وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الانتماء وأن تكون “مواطناً صالحاً” في زمن الحرب

Syrian children
أطفال سوريون يلعبون يوم ٢٦ مايو ٢٠٢٠ في ملعب مؤقت أثناء الاحتفال بعيد الفطر في مدينة بنّش بمحافظة أدلب الشمالية الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة السورية. المصدر: OMAR HAJ KADOUR / AFP.

يزداد مفهوما الهوية والانتماء تعقيداً عندما تعيش في دولةٍ تعاني من ويلات الحرب كما عليه الحال في سوريا.

أن تكون أحد أبناء حي “بابا عمرو” الحمصي سيعرضك قطعاً لخطرٍ كبير على حواجز النظام السوري الأمنية التي كانت تنتشر في مختلف أنحاء مناطق سيطرته للتحقق من هوية الناس وانتماءاتهم السياسية. فهذا الحي الشهير كان سبّاقاً في تنظيم الاحتجاجات الشعبية التي طالبت بالإطاحة بالرئيس بشار الأسد. وفي بابا عمرو، تشكلت الفصائل المسلحة التي خاضت مواجهات عسكرية عنيفة ضد الجيش السوري وانتهت باقتحام الجيش للحي وغيره من أحياء حمص القديمة قبل سنوات على وقع دمارٍ كبير.

أحمد كان أحد أبناء هذا الحي الذين قابلهم المدوّن غسّان عقلة وروى له قصته على أحد الحواجز. هذه القصة وغيرها من القصص التي وقعت في سوريا دفعت غسّان لطرح التساؤلات حول ما يجعل من الإنسان “مواطناً صالحاً” في دولةٍ يبدو فيها الانتماء أو عدم الانتماء لهذا الطرف أو ذاك معضلة حقيقية. فيما يلي نص المدوّنة:

غسان عقله

يقول أحمد. س (46 عاماً) المنحدر من حي بابا عمرو في حمص: (عندما كنت أقف على حواجز مدينة دمشق الأمنية أثناء حصار وقصف حي بابا عمرو عام 2012 تمهيداً لاقتحامه. كان الذهول يعتري كل من يمسك هويتي لفحصها وكأنّها إمّا مزورة أو بها وصمة عار لا يقبل السكوت عنه. لحظات ثقيلة تمرّ علي يستغرقها المسؤول بتقليب نظره بيني وبين هويتي. بعدها وفي معظم الحالات يأتيني السؤال الساذج: “متأكد أنك من بابا عمرو؟!”، وعندما أجيب بـ”نعم”، يطلب إليّ الوقوف جانباً لإجراء فحص أمني مشدد “فيش” يستغرق في المتوسط نحو ساعةٍ من الزمن، وحين يتم التثبت أمنياً من كوني “مواطن صالح”، يعود المسؤول ليؤكد لي استغرابه مستنكراً الإرباك الذي سببته له “لا يبدو عليك أبداً أنك من حي بابا عمرو…!”، أحدهم قال مرّة لزميله وهو يشير إلي: “لم يعد المرء قادراً على تمييزهم…!!”).

“التمييز”! الكلمة “المقصلة” في الحروب الأهلية. سلاح المجرم وحكم برائته. بها يُقتل القانون ومنها يقونن القتل. دوّامةٌ ما إن تسقط بها البلاد حتى تستحيل مقبرةً جماعيةً لكل أشكال الرحمة والتعاطف بين أبناء الهوية الوطنية الواحدة. وإن كان الصراع الأهلي ينطوي عادةً على أشكالٍ واضحةٍ من التمييز العنصري أو الإثني، فإن للحالة السورية خصوصيّةً جعلت التمييز ضبابياً، مشوشاً، ومتغيراً حسب الزمان والمكان. فعلى هذه البقعة تمييزٌ عرقي “كردي، عربي، آشوري..”. وبجوارها ديني “سني، علوي، شيعي..”، وليس بعيداً عن هذه وتلك سياسيّ “مؤيد، معارض”. من هنا، يبدو امتعاض مسؤول الحاجز الأمني “الذي لم يعد قادراً على تمييز معارضيه” مشروعاً في حدود المقتلة السوريّة! فأدوات الفحص بدائية حد العبث؛ أدواتٌ تلعب فيها الغريزة دور “سرير بروكرست” لقياس ولاء الآخر. ولأن الغريزة تخضع لمزاجية صاحبها وأمراضه النفسية وعقده الاجتماعية، فإن العدالة تصبح فكاهة سمجة يلوكها أخرق ويضحك عليها مُضطهد تحت تهديد السلاح. وبهذا تكون مشاهدات من قبيل إجبار ميليشيات موالية للنظام السوري مجموعةً من المدنيين على الهتاف بـ “لا إله إلا بشار” على مرمى حجرٍ من مكانٍ ترتكب فيه “داعش” جريمة “قتل صبيٍّ لأنه شتم الدين”، تكون، رغم تناقضها المؤلم وسورياليتها المدهشة مشاهدات عادية ومملة لا تصلح حتى للعرض في نشرات الأخبار.

وسط كل هذا، يتحول الانتماء في سورية لجماعةٍ دون أخرى إلى لعنة وعبء نفسيّ ثقيل، تحت وطأته يشعر “المواطن” بفقدان توازنه وبارتباكه الاجتماعي. فبعد أن كان انتمائه في الماضي يبرز هويته الوطنية ويغنيها، فإنه اليوم يشوشها ويصيبها بالضياع، هذا إن لم يكن هذا الانتماء سبباً حتى في خسارتها. يختصر “الرئيس السوري” بشار الأسد الهوية السورية في إحدى خطاباته بالقول: “سوريا لمن يدافع عنها أيا كانت جنسيته”، وفحوى قوله – الغني عن الإسهاب بالشرح – إن انتماء أي سوري لمجموعة سياسية تعارض النظام تسقط عنه الهوية السورية! المفارقة هنا أن “الأسد” وسواه – من زعماء الجماعات العرقية والسياسية والدينية المتقاتلة – يتجاهلون أن “المواطن” الذي يتجاذبون انتمائه أصبح اليوم لا منتمياً، وروابطه العاطفية والوجدانية تقطّعت حتى مع جماعته الأصلية التي يفترض انتمائه لها. إن عشر سنوات من الاقتتال العبثي أوجد حالة من الغثيان العاطفي والروحي لدى السوري زاد من حدة شعوره باللا-انتماء وبالتالي الاغتراب عن فاشية الجماعات المتناحرة.

إن كانت مأساة اللامنتمي هي عدم رغبته بأن يكون لا منتمياً، فإن مأساة السوري تتضاعف كونه مجبرٌ على إعلان ولائه وانتمائه المزيفين للجماعات التي يخضع لها، وهذا ما شهدناه ونشهده في مناطق سيطرة “داعش”، النظام أو غيرهم. ولربما تتحول هذه المأساة في يوم ما إلى هوية حقيقية تجمع شظايا شعبٍ مبعثرٍ بين حدي الولاء أو الموت. يقول الروائي السوري خالد خليفة: “لست وحدي لكن كشعب كامل هذه المرة مصاب بالأسى المختلط بكآبة لا قرارة لها. لأول مرة أختبر صفات مشتركة بين شعب كامل، يمكن لمسها ببساطة. الأسى سوري والفرح فعل فردي لا يمثل حتى صاحبه”.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.