وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إردوغان والخصوم العرب: مصالح انتخابية تغيّر سياسات تركيا

إلحاح الرئيس التركي إردوغان على المصالحة مع خصومه العرب الذين كان يستهدفهم في الماضي، يثير الريبة حول حقيقة ما يسعى إليه من أهداف.

إردوغان والخصوم العرب
الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان مصافحاً نظيره المصري عبد الفتاح السيسي أثناء حضورهما لحفل استقبال أقامه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بمناسبة افتتاح كأس العالم لكرة القدم في الإمارة الخليجية يوم 20 نوفمبر 2022. المصدر: Murat Kula/ Anadolu Agency via AFP.

خالد محمود

يسعى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للفوز بولاية رئاسية جديدة تبقيه في السلطة، معتمدا على مقاربة إقليمية جديدة لتحسين العلاقات مع أنظمة عربية اعتبرها في السابق معادية.

إردوغان يحكم تركيا مع حزبه العدالة والتنمية منذ عام 2003 دون منازع. لكن عرش الرجل بات يهتز تحت وطأة تحدياتٍ داخلية وخارجية تدفعه للتخلي عن دور الشرطي في المنطقة والتنازل عن الإرث العثماني الكلاسيكي.

إمبراطورية

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقرر إجراؤها في يونيو 2023، يأمل الرئيس التركي في الفوز بولاية أخيرة، متعهدا بتسليم الراية بعدها إلى “الشباب”. في المقابل، ثمة من يراهن على أن إردوغان يتجه نحو الهزيمة في هذه الانتخابات إذا كانت نزيهة وحرّة. وبطبيعة الحال، فإن الأمر يرتبط باتباع المعارضة استراتيجية معقولة للفوز بالانتخابات.

الانتخابات، التي قد يتم تقديم موعدها، تمثل نقطة تحول لتركيا، كونها تتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس مصطفى كمال أتاتورك للجمهورية. وبحسب البعض ممن عرفوه، فقد توقف إردوغان منذ حوالي عشر سنوات عن الاستماع إلى الجميع، باستثناء مجموعة صغيرة موالية له. ومنذ ذات الوقت، بدأ الرئيس التركي يتجاهل النقد أو الآراء.

ومع ذلك، وباعتباره الرئيس الثاني عشر في تاريخ تركيا، يحلم إردوغان بالإعلان عن عصر عثماني جديد في العام 2023.

مشاكل مع المعارضة

يظهر أحدث استطلاع للرأي أن منصور يافاش، عمدة بلدية أنقرة، وكمال كيليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، سيتفوقان على إردوغان في حالة إجراء جولة ثانية من الانتخابات.

ويواجه إردوغان احتمال خسارة الانتخابات لصالح مرشح ائتلاف المعارضة المكون من 6 أحزاب. وهناك رهان على أنّ تعاون هذا التحالف لديه فرصة معقولة لهزيمة إردوغان وكتلته الحاكمة.

وتسبّبب وضع إردوغان الصحي المشكوك فيه بإطلاق شائعات قوية بشأن الرجل الذي يتواجد في السلطة منذ نحو عقدين. كما أنه أدّى إلى ملاحقات قضائية بحق من نشروا المعلومات المرتبطة بهذا الشأن.

وبحسب أرقام وزارة العدل التركية، فقد شهد عام 2020 وحده فتح 31297 تحقيقًا بخصوص إهانة إردوغان. وبين عامي 2014 و2020، وصل إجمالي عدد الدعاوى المشابهة إلى ما يزيد عن 160 ألف.

وقال إردوغان إن حزب العدالة والتنمية الذي حقق المرتبة الأولى 15 مرة في الانتخابات بصدد تحقيق النصر في الانتخابات المقبلة. وفي رسالة تهنئة وجهها لأعضاء حزبه بمناسبة الذكرى السنوية الـ21 لتأسيسه، قال الرئيس التركي: “قمنا بحملة ديمقراطية وتنموية عمرها قرن من الزمان خلال عشرين عامًا”.

يأتي ذلك في الوقت الذي يواصل فيه إردوغان خطابه الشعبوي، موظفاً الحرب على الإرهاب لصالحه عبر إثارة مخاوف الرأي العام. وفي هذا الصدد، أعلن عن عزم حكومته على جعل كلّ شبر من تركيا آمنا عبر عملياتها في مكافحة الإرهاب، بدءا من خارج الحدود.

وبعد أن أصبحت الانتخابات التركية على المحك، دخل إردوغان في لعبة التطبيع الدولي المحفوفة بالمخاطر. ويأمل بذلك أن يوافق الناخبون الأتراك على العلاقات الاقتصادية والحلول المرتبطة بالهجرة.

