وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المنطقة العازلة على الحدود السورية: ما هو سبب الهوس التركي؟

Turkish military syria
قافلة عسكرية أمريكية تشارك في دورية مشتركة مع القوات التركية في قرية الحشيشية السورية على مشارف بلدة تل أبيض على طول الحدود التركية، في 8 سبتمبر 2019. Photo: Delil SOULEIMAN / AFP

في سبتمبر 2019، بدأت القوات الأمريكية والتركية تسيير دورياتٍ في “المنطقة العازلة” على طول الحدود التركية السورية، تحقيقاً لهدفٍ سياسي طويل الأجل لأنقرة. فقد دعت تركيا إلى إقامة منطقةٍ عازلة على حدودها الجنوبية طوال فترة النزاع في سوريا تقريباً، واستمرت في السعي نحو تحقيق الفكرة لفترةٍ طويلة بعد أن رفضت واشنطن وبعض حلفائها الغربيين فرض منطقة حظر للطيران في سوريا باعتبارها عملية صعبة للغاية. كما تبددت جدوى إنشاء مثل هذه المنطقة بحراسةٍ من الطائرات الغربية بمجرد التزام روسيا بنشر قواتها في سوريا عام 2015. إذاً، ما سبب هذا الهوس التركي؟

لا يكمن الجواب في اللاجئين الذين كان من المفترض أن ينتقلوا إلى المنطقة العازلة، بل بالسكان الأصليين في جزءٍ كبير من المنطقة الحدودية: الأكراد. فمنذ ستينيات القرن الماضي، شنت تركيا حرب عصابات منخفضة الحدة ضد الجماعات الكردية المسلحة، وأهمها حزب العمال الكردستاني. وعلى الرغم من أن الصراع أحادي الجانب إلى حدٍ كبير، بالنظر إلى هيمنة تركيا العسكرية، إلا أن قدرة مقاتلي حزب العمال الكردستاني على التسلل عبر الحدود إلى تركيا والعراق قد أعاقت الجهود التركية لسحق الجماعة. كما أن دعم الدولة السورية لحزب العمال الكردستاني خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي سمح للمسلحين بتأسيس وجودٍ دائم في الشمال الكردي في سوريا. وكما هو الحال مع معظم الحدود، لطالما كان يسهل اختراقها، مما يسمح بتهريب سلع السوق السوداء، فضلاً عن الأسلحة. وعلى مدى عقود، انخرطت تركيا في حملاتٍ عسكرية في العراق لضرب مواقع حزب العمال الكردستاني، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك في شمال سوريا برعايتها غزو 2018 لمنطقة عفرين، التي كانت تحت سيطرة لأكراد آنذاك، ليصبح للقوات التي تدعمها أنقرة موطىء قدم هناك.

لا توفر المنطقة العازلة على طول الحدود خطاً أحمر فحسب للنشاط العسكري الكردي، فدون أدنى شك سيحرص الأتراك على مراقبتها بمجموعة طائراتهم المتقدمة والمركبات الجوية غير المأهولة المنتجة محلياً. كما ستوفر منطقة عزلٍ محددة بوضوح لعناصر حزب العمال الكردستاني المتمركزة أو العاملة في تركيا. ومن الناحية النظرية، فإن تعيين منطقة حظرٍ عسكرية مثل المنطقة العازلة سيسمح لأنقرة بقطع الإمدادات عن مقاتلي حزب العمال الكردستاني داخل تركيا. في الواقع، لا يحتاجون إلى خطوط إمداد معقدة، إذ يمتلك حزب العمال الكردستاني القدرة على دمج نفسه بين السكان المدنيين، كما أن احتياجاته المادية محدودة خارج نطاق المواد الغذائية والإمدادات اليومية المشتراة محلياً (نادراً ما يقاتل حزب العمال الكردستاني في تركيا بالأسلحة الثقيلة ويُخفي الأسلحة الخفيفة في التلال والبلدات). ومع ذلك، سعت تركيا إلى إنشاء منطقةٍ عازلة، التي يفترض أنها وسيلة لممارسة ضغطٍ إضافي على الجماعات المسلحة الكردية في سوريا ومحاولة منع حركة الأسلحة (الإمدادات الجديدة من القوات الأمريكية) من التسلل إلى تركيا. هناك بالفعل أدلة على أن الصواريخ الأمريكية الصنع التي قدمت للقوات العراقية قد وجدت طريقها إلى المنطقة الحدودية السورية التركية.

جهدٌ شاق

في الأصل، تم طلب إنشاء منطقةٍ عازلة، ظاهرياً، لأسبابٍ إنسانية. فمنذ عام 2011، استقبلت تركيا لاجئين سوريين أكثر من أي بلدٍ آخر، حيث يقدر عددهم بنحو 3,6 مليون نسمة. وعليه، اندلعت التوترات بين الأتراك والسوريين عدة مرات، وما زالت تتصاعد حدتها في بعض المناطق. ومع ذلك، يبدو أن الدعوة إلى إنشاء منطقة عازلة كانت محاولة مُقنعة إلى حدٍ بعيد لتعزيز الأمن الداخلي ولأهداف سياسية من خلال الاستفادة من المخاوف الإنسانية الدولية. وإذا ما تم ترحيل السوريين في تركيا إلى هذه المنطقة العازلة، فهناك مخاوف من تكرار ما يعتبره البعض تغييراتٍ ديموغرافية قسرية في عفرين – حيث تم نقل اللاجئين غير الأكراد إلى منازل الأكراد – في هذه المنطقة العازلة الجديدة.

