في حوار شامل مع موقع "المدن"، يقدّم السفير الهولندي السابق، نيكولاس فان دام، تحليلاً عميقاً للتحديات الهائلة والمعقدة التي تواجه النظام الجديد في سوريا.

إيلي الحاج
في حوار شامل مع موقع “المدن”، يقدّم السفير الهولندي السابق، نيكولاس فان دام، تحليلاً عميقاً للتحديات الهائلة والمعقدة التي تواجه النظام الجديد في سوريا. وبصفته خبيراً في الشأن السوري، يرى فان دام أن حل هذه التحديات سيتطلب زمناً طويلاً، حتى لو توافرت النوايا والإمكانات اللازمة.
ويشرح الدبلوماسي المخضرم في الحوار الذي جرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سياسات الدول الإقليمية والغربية تجاه سوريا، متجاوزاً الأسئلة التقليدية ليغوص في قضايا جوهرية: احتمالات تحقيق الاستقرار، الديمقراطية، إمكانية التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل، ومستقبل اللاجئين، بالإضافة إلى أوضاع الأقليات وسبل إعادة بناء الثقة في مجتمع مزقته الحرب، ليختم بتأكيد قاطع لضرورة منع تجدد الحرب “مهما كان الثمن”.
* بصفتك خبيراً في الشأن السوري، هل تعتقد أنّ سوريا اليوم في بداية نهاية الأزمة، أم أنها تواجه مرحلة جديدة وإن كانت مختلفة من الصراع؟
– سيكون صعباً جدّاً على أي حكومة سورية، أياً كان لونها أو تركيبتها أو نيّاتها الحسنة، سواء كانت إسلامية أو علمانية، ديكتاتورية أو ديمقراطية، أن تنهض بسوريا من رماد حرب استمرّت أكثر من ثلاثة عشر عاماً. وبالنظر إلى واقع سوريا اليوم، لا يمكن القول إنّ الصراعات بين مختلف الأطراف السورية، عسكرية كانت أو مدنية أو إثنية أو طائفية، قد انتهت. والسبب ببساطة أنّ الحكومة المركزية في دمشق لم تستعد بعد سيطرتها الكاملة على الأراضي السورية كافة، كما أنّ الحلول الجذرية للكثير من القضايا لم تُطرح بعد.
على سبيل المثال، ما زال الخلاف عالقًا مع “حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD) و”وحدات حماية الشعب” (YPG) ذات الغالبية الكردية، وهما المسيطران على أجزاء من شمال سوريا. وكذلك مسألة البنية السياسية المستقبلية لسوريا: هل ستكون مركزية أم لا مركزية؟ استبدادية أم ديمقراطية (أو شيئاً بينهما)؟ هناك أيضاً موقع الأقليات الدينية مثل العلويين والدروز. ففي أعقاب تولّي الرئيس الانتقالي أحمد الشرع السلطة، ارتُكبت مجازر طائفية دامية، استهدفت خصوصاً أفراد هاتين الطائفتين. والنظام الجديد لم يكسب بعد ثقتهم.
هل ستكون الدولة السورية الجديدة علمانية أم خاضعة لهيمنة القوى والتيارات الإسلامية السنية، والتي قد تتسامح مع وجود المكوّنات الأخرى ولكن من دون الاعتراف الكامل بالمساواة؟ ما هو شكل البنية الاقتصادية المقبلة لسوريا؟… نعم، يمكن القول إنّ سوريا في بداية نهاية الأزمة، لكنها في الوقت نفسه تواجه تحديات هائلة جديدة، قد يحتاج بعضها إلى عقود من الزمن، مثل إعادة الإعمار، تجاوز صدمات ملايين السوريين، وإعادة بناء الثقة المتبادلة بين المواطنين حيثما أمكن. وحتى لو توافرت الأموال والمواد اللازمة، تبقى مشكلة النقص في الأيدي العاملة التي ستقوم بعملية إعادة البناء في المستقبل المنظور. وقد يستغرق الإعمار عقوداً، فيما العيش بين الركام لا يمكن أن يكون وصفة للاستقرار. أما بالنسبة إلى اللاجئين العائدين، فلا بد من تأمين وسائل عيش كافية على شكل فرص عمل ودخل، وهذه أمور شبه معدومة حالياً.
أميركا وإسرائيل لا تهمّهما إلّا مصالحهما
* هل تعتقد أنّ التنازلات التي قدّمها النظام السوري الجديد، في مقابل اعتراف أميركا ودول غربية وعربية أخرى، كافية لضمان استقرار طويل الأمد؟
– أنا مقتنع بأنّ اهتمام أميركا ينصبّ أولاً وأساساً على تحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة، إلى جانب مصالح حليفتها الرئيسية إسرائيل، أكثر من اهتمامها بمصالح النظام السوري الجديد أو الشعب السوري. إذا توافقت مصالح واشنطن وتل أبيب مع مصالح سوريا، فيكون ذلك مقبولاً لديهما، وإذا لم تتوافق، فإنّ أولويّاتهما هي التي ستتقدّم. تريد أميركا وإسرائيل الاستقرار في المنطقة، ولكن بشروطهما وتحت سيطرتهما. صيغة كهذه لا يمكن أن تؤدي إلى استقرار حقيقي أو سلام فعلي أو علاقات صحيّة بين دول المنطقة، لا على المدى القريب ولا البعيد.