لكن إردوغان، الذي يدور حيث تدور مصالحه ويمكنه التخلي حتى عن أقرب حلفائه إذا رأى في ذلك مكاسب سياسية محققة، يتراجع عن نهجه خارجياً لضمان الفوز بالانتخابات المقبلة.

ويبدو أن الخط الفاصل بين السياسة المحلية والخارجية في تركيا أصبح رفيعًا للغاية ويكاد يتعذر تمييزه. وبات ربط المجالين المحلي والدولي ركنًا أساسيًا في حملة إردوغان لإعادة انتخابه.

وتأكيدا لهذا الملمح، تحدّث إردوغان عن إمكانية إعادة النظر في العلاقات مع مصر وسوريا، بعد الانتخابات المقبلة. ولتبرير توجهه الجديد، قال: “ليس هناك خلاف واستياء أبدي في السياسة”.

وانطلاقًا من مبدأ أن تحسين السياسة الخارجية الفوضوية المعتمدة في تركيا سيعود بفوائد مالية على اقتصادها المتعثر، فقد سعت أنقرة للتطبيع مع خصوم الماضي. وعلى ذلك، انتقلت دولٌ مثل الإمارات والسعودية وإسرائيل من قائمة الخصوم إلى قائمة الأصدقاء.

وكانت شعبية الرئيس التركي في العالم العربي غير قابلة للنقاش قبل سنوات. ومع ذلك، فقد نظرت مصر بتشكك إلى إردوغان، حيث لم ينظر إلا 15% من المصريين إلى سياساته بعين الرضا.

التقارب مع مصر

إلحاح الرئيس التركي إردوغان على المصالحة مع خصومه العرب الذين كان يستهدفهم في الماضي، يثير الريبة حول حقيقة ما يسعى إليه من أهداف. السؤال هو: هل هي مصالحة حقيقية أو أنها مجرد مواقف مرحلية لا تعني أنه قد غير سياسته مطلقا؟

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صافح مؤخراً إردوغان في قطر على هامش حضورهما لحفل افتتاح كأس العالم. ورغم تأكيد السيسي الاتفاق على أن تكون المصافحة “بداية لتطوير العلاقات الثنائية” بين البلدين، إلا أنّ سياسات إردوغان الإقليمية لا زالت على نهجها المعتاد.

ولا يبدو أنّ دعم أنقرة لجماعة الإخوان المسلمين هو العنصر الفاصل في هذا الشأن. ويُعتقد أن التناقض بين السياستين المصرية والتركية حيال البحر المتوسط وخاصة ليبيا، يثير خلافات أعمق مما يبدو على السطح.

وإذا كان إردوغان قد كشف النقاب عن أن طلب أنقرة الوحيد من مصر هو تغيير أسلوبها تجاه وضع تركيا في البحر المتوسط، فإنّ القاهرة في المقابل تطالب تركيا برفع يدها عن المنطقة العربية. وتعني مصر بذلك رفع يد تركيا بالتحديد عن العراق وسوريا وليبيا.

مقاومة سوريا

ولأنّ ثمة تفهّم عربي لحاجة إردوغان الملحة للفوز بالانتخابات المقبلة، تتريث سوريا على أمل إجباره على تقديم تنازلات كبيرة على مستوى الملف السوري. وترى دمشق أنّ إردوغان مسؤول في الحرب على سوريا. كما أنها تعتبره من العابثين بمقدراتها.

ويرى البعض أنّ التدخل التركي في الشأن الداخلي السوري نتج عن حساب خاطئ. ووسط مواجهة إردوغان لمعضلة حقيقية مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، فإن ذلك دفعه لعمل ما يمكن اعتباره باستدارة تركية لافتة للانتباه.

ويدرك إردوغان أن ملف سوريا ملحٌ وضروري لكسب أصوات الناخبين وتحييد المعارضة التي تحاول استغلال هذا الملف. وسبق لإردوغان أن تحدث عن استحالة العمل مع الرئيس السوري بشار الأسد واعتبره إرهابياً. والآن، يبدو أن تركيا تمضي في مسارٍ جديد تحاول من خلاله حماية مصالحها القومية عبر التخلي عن تمسكها المعلن بإسقاط نظام الأسد.

وتحمّل المعارضة التركية تردّي الأوضاع الاقتصادية على وجود نحو أربعة ملايين من اللاجئين السوريين في البلاد. ومع ذلك، فإن رحيل هؤلاء أو دفعهم للمغادرة سيعرض الاقتصاد التركي لهزة عنيفة.