US military syria
قافلة عسكرية أمريكية تشارك في دورية مشتركة مع القوات التركية في قرية الحشيشية السورية على مشارف بلدة تل أبيض على طول الحدود التركية، في 8 سبتمبر 2019. Photo: Delil SOULEIMAN / AFP

بيد أنه في أغسطس 2019، اتفقت الولايات المتحدة وتركيا على عناصر مختلفة، بما في ذلك المراقبة الجوية ومقرات المنطقة العازلة على طول الحدود التركية السورية.

بدأت قواتٌ من البلدين بتسيير دورياتٍ في المنطقة في سبتمبر 2019، الذي يعتبر دون أدنى شك إجراءً توفيقياً يهدف إلى تهدئة المخاوف الكردية من منح القوات التركية حرية استخدام القوة العسكرية في المنطقة. كما تلعب دوريات المراقبة هذه دوراً مهماً في العلاقات العامة لتركيا، حيث تهدف الصور ومقاطع الفيديو الخاصة بالقوات الأمريكية والتركية التي تعمل جنباً إلى جنب إلى المساهمة في إصلاح العلاقات بين واشنطن وأنقرة، التي شهدت حدّةً واضحة في السنوات الأخيرة.

ومع ذلك، فقد تم التراجع عن وهم الصفقة المبرمة حتى عندما كان يتم بالفعل تسيير الدوريات بعد أن اتهمت أنقرة واشنطن بالازدواجية. فقد قال وزير الخارجية التركي إن الخطوات الأمريكية لتنفيذ المراقبة المشتركة في المنطقة كانت خطواتٍ “تجميلية” فحسب. وعلى ما يبدو، لم يتم التوصل إلى أي اتفاق حول مدى عمق المنطقة العازلة، حيث طلب الأتراك أن تبلغ 40 كيلومتراً وعرضت الولايات المتحدة 20 كيلومتراً فقط.

وعلى الرغم من عدم وجود اتفاق، حدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مهلة شهر سبتمبر للولايات المتحدة كي تمتثل بالكامل أو تخاطر بتدخل تركي آخر في شمال سوريا.

لماذا هذا الضغط؟

يتعرض أردوغان لضغوطٍ متزايدة في الداخل لإيجاد حل للتوترات، المتصورة والحقيقية، بين اللاجئين السوريين والمجتمعات التركية التي تستضيفهم. فقد أثار تباطؤ الاقتصاد التركي تصاعد المشاعر المعادية للسوريين، على وجه الخصوص، حيث سارع الأتراك المتشددون إلى لوم السوريين على مشاكلهم. ولطالما قدمت المنطقة العازلة طريقةً مستساغة علناً لإعادة السوريين إلى سوريا، بصرف النظر عن ارتباطهم بالمنطقة أو حتى رغبتهم في العودة. وفي الأشهر الأخيرة، قامت تركيا بترحيل السوريين قسراً عبر الحدود، على الرغم من ادعائها عكس ذلك، في خطوةٍ تم اتخاذها بلا شك لتخفيف الانتقادات العلنية لإدارة الحكومة للسكان السوريين في البلاد.

فقد هددت أنقرة بتوغلٍ شرق الفرات في شمال شرق سوريا لسنوات. وعلى عكس حملتها في عفرين، التي تعد منطقةً صغيرة ومعزولة، من المحتمل أن يكون غزو المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد السوريون أكبر تكلفةً بكثير من حيث عدد القوات المسلحة واللوازم العسكرية، مع وجود خطر أكبر بكثير يتمثل في توسع المهمة، بالنظر إلى عدم وجود قيودٍ جغرافية. وعلى الرغم من وعيده، من المرجح أن تردع التكاليف المحتملة أردوغان من إرسال قواتٍ للتوغل في المنطقة العازلة، ولكن مع الهجمات التي تُشن على قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة (والتي تزعم أنقرة أنها مرتبطة بحزب العمال الكردستاني)، فمن المؤكد أن تركيا قد تثير التوترات في المنطقة.

التكلفة الحقيقية للمنطقة العازلة

إن المفارقة المُحزنة لجهود تركيا في إنشاء منطقةٍ عازلة هي أنه بعد سنوات من طرح الفكرة لأسباب إنسانية، لم تتراجع معاناة المدنيين السوريين وحاجتهم إلى مثل هذه المنطقة لأسباب إنسانية. كما يتضح من الاحتجاجات الغاضبة في محافظة إدلب على الحدود مع تركيا، والتي لن تغطيها المنطقة العازلة، لا يزال ظهور قوات النظام السوري يشكل تهديداً كبيراً للمدنيين. في الواقع، بالكاد تفادت هذه القوات مواقع المراقبة التركية في إدلب والتي كانت تهدف إلى حماية المدنيين من المزيد من الإنتهاكات أو العنف. ويبدو أنه مع اكتساب أو خسارة الكثير من الناحية الجغرافية السياسية في سوريا، فإن سكان البلاد لا يتمتعون سوى بقيمة ضئيلة للقوى الإقليمية. فقد أمضت تركيا الكثير من وقت الحرب في تأمين حدودها الخاصة، ويبدو أن المنطقة العازلة ليست أكثر من كونها دفاعاً حدودي مبالغٌ فيه.

إن المنطقة العازلة في شمال سوريا، والتي تم طرحها منذ سنوات، قد تبلورت أخيراً مع هذا التعاون الأمريكي التركي الأخير. ومع ذلك، فإن أي اتفاقٍ في سوريا يبدو هشاً – كما يتضح من اتفاقيات أستانا – ولا يوجد أي ضماناتٍ باحترامه. وبغض النظر عن احتياجات السوريين لوضع حدٍ للنزاع وإيجاد مساحاتٍ آمنة للعيش، يبدو أن المصالح الجيوسياسية لأقوى أطراف النزاع ستقرر مصير البلاد.