وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الملصقات المشوهة وروح الاختلاف الصامتة في مصر

Mohamed Morsi
ملصق بوستر ممزّق للمرشح الرئاسي المصري محمد مرسي معلّق على إحدى نوافذ ساحة التحرير يوم ١ يونيو ٢٠١٢، وذلك قبل أسبوعين من مواجهة مرشح حركة الإخوان المسلمين لرئيس الوزراء السابق أحمد شفيق في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المصرية يوم ١٦/١٧ يونيو من نفس العام. المصدر: Mohammed ABED / AFP.

نشر موقع “Open Democracy” مقالةً سلطت الضوء على الأبعاد الاجتماعية والأنثروبولوجية لظاهرة الملصقات الممزقة على جدران شوارع القاهرة وتعامل الدولة مع الجداريات. وترى صاحبة المقالة نورة آدم، وهي باحثةٌ مختصة في أنثروبولوجيا الوسائل المرئية، أن الصراع ما بين الأطراف الشعبية والشخصيات السياسية يتمثل في تمزيق الملصقات الانتخابية الدعائية الخاصة بالمرشحين. وتحاول آدم في مقالتها النظر إلى هذه الظاهرة باعتبارها جزءاً من بروز الفن العام والثقافة المرئية التي تتحدى الصورة الوطنية للدولة وفضائها العام.

وتبدأ آدم مقالتها بالتالي: “لطالما اعتادت خالتي تكرار جملةٍ معينة لتذكّر طفولتها المضطربة في بيئةٍ منزلية خانقة. هذه الجملة كانت كالتالي: “لجأت لاستخدام جميع الأساليب الكفيلة بتجنّب إصابتي بالجنون. وكان أحد أكثر هذه الأساليب فعالية هو تمزيق حزمةٍ من الورق اعتادت خالتي أسفل سريرها. وبقيت صورة الفتاة الصغيرة التي تنفّس عن غضبها عالقةً في ذاكرتي، وهو ما قد يفسّر سبب انجذابي القوي إلى جدران القاهرة الحافلة بملصقاتٍ ممزّقة تعود إلى حملاتٍ انتخاباتٍ متتالية. كما قادني اختفاء الملصقات المتزايد إلى التأمل في الذاكرة الجمعية، ناهيك عن التأمّل فيما أحدثه مرور الزمن من تغييرٍ سريع ودائم على مستوى الرأي العام المصري. كما أنّني وجدّت في هذه الملصقات الممزقة صدى الذكريات الأليمة عن الثورة كما لو أنّي وجدت نسيجاً لصورٍ عابرة يتعذر تذكرها”.

وتضيف آدم: “أدهشني مشهدٌ آخر مميز، وهو تحوّل الملصقات الممزقة إلى مجرد عينين وأذنين وكأنها مجازٌ حي لمدينةٍ تطاردها الرقابة الحكومية الدائمة، لتفصح هذه البقايا بشكلٍ كامل عن جنون الارتياب، لدرجة أن الجدارن باتت وكأنّها تنصت وتسمع وتراقب”.

وتتابع آدم: “إلا أن الأهم يتمثل في تشبّع هذه الملصقات بعلاماتٍ عابرة لفعلٍ متجسّد، فهي مفعمةٌ بالعاطفة وغياب التفاصيل واختفائها، ناهيك عن كشفها لحالة التبدل الحاصلة وما يعتري الناس من حنينٍ إلى الماضي. وهنا، فإنني أربط بين كلّ هذا وبين إحباط خالتي المكتوم وبين حقبةٍ من الغضب الصامت والمستتر تحت سطحٍ يبدو هادئاً رغم اشتداد الأزمة السياسية والاقتصادية في البلاد”.

فما الذي يخفيه هذا السطح المتصدع والمتآكل من حكايات؟

هذا هو السؤال الذي دفع آدم إلى كتابة هذه المقالة العاطفية والتحليلية لاستكشاف ما تحويه ملصقات الحملات الانتخابية التي لا يمكن قراءتها إلا عبر ما تحظى به من علاقةٍ بسيرورة السياقين العام والسياسي. وتكشف هذه الملصقات عن نفسها كساحةٍ لمعركة أخرى تم خوضها على مستوى الصور العامة، ناهيك عن الصراع على ملكية الشارع، ومسح الذاكرة الجمعية.

