وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حزب النهضة وفصل السياسة عن الدين

تونس النهضة فصل السياسة عن الدين
الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي (وسط)، ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي (يسار)، ونائب رئيس حركة النهضة عبد الفتاح مورو (يمين)، خلال افتتاح المؤتمر العاشر لحركة النهضة في 20 مايو 2016. وخلال الحفل الذي أقيم في القاعة الأولمبية في رادس، في ظل وجود العديد من الأحزاب السياسية والشخصيات الدبلوماسية وأكثر من 10,000 من أنصار الحركة، تم التصويت على فصل العمل السياسي للحركة عن الدين.Photo Imago Stock / People GmbH.

تصدر إعلان حزب النهضة الإسلامي التونسي فصله السياسة عن الدين في استراتيجيته عناوين الصحف العالمية في مايو 2016، وسلط الأضواء مجدداً على تونس. فبطريقة ما، البلد الذي فجر في ديسمبر 2010 أحد أهم الثورات العربية منذ عهد الاستقلال، عاد اليوم ليطرح على المسلمين قضية أحد أهم التغييرات السياسية منذ إلغاء الخلافة الإسلامية في عام 1926.

فعندما دخل الإسلاميون المعترك السياسي التونسي في سبعينيات القرن الماضي، في ظل قيادة راشد الغنوشي، أسسوا حركة الاتجاه الإسلامي (MTI). قالوا آنذاك أنه ينبغي أن تكون التقاليد الإسلامية في صلب الدولة وخططوا لإسقاط الجمهورية العلمانية التي أسست عام 1957. فقد كانوا ضمن كوكبة الحركات الإسلامية التي ظهرت في جميع أرجاء العالم العربي، المستوحاة من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، مستغلين المشاكل الاجتماعية في بلدانهم، وموجهين الأموال من دول الخليج الغنية، ودعمهم فيما بعد من قِبل الثورة الإسلامية الإيرانية.

وفي تونس، كانوا من بين أهم المعارضين للحزب الحاكم في الثمانينات. وبالنظر إليهم من قِبل الديكتاتور السابق زين العابدين بن علي، باعتبارهم يشكلون تهديداً وجودياً، حظرت حركة النهضة في عام 1991 كما أعتقل الآلاف من أعضائها أو أرسلوا إلى المنفى. واصل الحزب عمله في الخفاء أو من الخارج، إلا أنه أصبح مهمشاً. وفي ضوء ذلك، تبنى موقفاً أكثر سلاماً وحداثة، إلا أنه بقي متعلقاً بهويته الإسلامية، ليعود إلى الصدارة في عام 2011، عندما أصبحت تونس دولة ديمقراطية.

تمحورت الحملة الانتخابية لحزب النهضة في عام 2011، إلى حدٍ كبير، حول الهوية وأهمية القيم الإسلامية في المجتمع. فغالبية الذين صوتوا للحزب في أكتوبر من ذلك العام فعلوا ذلك بسبب نزاهة واستقامة الحزب الملموسة، الأمر الذي يُعتبر أعلى مستويات الإخلاص في الإسلام. وبالنسبة للتونسيين، يُسمى أعضاء حزب النهضة ببساطة “إسلاميين.” وبالتالي، ما الذي يجعل حزب النهضة يتنازل عن هؤلاء الناخبين البالغ عددهم 1,5 مليون ويتخلون بشكلٍ فعال عن الإسلام؟

في الواقع، بين عام 2011 والجولة الانتخابية التالية، خسر حزب النهضة أكثر من 500,000 صوت، حيث صوّت أقل من مليون ناخب لصالح الحزب في أكتوبر 2014. وعلى الرغم من أن حزب النهضة جاء في المرتبة الثانية في عام 2014، إلا أنه أصبح واضحاً أن قيادته باتت تخسر الهالة التي كانت تتمتع بها قبل ثلاث سنوات، وبرزت الحاجة إلى التغيير في الاستراتيجية.

هناك عدة تفسيرات لخسارة الحزب لشعبيته. أولاً وقبل كل شيء، هناك سقف التوقعات المرتفع الذي كان السمة الأساسية لدى غالبية الناس في أعقاب انهيار الدكتاتورية في يناير 2011؛ فقد وعد حزب النهضة بتلبيتها جميعاً إلا أنه فشل في ذلك، فضلاً عن ذلك لم تكن مشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية سوى تزداد سوءاً مع مرور الوقت. نفرّ هذا أعداداً كبيرة من الناخبين وشكل حجر الأساس في الحملات الانتخابية لخصوم النهضة لتشويه سمعتها.

وعلاوة على ذلك، واجه الحزب معارضة شرسة، التي جاء معظمها من النخبة العلمانية التي سادت خلال معظم تاريخ تونس ما بعد الاستعمار، والتي تسيطر على وسائل الإعلام، ووسائل الإنتاج وتمتلك عدة طرق للتأثير على الرأي العام. فقد شعرت هذه النخبة بالتهديد من النهضة، وقامت بهجوم مضاد يصوّر النهضة ككيان ارهابي يمتاز بسلوك منهجي ويحاول تدمير تونس وتحويلها الى دولة اسلامية متطرفة. وجدت هذه الاتهامات الكثير من الآذان الصاغية بين المواطنين التونسيين، خصوصاً أن أعداداً متزايدة من الشباب التونسي باتت تميل إلى التطرف والانضمام إلى الجماعات المتطرفة.