رأيي أنّ اعتراف أميركا، والقوى الغربية الأخرى، والدول العربية بالنظام السوري الجديد لا يبدّل هذه الحقيقة جوهريًّا . مع ذلك، اتخذت السلطات السورية خطوات معينة، في إطار القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، وهذه أيضاً من مصلحتها الوطنية. لكن أي تنازلات تمسّ باستقلال سوريا أو سلامة أراضيها—حتى لو جاءت لإرضاء مطالب غربية أو عربية—لن تكون ضمانة للاستقرار الطويل الأمد.
ولو كان الغرب صادقاً فعلاً في رغبته بإعطاء سوريا فرصة حقيقية للتعافي من دمار الحرب، لكان رفع فوراً كل العقوبات من دون استثناء.
السياسات الغربية مزعزعة للاستقرار
* هل يعكس هذا الاعتراف تحوّلاً في أولويات الغرب في اتجاه ضمان استقرار المنطقة؟
– لم تُساهم دول غربية كثيرة في استقرار المنطقة، فضلاً عن تحقيق العدالة، بدعمها لإسرائيل في شكل غير خاضع للنقد. مبدئياً، يجب أن يكون في مصلحة الغرب تعزيز الاستقرار الإقليمي. لكن إذا نظرنا إلى التجارب التاريخية، نرى أنّ السياسات الغربية غالباً ما كانت لها نتائج مزعزعة للاستقرار أكثر منها داعمة له. التدخلات العسكرية الغربية في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا وغيرها—بما فيها تلك التي أعقبت ما سُمّي بـ “الربيع العربي” الدموي—أمثلة صارخة على ذلك.
إذاً، ضمان الاستقرار الإقليمي كثيراً ما يُعلن كهدف غربي، ولكن في التطبيق العملي يسعى إليه الغرب بقدر ما يخدم مصالحه السياسية كما يراها فحسب.
اتفاق لا ينهي الاحتلال لن يؤدي إلى سلام حقيقي
* في ضوء الحديث عن احتمال وجود اتفاق أمني بين إسرائيل والنظام السوري الجديد، كيف يمكن أن يؤثر ذلك في ديناميات المنطقة كلها؟
– إذا أدّى أي ترتيب أمني جديد بين سوريا وإسرائيل إلى إنهاء كامل للاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية، فسوف تكون له انعكاسات إيجابية على ديناميات المنطقة كلها. لكن إذا استمرت إسرائيل – كما هو متوقع- في رفضها الانسحاب الكامل، فستبقى تداعيات هذا الاحتلال سلبية.
إسرائيل، بفضل تفوقها العسكري الساحق وهيمنتها الإقليمية الكاملة، لا تحتاج إلى أراضٍ عربية محتلة لضمان أمنها. فالسلام الحقيقي يمنحها أمناً أكبر بكثير مما تتيحه لها سياسة الاحتلال الدائم والعدوانية العسكرية. بالرغم من ذلك، شنت إسرائيل بعد سقوط الأسد هجمات واسعة النطاق على المنشآت العسكرية السورية، واحتلت مزيداً من الأراضي، بهدف إعادة تشكيل التوازن الاستراتيجي لمصلحتها وجعل سوريا، عملياً، عاجزة عسكرياً في مواجهتها.
* هل تعتقد أنّ مثل هذا الاتفاق قد يحلّ مشكلة الوجود العسكري الأجنبي في سوريا، أم أنّه سيزيدها تعقيداً؟
– لا أعتقد أنّ أي اتفاق سيُبرم بين إسرائيل وسوريا في المستقبل المنظور، إذ إنّ كلا من إسرائيل وأميركا تطالب بمستوى من التبعية السياسية والعسكرية لما تعتبرانه مصالحهما. وأي وجود أجنبي في سوريا لا يؤدي سوى إلى تعقيد الوضع أكثر. مثال واضح على ذلك هو تدخّل إسرائيل أخيراً في شؤون طائفة الموحّدين الدرزية في جبل العرب، ما يوضح كيف يسعى اللاعبون الخارجيون إلى إبقاء سوريا مقسّمة على أسس مناطقية وإثنية وطائفية.
توحيد سوريا مهمّة “شاقّة”
* هل ترى أنّ النظام السوري الجديد قادر فعلاً على توحيد البلاد، أم أنّ الفصائل والمناطق المختلفة ستبقى محتفظة بنفوذها بفعل التدخلات الخارجية والأحقاد الطائفية؟
إعادة “الجنّي” إلى القمقم بعد سنوات طويلة من الفوضى والعنف مهمة شاقة. تحقيق السلام الداخلي في سوريا يتطلّب تفكيك الميليشيات العديدة، والتصدي للفساد المستشري، والابتزاز، والترهيب، وغيرها من المشكلات العميقة الجذور. لم ينجح نظام البعث خلال نصف قرن في تقليص الفساد، جزئياً لأنّ ذلك كان سيعرّض ولاء داعميه الفاسدين للخطر. ومن المرجح أن يواجه النظام الحالي تحدياً مشابهاً.