إلا أن هذا الافتراض ينطوي على خطر الإفراط في تسطيح مجموعةٍ كبيرة من الفاعلين والأحداث التي تسببت في انتشارها وتمزقها.

وتقول آدم: “في الحقيقة، وكما سأناقش لاحقاً في هذا المقال، لم يحمل إلا عددٌ قليل للغاية من الملصقات التي وثّقتها علاماتٍ واضحة على التخريب بدوافعٍ سياسية، كما أن عدم علمنا القاطع بشأن الحوادث والنوايا الفردية يبقي العديد من الأسئلة دون إجابة”.

ومع ذلك، فإن وجوه الشخصيات السياسية الممزقة على الجدران تحمل في طياتها رسالةً هامة، إذ تتعارض الصور المشوهة لهؤلاء مع ما تسعى الحملات السياسية إلى ترويجه من صورةٍ أيقونية، ناهيك عن أن الصور المشوّهة تقلب المعنى الأصلي لهذه الصورة الأيقونية. فالصراع اللافت للأنظار بين المرشحين من خلال الوقفات والملصقات العظيمة ذبل وتشوّه ولُطِّخ، وهو ما يمثّل صورتهم العامة وقد تجردت من النفوذ والكبرياء، وكلّ ذلك يعبّر عن تحدٍّ رمزي لشرعية شخصيتهم العامة وطهرها ونقائها.

ويمكن اعتبار هذا التحدي الواضح أحد الأسباب التي أدّت إلى إزالة العديد من الملصقات بشكلٍ كامل تقريباً من جدران وسط القاهرة في أوائل عام 2015. لكننا ما نزال نراها في المناطق منخفضة الدخل على أطراف وسط المدينة، وفي معظم مدن صعيد مصر والدلتا. لهذا، نقول إنّ علاقة خاصة تربط الثقافة السياسية المرئية في الفضاء العام بالتاريخ المصري الحديث.

Ahmed Shafiq
صورة للمرشح الرئاسي أحمد شفيق معلّقة على أحد المباني الموجودة في القاهرة يوم ١٧ يونيو ٢٠١٢. المصدر: PATRICK BAZ / AFP.

وبحسب ما تقوله كاثرين ناش، فإن ما اعترى الجغرافية البشرية من “انتقالٍ جوهري من النص إلى الأداء والممارسات” أدى إلى اهتمامٍ متزايد للاعتراف بالتمثلات المعاشة والمرئية في الحياة اليومية والتي تتجاوز التعبير اللفظي. وتظهر الأهمية الخاصة لهذا النهج عندما يعجز النقد المنطوق والمكتوب في مصر عن تمثيل واقع المناخ السياسي العام. وتزداد أهمية هذا الطرح في وقتٍ يجري فيه تكميم أفواه الناقدين ولا يسمح فيه الخوف العام من النقاشات السياسية بأي مجالٍ للنقد. وفي مثل هذا السياق، تعبّر التمثّلات المرئية بشكلٍ أدق عن المعاناة التي نخفق في الاستماع إليها. وعلى هذا النحو، فإن هذه التمثّلات تسجّل عبر القنوات التعبيرية والمرئية أنماطاً غير لغوية من التعبير المجتمعي.

وهنا لا بد من الإشارة إلى إعادة الثورة المصرية تنظيم الثقافة العامة المرئية في الشوارع. فتعدّد الصور والآراء وبروز الفن العام والثقافة المرئية يتحدى الصورة المعدّة بعنايةٍ فائقة عن “وطنية” الدولة وفضائها العام المتنازع عليه. وكما يرى عالم الأنثروبولوجيا المرئية مارك ويستمورلاند، فإن “الثورة كانت تخريباً لأيقونة الصورة المصرية بقدر ما كانت إطاحة للحكومة”.

وفي هذا السياق، خرجت إلى العلن مجموعةٌ مهمة من الثقافات المضادة تتسم بالطابع المرئي، والأدائي، والحركي، والعاطفي، لتجد طريقها إلى الجمهور في شكل فن الشارع، والجداريات، والتصوير الفوتوغرافي، والفيديو، وعروض الأفلام في الهواء الطلق. وكان ما فتن العامة والباحثين على حدٍّ سواء هو التفاعل الفوري الذي حدث في الشوارع ليكون هذا الأمر بمثابة تفاوضٍ مباشر مع المناخ السياسي المعاش.