وعلاوة على ذلك، فإن الخوف من الإسلام السياسي، سواء كان متطرفاً أم لا، ساعد على تأجيج الحرب الأهلية في كلٍ من ليبيا وسوريا، وساهم في الانقلاب العسكري في مصر. نفّر هذا عدداً من القوى العربية ودفعهم إلى التلاحم، حتى في الوقت الذي يقاتلون فيه بعضهم البعض، لمواجهة هذا العدو المشترك المفترض. وبالتالي فإنه من الجدير بالملاحظة أنه في عام 2013 المصيري، توحدت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والنظام السوري، والعديد من المليشيات من أيديولوجيات مختلفة داخل ليبيا وأماكن أخرى، الخ، لمواجهة الإسلاموية على الأرض ومن خلال وسائل الإعلام والدعاية.

وحتى بين المجتمع الدولي أيضاً، بدأت الإسلاموية تصبح قضية مؤرقة. فمع صعود تنظيم الدولة الإسلامية وأشرطة الفيديو القاسية التي يبُثها، وتطرف العديد من الإسلاميين المعتدلين السابقين في كلٍ من سوريا ولبنان ومصر وأماكن أخرى، وفشل الإخوان المسلمين في التعامل مع السياسة اليومية في مصر، جعلت القوى الغربية، التي لم تكن تعارض أنذاك صعود الإسلام السياسي، مرتابة حول هذه النزعة ومكانة الإسلام في السياسة.

وإدراكاً منه بضرورة الحفاظ على الدعم الدولي على قيد الحياة، من أجل تأمين الحماية في حال حدوث سيناريو مماثل لما حصل في مصر، فضلاً عن الحاجة إلى تهدئة مخاوف النخبة في البلاد إلى جانب إغواء أكبر عدد ممكن من شرائح المجتمع، اختار حزب النهضة الحل الوسط وما بدا وكأنه قفزة كبيرة إلى الأمام. الغنوشي، الزعيم التنفيذي والروحي للحزب، هو القوة الرئيسية وراء هذا القرار.

وبالتأكيد، لن يُصبح الحزب حزباً علمانياً، وسيبقى الإسلام عنصراً هاماً لقادة الحركة وسلوك أعضائه. ولكن العبارات الإسلامية البارزة المساندة للحزب إما سيتم التخلي عنها أو الامتناع عن استخدامها في الإسناد. كما ستنتهي خطبة الجمعة للغنوشي داخل مقر الحزب، وسيقل استخدام العبارات الإسلامية في الحملات الانتخابية للحزب، وسيتم إدخال قاموس أكثر علمانية وجمهورية في الخطاب، الخ.

وحتى مع ذلك، سيبقى من الصعب إغواء الناخبين العلمانيين واستمالتهم. ما يحاول حزب النهضة القيام به، في نهاية المطاف، هو أن يُصبح أكثر قبولاً وبالتالي ليُنظر إليه باعتباره حزب سياسي اعتيادي، وليس جماعة مروعة بأجندة خفية. يتبع النهضة في هذا الشأن سياسة الإسلاميين في المغرب، حزب العدالة والتنمية، فعلى سبيل المثال، من بين الحيل التي يتبعها الحزب لإغواء النخبة العلمانية في تونس، صفحة ناطقة باللغة الفرنسية على موقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك، باسم زعيم النهضة الغنوشي، والتي غالباً ما تعرض صور نساء غير محجبات والشباب التونسي المقبل على الحياة.

والآن، تتمثل مشكلة النهضة في كيفية الحفاظ على جمهور الناخبين الأساسيين، فمن المستحيل أن يطلب الحزب من أشد أنصاره نسيان جانب الهوية والتصويت للحزب باعتباره حزباً غير إسلامي.

تتمثل إحدى الطرق لمحافظة الحزب على ناخبيه التقليديين باعتماده على مجتمعه المدني، فمنذ عام 2011، بدأ الأفرد الذين يعتبرون من المقربين لحزب النهضة بإنشاء جمعياتٍ خيرية ومنظمات غير حكومية مستوحاة من الإسلام، مستهدفين أفقر الطبقات المهمشة من السكان، ولكن أيضاً الشباب في المناطق الداخلية التونسية. ولربما بين هذه المجموعات سيبحث حزب النهضة عن الدعم في الانتخابات المُقبلة المزمع عقدها في مارس 2017، وضمان مقاعد في المجالس البلدية المقبلة. وفي حين لا تنتمي رسمياً للحزب، إلا أن هذه المجموعات ستكون قريبة بما فيه الكفاية من النهضة لنشر رسالتها والإشراف على حملتها.

فبعد نجاحه في تنظيم مؤتمره العاشر، والاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة لنشاطه منذ ظهور الديمقراطية في تونس، فإن حزب النهضة على أتم الاستعداد لأي معركة سياسية في المستقبل. كما أنه أيضاً الحزب السياسي الوحيد الأكثر نجاحاً وفعالية في البلاد، ويعود ذلك إلى تماسكه الداخلي فضلاً عن كونه قد نأى بنفسه عن الصراعات التي فككت خصومه الرئيسيين (العلمانيين). سواء كان إسلامياً أم لا، يبدو فوز حزب النهضة في الانتخابات المحلية لعام 2017 مضموناً.