السلطات الجديدة تتحمل مسؤولية ضخمة: عليها أن تثبت، وبما لا يدع مجالاً للشك، أنّ استيلاءها على السلطة “يستحق” الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون خلال الثورة—أكثر من نصف مليون قتيل، بلد مدمّر، وأكثر من 12 مليون لاجئ—علماً أن الموتى لا صوت لهم في هذا الحساب.
يتطلب نجاح النظام السوري الجديد، من كل بدّ، أن يكسب ثقة مختلف الفصائل والمناطق، فضلاً عن الأقليات الإثنية والدينية. حتى اليوم، أظهرت التجربة السورية نمطاً متكرراً يتمثّل باستبدال ديكتاتورية بأخرى. ومع أنّ سوريا عرفت حكماً استبدادياً تقريباً طوال تاريخها الحديث، فهذا لا يعني أنّ لا وجود لإمكانية جديّة لبناء مجتمع أكثر ديمقراطية، بل إنّ الإمكانية قائمة بالتأكيد. لكن بلوغها يتطلّب توافر دعم عسكري ومدني كافٍ من قوى تريد فعلاً إنجاح هذا الانتقال، وقادرة عليه. حتى اليوم، لم تُظهر هذه القوى القدرة اللازمة، ولا الظروف الاستثنائية أتاحت لها الفرصة لإثباتها.
إسقاط ديكتاتور أو حاكم مستبدّ لا يضمن تلقائياً الانتقال إلى الديمقراطية، فقد يفتح الطريق ببساطة أمام مستبدّ جديد.
مع ذلك، ينبغي إعطاء النظام السوري الجديد كل فرصة ممكنة—داخليًا ومن خلال دعم خارجيّ—لتخطّي التحدّيات الهائلة التي يواجهها، ولقيادة البلاد مع جميع السوريين نحو مستقبل أفضل. وحالياً، لا تكاد توجد بدائل واقعية أخرى.
النظام على المدى الطويل
* إلى أي مدى فاجأك سقوط نظام بشار الأسد؟
– لطالما بدا محتوماً أنّ مقاومة متجددة—أو حتى ثورة جديدة—ضد نظام الرئيس بشار الأسد ستنفجر في نهاية المطاف، حتى لو كان قد قدّم إصلاحات واسعة. ومع ذلك، عندما حدث ذلك فعلاً في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، شكّل الأمر مفاجأة كاملة لي، كما لكثيرين غيري.
المفاجئ أيضاً أنّ إسقاط نظام الأسد لم يحصل على أيدي قوى المعارضة التي تلقت دعماً من الخارج لسنوات طويلة، بل جاء على يد الجماعة الإسلامية “هيئة تحرير الشام” (HTS)، وارثة التنظيم الإسلامي المتشدد “جبهة النصرة”، فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا. وها هي “الهيئة” تقدّم نفسها اليوم كتنظيم تحوّل من حركة جهادية متشددة إلى كيان أكثر براغماتية واعتدالاً—على الأقل إذا أخذنا تصريحات زعيمها أحمد الشرع (المعروف سابقاً باسم أبو محمد الجولاني) على محمل الجدّ.
أما إن كان أفراد الصفوف الأمامية في “هيئة تحرير الشام”، والفصائل التابعة لـ “الجيش الوطني السوري” والمدعومة من تركيا، يتشاركون هذا الاعتدال المزعوم، فتلك مسألة مختلفة تمامًا. وتبقى تبعات هيمنة “هيئة تحرير الشام” على النظام على المدى الطويل غير محسومة. ففي نهاية المطاف، الفوز في الحرب لا يعني الفوز تلقائيًّا في معركة السلام.
في أي حال، يجب منع اندلاع حرب جديدة مهما كان الثمن.
(*) نيكولاس فان دام سفير هولندي سابق لدى العراق ومصر وتركيا وألمانيا وإندونيسيا، ومبعوث خاص إلى سوريا. عمل دبلوماسياً في لبنان والأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة وليبيا. مؤلف كتابَي “الصراع على السلطة في سوريا” و”تدمير وطن. الحرب الأهلية في سوريا”.
أبرز مؤلفاته:
الصراع على السلطة في سوريا، الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة: يعتبر هذا الكتاب من أبرز المراجع في درس النظام السياسي السوري، يشرح فيه دور العوامل الطائفية والعشائرية والإقليمية في تشكيل الصراع على السلطة.
تدمير وطن، الحرب الأهلية في سوريا: صدر باللغتين العربية والإنكليزية، يحلل فيه جذور الأزمة السورية وتطوراتها.
هولندا والعالم العربي من القرون الوسطى حتى القرن العشرين.
يتقن اللغة العربية بطلاقة، إلى لغته الأم الهولندية واللغة الإنكليزية.
ملاحظة
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.
ملاحظة
تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع https://www.almodon.com/ في 26 سبتمبر 2025