وكانت الدولة قد شنّت على مدار السنوات الأربعة الماضية حملة قمعٍ ضد استغلال الفضاء العام للتعبير عن الرأي المعارض، ما دفع الثقافة المرئية المسيّسة إلى خلفية المشهد وحصر مساحة التأثير السياسي المباشر. وعلى هذا النحو، انتقلت معالم الثورة (أو ما تبقى منها) رغماً عنها من الشارع إلى الفضاء الخاص أو إلى الساحة الافتراضية، إذ تستفيد السخرية الإلكترونية وصور الميمات الساخرة من السيسي بطريقةٍ فاعلة من رمادية السخرية وبما يكفل إثارة نقاشاتٍ تبدو بسيطةً لكنها حساسة. ووسط استمرار أساليب نشر الأفكار الناقدة عبر الصورة في الأفلام والتصوير الفوتوغرافي ومواقع التواصل الاجتماعي، فإن العديد من الثقافات المرئية المضادة تبدو وكأنها فقدت لحظيتها العاطفية والتكرارية والمادية. بل إن الكثير من الأعمال الفنية والصور المنتجة تعرّض مؤخراً لهجرةٍ داخلية.

ومع ذلك، ما تزال الملصقات الممزقة تحتفظ بخصائص فعلٍ متجسد، لتذكرنا بثقافةٍ مضادة مرئية يندر وجودها الآن في شوارع القاهرة. ويكفي المرء الإمعان في النظر لمعرفة أنها عابرة، ودنيوية، ومشحونة بالعواطف، وفي صيرورةٍ مستمرة، بالضبط كما كانت الجداريات التي رُسمت في ميدان التحرير بين عامي 2011 و2012.

وتقول هنا آدم: “نما شغفي بالملصقات على إثر جولاتي المتكررة صباح أيام الجمعة من عام 2013. وبصورةٍ مماثلة للآخرين، فقد اهتممت في هذه الفترة بتوثيق ما بدا أنه زائل. ووجدت أن الملصقات التي أبحث عنها قد تعرّضت للتشويه، وأُلصقت فوقها ملصقات أخرى، وتآكلت، لتختفي بالكامل في نهاية المطاف. ويشير اختفاء ملصقات أعوام 2011 و2012 و2013 إلى ضياع ما كانت تزخر به جدران وسط المدينة من تنوعٍ سياسي بحلول عام 2016، وكان السبب في ذلك ما بذلته الدولة من جهودٍ مضنية لمحو الماضي السياسي المتنازع عليه”.

وتضيف آدم: “حينذاك، كانت وسائل توثيقي مرادفاً للتغيرات الكثيرة التي طرأت على هذه الأسطح الفوضوية. وخضعت الظروف التي سمحت للناس بالتقاط الصور في الأماكن العامة للقيود ذاتها التي عجّلت باختفاء الجداريات والثقافة المرئية من الشوارع، لتُزال بذلك كل علامات ممارسة السياسة في الفضاء العام. وتبع تنصيب الرئيس السيسي معاناة الكاميرات من حالة ارتيابٍ كبيرة، ما جعلني أبكّر فيما كنت أقوم به من نزهات، ناهيك عن التقاط عددٍ أقل من الصور والضغط بسرعةٍ أكبر على محدّد إضاءة الكاميرا واستخدام أجهزة أصغر حجماً لالتقاط الصور”.

Presidential Palace in Cairo
جنديان مصريان يقفان أمام لوحة غرافيتي تم رسمها على جدران القصر الرئاسي في القاهرة يوم ١١ ديسمبر ٢٠١٢. المصدر: AFP PHOTO/MARCO LONGARI.

