاربية الأربع لتقديم ملف مشترك أمام منظمة اليونسكو؟

قد تكون الإجابة أسهل مما يوحي به السؤال. فاشتراك الدول الأربع في ملف الكسكسي هو ببساطة للحيلولة دون انفراد دولة مغاربية بعينها بتقديم الملف، وليس سوى ذلك أبداً، وقد عبّر عن ذلك مباشرةً رئيس الحكومة الجزائرية السابق أحمد أويحيى، نهاية عام 2018، لأحد صانعي المعجنات بقوله: “في الخارج، هناك دولة شقيقة وجارة – يقصد المغرب – جعلت من الكسكسي منتوجاً خاصاً بها، لذا أطلب منكم أن تثبتوا أنفسكم وأن تبرهنوا العكس”. ليأتيه الرد سريعاً من وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية مصطفى الخلفي، حين قال: “لا أعتبر أن هذه القضية ينبغي أن تكون موضوع تعليق (…) لأن الواقع قائم لا يرتفع”، في تأكيد منه أن طبق الكسكس مغربي! إذاً من الواضح أن اشتراك تلك الدول في هذا الملف لا يبرز حالة الوفاق فيما بينها بقدر ما هو انعكاس لخلافاتها المزمنة، خصوصاً الخلافات التاريخية بين الجزائر والمغرب، وهما الدولتان المحوريتان في أي تعاون مغاربي حقيقي وواقعي!

بكل تأكيد، ليس الغرض هنا التقليل من أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه الطعام بالتقريب بين الشعوب، وإلى حد ما تذليل الخلافات السياسية أو الاقتصادية بين الدول. لكنّ إفراط البعض بالتفاؤل بحل الخلافات المغاربية إبان إدراج الكسكسي في قائمة اليونسكو يسترعي بحق مراجعةً متأنية، لما يعكسه ذلك الفكر من طوباويّة واغتراب عن الواقعية في حل الخلافات السياسية. لنتخيل مثلاً لو أن النمسا اشترطت لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي أن تتوقف جارتها ألمانيا عن توصيف “شرائح شنيتزل” (Schnitzel) بالـ”طبق الوطني”، على اعتبار أن وصفة الطعام تلك تعود بالأصل إلى فيينا! أو مثلاً أن تُفكك إسرائيل المستوطنات في الأراضي الفلسطينية ثمناً لتنازل الفلسطينيّين نهائياً عن الفلافل والحمص لصالح “التراث الإسرائيلي”!

قصارى القول: إن ثمرة تعاون الدول المغاربية الأربع في هذا الملف ليست أكثر من خطوة عكس اتجاه الأزمات التي تعصف في المنطقة المغربية. وهي على أية حال خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أنها بكل تأكيد ليست كافية. وستجرفها الأحداث السياسية المتعاقبة إن لم تتبعها خطوات أخرى أكثر ثباتاً؛ خطواتٌ تتأسس وفق الواقعية السياسية التي تتطلب استدعاء مصالح تلك الدول لا خلافاتها.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.