غسان عقله
تسترعي الدعوات الموجهة لصناع الدراما العربية بـ”الالتزام” الوقوف مطولاً عندها، خصوصاً أنها تأتي في وقتٍ خفُت فيه بريق تلك الدراما وتصاعدت سهام النقد الموجهة إليها، ما جعل تلك الدعوات تبدو كأنها محاولات رصينة لإعادة ضخ الحياة في قطاعٍ تعثّر قبل خطواتٍ قليلة من تحوله لصناعة حقيقية. فهل حقّاً علّة الدراما العربية تكمن في انحرافها عن خط “الالتزام”؟ أم أنها مجرّد دعواتٍ لإعادتها إلى “بيت طاعة” الأنظمة العربية؟!
في تسعينيات القرن المنصرم، وصل العداء السوري التركي إلى مراحل غير مسبوقة، وامتد ليشمل النزاع على المياه، حيث أقامت تركيا مجموعة سدود كبرى على نهر الفرات، حرمت جارتها سوريا (وبالتالي العراق بلد المصب) من قسم كبير من حصتها منه. كما أنها حجزت مياه نهر الخابور بأكمله حتى توقف تماماً عن الجريان في سوريا. في منتصف ذلك العقد، وتحديداً عام 96، أُنتج مسلسل “إخوة التراب” الذي رصد فترة “الثورة العربية الكبرى” ضد “الاحتلال العثماني”. وجاء المسلسل كتعبير سوري قاس عن العداء تجاه تركيا، ما حمل الأخيرة للاحتجاج عليه والمطالبة بإيقافه، خصوصاً مع ما تضمنه من مشاهد الإعدام باستخدام الخازوق لمناصري تلك الثورة، أو مشاهد التجنيد الإجباري وزج شباب “بلاد الشام” في حروب الدولة العثمانية الشهيرة بـحروب الـ(سفربرلك)!
بعد أربعة عشر عاماً على إنتاج مسلسل “إخوة التراب”، عُرض مسلسل “أهل الراية” بجزئه الثاني (2010) وتناول نفس الحقبة الزمنية للمسلسل الأول، إنما بطريقةٍ مختلفة تماماً. ففي أحد المشاهد يقف بطل العمل “رضا الحر” “الفنان قصي خولي” ويستصرخ نخوة أهل حارته ليلبوا فرمان – أمر- السلطان العثماني بالانضمام إلى صفوف الجيش العثماني لمحاربة أعداء “الخلافة الإسلامية”!
لم يختلف التاريخ بالطبع بين المسلسلين. الذي اختلف فقط هو طبيعة العلاقات السياسية بين نظامي البلدين، ما ألزم الدراما بكلا الحالتين التعبير عن طبيعة تلك العلاقات، وذلك تبعاً لدورها “الوظيفي” المفترض كأداة للتعبير عن المزاج السياسي العام لهذا النظام أو ذاك. هكذا تفهم الأنظمة العربية “الالتزام”! وعلى ضوء هذا الفهم، يتوجب قراءة الدعوات الموجهة لصناع الدراما العربية. فالدعوة هنا ليست أكثر من طلب تقديم أعمال درامية تتبنى رؤية الأنظمة السياسية القائمة خصوصاً بعد “ثورات الربيع العربي”. بكلمات أخرى، أن تتحول الدراما لمحاضرات توجيه سياسي يؤديها الممثل وتدخل كل بيت، بدل أن يلوكها بملل أمين الفرقة الحزبية على أنصار الحزب المحدودين!