وتقول صاحبة المقالة: “لكنني عجزت عن الامتناع عن التفكير في الدوافع الجمالية الكامنة وراء هذه الملصقات ذات الطابع السياسي، لا سيّما تطوّرها لحياةٍ خاصة بها: فهذا النسيج الممزق مفعمٌ بتحركات الناس وعواطفهم وبمرور الزمن. وتتعرض هذه الملصقات لتعاملاتٍ سريعة واستجاباتٍ متنافسة من المارة المجهولين، ويحدث كلّ ذلك في بيئةٍ سريعة الوتيرة وعلى جدران مدينةٍ ملوثة ومزدحمة. ويوحي تمزّق هذه الملصقات بجماليةٍ مضادة لمقاصد المرشحين المباشرة والمتناظرة والساكنة، لا سيّما وأن أشكالهم الجامدة والبطولية، التي تكاد تشبه التماثيل، تعطي انطباعاً بأن المكان يعيش في حالة استقرار لا تغيير”.

ومن المفارقة أن الوقت والآثار المترتبة على طبيعة مدينةٍ لا يمكن السيطرة عليها نفسها قد لطخت أسطحها الباهتة. فهي في حالة تحوّلٍ دائمة وبطريقةٍ مشابهة لما أشار إليه سريديب باتاشاريا حول ما تعيشه الهند من حالة تدهور وما تعانيه هذه الدولة من هجران على المشهد الصناعي، حيث قال: “إن هذين العاملين يفقدان هويتيهما المادية المتميزة”، مشيراً إلى “تقلّب الأوضاع المعيارية للحركة والرؤية والترتيب والنظام” ضمن هذه العملية.

وجرت العادة على أن تتواجد الملصقات وسط مشهدٍ حضري مزدحم ملوّث وصعب. ولا يطرح هذا المشهد التساؤلات حول إمكانية استمرار المطالب السياسية أحادية البعد والطامحة للاستقرار والأمن والتنبؤ بما هو قادم فحسب، بل أن هذا المشهد يزيد من تعقيد هذه التساؤلات. ويقدّم كل ملصق دراما من التعقيد والغموض تتناقض بشدّة مع قصده الأصلي. وكما يرى نيك دينيس في “مقاييس السكون والحركة: الملصق في سينما الثورة الفلسطينية”، فإن الملصقات التي أُعيد تشكيلها تبقى في حالة تفاوضٍ مستمرة مع ما يحيط بها من تاريخٍ حافل.

وبحسب ما تمّ تنفيذه من أبحاثٍ حول الحملات السياسية، فإن الدور الأهم للملصقات يكمن في إرساء السياسيين لسيطرةٍ مكانية على شوارع ومناطق بأكملها. أي أن ما يحدث هو استصلاح للأماكن العامة. لهذا السبب، يمكن قراءة التدمير المخطط لها باعتباره استعادة للسيطرة على الشوارع من قبل جماهيرها. وتشكّل ثنائية الألفة المرسومة على وجوه المرشحين والجهل بهوية المهاجمين في الشوارع تجسيداً لمعركةٍ مكانية تم خوضها على مستوى الفضاء العام وملكيته.

وتحتوي الوجوه الممزقة على تلك اللحظية المتجسدة التي رأيناها في عام 2011، كما يتماشى نسيجها بالضبط مع ما يطارد العديد من المصريين مع ذكرياتٍ باهتة. ويشير اختفاء الوجوه الممزقة إلى حالة الركود في البنية التحتية السياسية ذات البعد الأحادي والتي فقدت الاتصال بالشارع. وتنافس الوجوه الباهتة الروايات المشبّعة والسائدة للسرد السياسي الشائع، مؤكدةً في الوقت نفسه على صورةٍ أكثر تعقيداً وتطوراً وهي: أن هذه الملصقات تولّد سلسلةً متصلة لواقع قصير العمر وذي حياةٍ أخروية خاصة به.

وتقوم المعارك التي تم شنّها للسيطرة على الفضاء العام بتسليط الضوء على البعد التوليدي للثقافة السياسية البصرية. في المقابل، ما تزال الملصقات قطعاً أثرية حيوية ضمن أركيولوجيا الثقافة السياسية، لا سيما في هذه اللحظة التي تعيشها مصر في الوقت الراهن وتجتمع فيها توترات مرور الوقت والركود الواضح، وذلك في تناقضٍ حاد مع ما يشكّل مصر اليوم ممّا يُزعم من تحوّلٍ سريع.

وتنقسم أنواع التشويه التي أثّرت على الملصقات الفردية إلى أربع فئاتٍ ملحوظة وهي: توجه الدولة، إذ اهتمت هذه الأخيرة بإزالة ملصقات الحملات في المناطق المركزية (لكن هذا لم يطل كل الملصقات)؛ وسخريةٌ ذات دوافع سياسية وتتمثل في عمليات تشويهٍ مماثلة لخدش العينين أو الرسم على الملصقات أو رشها بموادٍ معينة بفعل أفراد مجهولين أو جماعات معارضة؛ وإزالة الملصقات من قبل السكان أو أصحاب المتاجر الذين يشغلون المباني؛ وأخيراً الاضمحلال الاعتيادي حيث تترك الملصقات آثارها وراءها بمرور الوقت.

Hamdeen Sabbahi
مصري يقود درّاجة هوائية بالقرب من ملصقات للمرشح الرئاسي اليساري حمدين صباحي وقائد الجيش السابق والمرشح الرئاسي الأبرز عبد الفتاح السيسي في بلدة دكرنس بالقرب من مدينة المنصورة وعلى بعد حوالي ١٢٠ كيلومتراً شمال القاهرة يوم ١٥ مايو ٢٠١٤. المصدر: KHALED DESOUKI / AFP.

وتقول آدم: “يعود العديد (وليس جميع) الملصقات التي تمكنت من الاحتفاظ بها على مدار السنوات الماضية إلى الفترة السياسية النابضة بين عامي 2011 و2014، عندما كان النقاش السياسي الشامل حيّاً في الشوارع. وكانت ملصقات الحملات الانتخابية الخاصة بالانتخابات البرلمانية في 2011 والانتخابات الرئاسية في 2012 مركّزة إلى حد كبير في وسط القاهرة، ثم مُحيت في عامي 2016 و2017 بعد انتخاب السيسي. وقد حدث ذلك ضمن جهودٍ حثيثة بذلتها السلطات لاستعادة السيطرة على الفضاء العام وفصله بصرياً عن ماضيها السياسي”.

وبدا من الضروري محو الظهور العلني القوي لقيادات الإخوان المسلمين والحزب السلفي من جدران المدينة، علماً بأنّ العديد من قيادات هذين الحزبين كانت تمتلك ميزانياتٍ ضخمة للحملات الانتخابية. ووُزّعت العديد من الملصقات التي تحمل وجوهاً ملتحية (وغير ملتحية) على نطاقٍ واسع خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية، علماً بأن بعض هذه الملصقات غطّى واجهات منازل بأكملها.

وشهدت السنوات الأخيرة حظر غالبية الأحزاب السياسية واعتقال بعض أعضائها. وعلى هذا النحو، بات من الصعب تخيل وجود هذا المشهد المرئي في مدينةٍ يُنظر فيها إلى جماعة الإخوان المسلمين كجماعةٍ إرهابية. وعلى الرغم من إعادة طلاء عشرات الواجهات من المباني التاريخية في وسط المدينة التي هي قلب المشهد السياسي في القاهرة، إلا أن العديد من الجدران ما يزال يحمل بقايا الورق والغراء والقصاصات لتذكّرنا بما ضاع من فرص. وتقول صاحبة المقالة: “في العامين الماضيين، كان عليّ أن أجتهد أكثر في البحث، لتخرج جولاتي عن حدود وسط المدينة إلى السيدة زينب، والعتبة، وعابدين، وإمبابة، إذ ما تزال الشوارع الجانبية تحمل ملصقاتٍ متآكلة تعود إلى عهد مبارك. ويبدو جليّاً أن إزالة السلطات المنهجية للملصقات ركزت على الأحياء المركزية والأكثر ثراءً وليس الأحياء الشعبية”.