لقد نجحت الأنظمة العربية طوال العقود الماضية باستغلال الفن، خصوصاً السينما والمسرح والدراما، بمنتهى الخبث والدهاء. وجعلت منه المتنفس الوحيد للكبت الذي عانت منه الشعوب العربية المغلوبة على عجزها في مواجهة توحش وتغول تلك الأنظمة. يحيلنا ذلك إلى أمثلة مختلفة، لعلّ أبرزها مسرحية “ضيعة تشرين” (1974) للراحل محمد الماغوط والثنائي نهاد قلعي ودريد لحام. وترصد المسرحية هزيمة العرب المدوية لحرب حزيران 1967 أمام “إسرائيل”، وتسخر بمرارة من تسمية الأنظمة العربية لتلك الهزيمة بالـ”نكسة”، ومن ثم تحويلها إلى انتصار بدليل “بقائـها” وعدم سقوطها! عُرضت تلك المسرحية – وسواها – في عقر دور الأنظمة، حتى أن الرئيس الراحل حافظ الأسد حضر بنفسه إحدى تلك المسرحيات – كاسك يا وطن – وصفّق وضحك أكثر من جمهورها الحاضر! إلا أنه وبكل تأكيد صفّق لنجاح المهمة الموكلة لها وضحك على جمهورها المسكين لا معه.
إن مسرحياتٍ من تلك الفئة السياسية لم تكن سوى “ملهاة شعبية” قدمتها الأنظمة؛ مهدئات تمتص غضبه الدفين حتى لا يتحول إلى عنفٍ موجهٍ للأنظمة بصورةٍ مباشرة. بمعنى آخر، هي “كلام فارغ” لا يقدم ولا يؤخر. أمّا الوجبات الفنية السياسيّة الدسمة فقد حُجبت تماماً وأصبح تداولها بين الناس شبيهاً بتداول المنشورات السياسية المعارضة التي تودي بفاعلها إلى الهلاك. خذ مثلاً قصيدة “هوامش على دفتر النكسة” التي كتبها الشاعر الراحل نزار قباني على خلفية هزيمة حزيران نفسها، وتسببت بحجب مجمل كتاباته في مختلف أرجاء الوطن العربي!
وبالطبع، لا يقتصر الحديث فقط على منتوج سوريا الفني، إنما يتعداه لمختلف الدول العربية، التي لعب فيها الفن نفس الأدوار دون أي اختلاف يذكر. ففي مصر مثلاً، أُنتج فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” (1979)، الذي طرح على يد بطليه عادل إمام وعبد المنعم مدبولي قضية التعذيب في السجون خلال الفترة الناصرية – وكأنّ فترتي مبارك والسادات كانتا خاليتان من التعذيب ومن السجون! – وانتهى بتمرّد المعتقلين إثر هزيمة 1967. كما قدّمت مسلسل “رأفت الهجان” الذي تناول زرع المخابرات المصرية لجاسوس مصري داخل إسرائيل. ورغم اعتماد المسلسل على ملف استخباراتي حقيقي إلا أنه من الناحية الدرامية كان عبارةً عن تهويمات متخيلة تزرع الخدر في رؤوس المتابعين، وتحملهم على الفخر بالمخابرات المصرية التي تعمل فيهم اعتقالاً وتعذيباً على أرض الواقع!
لا يمكن بحال من الأحوال الإحاطة بجميع الأعمال الفنية التي تكشف تطويع الأنظمة العربية للفن، وتحديداً الدراما التلفزيونية، وتحويله أداةً لبث الرسائل السياسية أو التحشيد الجماهيري أو تنفيس الكبت الاجتماعي. فهذه الحيلة، بدأت منذ عقود ومستمرة حتى يومنا هذا. لكن قصارى القول في هذا المقام: إن تبني وتغليب الرؤى والأفكار السياسية للأنظمة العربية على حساب القيم الجمالية للدراما وتسمية ذلك “التزاماً” ما هو إلا أحد عوامل أفول نجم الدراما العربية بشكلٍ عام وليس العكس. فهذه الحيلة لم تعد تنطلي على جمهورٍ يمتلك وسائل الاتصال والتواصل الإجتماعي الحديثة.
أمّا عن بقيّة عوامل تراجع تلك الدراما فللحديث بقية..
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.