ورغم تناول العديد من الباحثين لحالة التشابك المستمرة بين وسائل التواصل الاجتماعي وسياسة الشارع، فإنه لا يمكن استغراب اقتصار إمكانية العثور على ما حملته جدران القاهرة من لحظةٍ تعدّدية سياسية نسبية بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٣ على موقع “يوتيوب”. وتقوم مجموعةٌ واسعة من الناخبين، وليس جميعهم على درايةٍ كافية بمواقع التواصل الاجتماعي، باستخدام الانترنت بطريقةٍ متنامية كأداةٍ سياسية للترويج للمرشحين أو التشهير بهم، مما يؤكد على الاختلافات الحادة بين ذلك الوقت والآن. ويقوم مقطعٌ مصوّر لصحيفة “المصري اليوم”، وهي إحدى أبرز الصحف المملوكة للدولة، بعرض بعض النكات الساخرة التي أُطلقت تعليقاً على حملة الدعاية ذات التمويل الكبير للمرشح حازم أبو إسماعيل والذي وزعت ملصقاته على نطاقٍ واسع وغطت واجهاتٍ كاملة. وأثار ذلك موجةً من صور الميم والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي: فقد بعض صور هذه الحملة ملصقةً على القمر بدلاً من علم الولايات المتحدة، أو في لوحة العشاء الأخير لدافنشي. وتجدر الإشارة هنا إلى تمتّع هذا النوع من السخرية على الإنترنت بشعبيةٍ كبيرة منذ انطلاق الثورة المصرية وحتى هذه اللحظة.

ويظهر مقطع فيديو آخر مجموعةً من الأشخاص وهم يشوهون ملصق الرئيس السابق محمد مرسي ويضربونه بأحذيتهم ويخدشون عينيه. وتظهر قناةٌ أخرى على موقع يوتيوب شخصاً مقنعاً أثناء تمزيقه لملصقاتٍ تحمل صورة مرسي بسكين في الصباح الباكر. وهنا يبقى الوجه مختفياً: ليلتقي من جديد المواطن المجهول دائم الحضور في الشوارع بالشخصية العامة.

هذا النوع من التفاعلات بين سياسات الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي أمرٌ حتمي، وكما ذكر صامولي شيلكه في مقاله عن الكتابات على جدران الإسكندرية: فإن للجدران الحقيقية صدى رمزياً يصل إلى الجدران الافتراضية لوسائل التواصل الاجتماعي. وتجسّد الساحة الافتراضية ذلك التواصل الخطابي مع جمهورٍ يتفاوض على سياسات الشارع بما يتجاوز حدوده الزمنية والمكانية.

وبحسب أحد المقاطع المصوّرة لقناة الجزيرة، فقد شهدت الانتخابات البرلمانية التي تم تنظيمها عام ٢٠١١ مشاركة 5720 مرشحاً. وغطت الصور الملونة جدراناً كاملة حتى كادت واجهات وسط المدينة تختفي. إلا أننا اليوم لا نرى إلا النذر اليسير من هذه الصور. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ملصقات الانتخابات البرلمانية ما زالت تتمتع حتى هذه اللحظة بحضورٍ أكبر كما أنها تعرّضت لحجمٍ أقل من الضرر.

ويمكن القول إن أبرز الملصقات كانت تلك الخاصة بالحملة الرئاسية لعام 2013، إلا أنه من الصعب العثور على هذه الملصقات في الوقت الراهن.

Sisi egypt
رجلٌ مصري يحمل ملصق كتب عليه: “صوّت معنا… الآن… الآن” خارج أحد مراكز التصويت أثناء اليوم الثالث من الاستفتاء على التعديلات الدستورية في إحدى مدارس قرية شمّة في محافظة المنوفية شمال النيل يوم ٢٢ إبريل ٢٠١٩. المصدر: Mohamed el-Shahed / AFP.

وهنا تقول آدم: “تعود أحدث الملصقات التي استرجعتها إلى حملات السيسي الانتخابية الأخيرة. وتعرّضت معظم الملصقات الورقية القليلة بحجم A3 لضررٍ كبير. وتحثّ ملصقاتٌ أخرى، وهي ما تزال منتشرة حتى يومنا هذا، على ضرورة التصويت في الانتخابات، علماً بأن بعض هذه الملصقات يبرز تحالف الجيش السياسي مع المحتجين في الميدان. ووُزّعت هذه الملصقات الأصغر على نطاق واسع بين عامي 2012 و2013، وهي تعبّر عن سعي الجيش إلى التقرب من الحركة الشعبية وإثارة المشاعر ضد جماعة الإخوان المسلمين بعد انتخاب محمد مرسي رئيساً في عام 2013”.

وشهدت السنوات الأخيرة تقلّص المساحة المخصصة للتعبير السياسي، وهو ما أدى إلى انخفاض عدد الملصقات السياسية المنتجة والموزعة منذ إطاحة الرئيس محمد مرسي.
وتقول صاحبة المقالة: “هنا لا بد من الإشارة إلى أن حملة السيسي الانتخابية الأخيرة تميّزت بلافتاتٍ بلاستيكية كبيرة تم إعدادها بالتعاون مع أصحاب المتاجر ورجال الأعمال لتكون بعيدة عن متناول المارة. وفي الوقت الذي انخفض فيه عدد الملصقات الورقية بشكلٍ كبير في حملته الأخيرة، إلا أنني تمكنت من العثور على بعض الملصقات الورقية بحجم A3 في الزمالك والعتبة”.

وتعرض العدد القليل من الملصقات الورقية A3 التي وُزّعت خلال انتخابات هذا العام لهجومٍ شديد من الجمهور. ومُزّق العديد منها أو شُوه أو خُدش. ويشير هذا الأمر إلى أن تخفيض عدد الملصقات الورقية يهدف بصورةٍ جزئية إلى تجنّب نقد الجمهور وتقييد قدرته على فرض “وجهات نظره ورؤيته” على صور الحملة المعروضة.

وعمدت الحملات الانتخابية عبر تخفيض عدد الملصقات الورقية إلى تقييد قدرة الشارع فيما يتعلق باستعادة نفوذه على صورة المرشح العامة والسياسية. وتشير استراتيجية هذه الحملة إلى الخوف من ردود الفعل المضادة. وفي الوقت الذي يعتبر فيه الملصق وسيلةً دارجةً للدعاية السياسية ولا ترفع نفسها عن مستوى مشاهديها وتنغمس بعمق في مشهدها الحضري، فإن اللافتات المعلقة، وقد تمّ اللجوء إليها بشكلٍ كبير في عهد مبارك، تقدمت أكثر خلال انتخابات السيسي الأخيرة وهيمنت على الساحة والشوارع، لتتجاوز بذلك المنافسة السياسية نفسها.

ويلزم لتحدي صور بهذا الحجم المفرط والمهيب والمخيف كذلك ردّ فعلٍ جريء للغاية. وتعكس السلطة القوية التي تكمن في تحديد موقع هذه الدعاية وأبعادها صورةً سياسية أكبر تشي بطبيعة العلاقة المهيمنة بين الدولة والفضاء العام. فحيثما وليت وجهك سيظهر أمامك طابع هذه العلاقة، فهذه هي حقيقتها وهي لن تتغير. وتعبر محاولات الدولة العنيفة لإعادة احتلال الفضاء العام عن قطيعةٍ واضحة مع الماضي الثوري.

ومع ذلك، فإن الملصقات الورقية القليلة التي كانت معلّقة على مستوى العين في الانتخابات الأخيرة، وكذلك الملصقات من الحملات السابقة، أثبتت وجود هدفٍ واحد ومتكرر: إذ تم تمزيق عيون المرشحين مراراً وتكراراً على الملصقات.

وتكشف هذه التكتيكات عن رغبةٍ في تعمية “الدولة الحاضرة في كل مكان، والمراقبة دائماً”، أو في الانتقام لمئات المحتجين الذين فقدوا بصرهم في مظاهراتٍ عنيفة وذلك في إطار معركة الدولة ضد أشرس مراقبيها. وفي هذا السياق بالذات، لا بد وأن نذكر أن فقدان البصر رمزياً أو مادياً بات جزءاً من التاريخ السياسي المصري. وقد تؤكّد بعض الملصقات فقدان سياسات المساحات والبصر. ومع ذلك، فإن عدم الجزم بحقيقة النيات الأخرى التي يمكن أن تكون متضمنة في فعل التمزيق يجعل اليقين موضع تساؤل.

وتختم آدم مقالتها بالتالي: “لا تعدو الملصقات عن كونها أحد الأمثلة على العديد من الآثار التي جعلت المساحات الحضرية أشبه بالمتاحف. إن هذه الملصقات الممزقة تظهر ذاكرتي الفوضوية في مخيلتي وربما في مخيلات آخرين، ويخيّل لي كما لو كنت أبحث في مرآةٍ مقلوبة أرى فيها الماضي ينهار في الوقت الحاضر. إنها تذكرني برغبتي في تمزيق الماضي ووضع ملصق آخر فوقه”.

“الآراء الواردة في هذه المقالة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر فنك”.