وقبل عامين فقط، طلب إردوغان من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التنحي جانبا في سوريا. لكنه بدأ مؤخراً بطرق أبواب موسكو سعيا للحصول على دعمها للقاء الرئيس الأسد.

في المقابل، تقاوم سوريا جهود الوساطة الروسية لعقد قمة مع إردوغان. وتعتبر دمشق أن عقد هذه القمة يعني إعطاء الرئيس التركي نصراً مجانياً. وعلى هذا الأساس، فقد فضلت الحكومة السورية عدم حدوث أي تقارب قبل عقد الانتخابات.

وتلقى الأسد نصيحة من المعارضة التركية بعدم الاجتماع بإردوغان، في مسعى لمنع “استغلال” إردوغان أي لقاء محتمل مع بشار لإحراز مكاسب انتخابية.

ويمكن القول إن شن تركيا لأربع عمليات عسكرية في شمال سوريا يحمل في طياته دوافع تسعى من خلالها الحكومة التركية للتأثير على السياسات الداخلية لتركيا. وبطبيعة الحال، فإن هذا التأثير يصب في خانة مساعدة إردوغان وحزبه على البقاء في السلطة.

استغلال التوترات الإقليمية

إذا كانت مشاكل المنطقة الحدودية السورية التركية قد صرفت الأنظار في السابق عن الانتفاضة ضد حكم الأسد، فإنها سمحت لتركيا بلعب دور أكبر في المنطقة وتحقيق طموحاتها بشكلٍ أكبر.

ولأنّ تركيا لا تمتلك خطة خروج واضحة من سوريا، فهي لا تزال تلوح بشن هجوم عسكري هناك. وجاء هذا التهديد في أعقاب محادثات مع روسيا لاستخدام المجال الجوي فوق شمال سوريا، في عملية محتملة عبر الحدود ضد وحدات حماية الشعب الكردية السورية.

ويمكن استغلال هذا الهجوم في حشد الناخبين القوميين الأتراك لانتخاب إردوغان، في وقتٍ تعيش فيه تركيا على وقع حالة من التقهقر الاقتصادي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ التوغلات السابقة في سوريا عزّزت دعم إردوغان في الاقتراع السابق.

وكان إردوغان قد تناسى تأكيده باستحالة تنفيذ بلاده عملا عدائيا ضد من وصفهم بـ “الأشقاء العراقيين”. ومنذ مطلع عام 2022، قتلت القوات التركية نحو 4 آلاف ممن وصفوا بالإرهابيين داخل البلاد، وشمالي العراق وسوريا.

تركيا التي عزّزت نفوذها على حساب تناقض السياستين الأمريكية والأوروبية تجاه الكثير من أزمات المنطقة، أجادت توظيف الخطاب القومي بشأن التوترات الإقليمية.

وعلى هذا الأساس، من غير المستبعد أن يواصل إردوغان استغلال تصاعد التوترات الحاصلة حول بلاده لإثارة النزعة القومية لدى الأتراك وكسب مزيد من الأصوات في الانتخابات القادمة. ويشمل ذلك استغلال التوتر الحاصل مع اليونان حول جزر بحر إيجة، والعملية العسكرية المحتملة ضد المقاتلين الأكراد في شمال سوريا.

ما يقلق المعارضة التركية هو سيطرة إردوغان على أجهزة الدولة. وبطبيعة الحال، فإنّ الرئيس التركي قادرٌ على صنع أزمات في مختلف الملفات السياسية. ومن الأمثلة على ذلك تصعيد الخلاف مع الناتو حول انضمام السويد وفنلندا إليه. ويرى البعض أن موقف إردوغان المتعنت تجاه انضمام الدولتين يستهدف الحصول على تنازلات يستخدمها في حملته الانتخابية.

ويرى البعض أن معارضي إردوغان يواجهونه في ساحة غير عادلة، سيّما وأن الشركات الموالية لإردوغان تسيطر على 90 بالمائة من وسائل الإعلام التركية.

وكنموذج على اختلاف الرؤى الحاصل بين إردوغان ومعارضيه وتصعيده إلى المستوى الإقليمي، فقد أسفر لقاء عقده بعض أعضاء البرلمان التركي مع حركة المستقبل الليبية في بنغازي عن توجيه انتقادات حادة لإردوغان. وتأتي هذه الانتقادات على خلفية إبرام الرئيس التركي لاتفاقيات مثيرة للجدل مع حكومتي الوفاق السابقة والوحدة الحالية في العاصمة الليبية طرابلس. وضمّ الوفد البرلماني التركي في صفوفه برلمانيين من حزب الشعوب الديمقراطية، علماً بأن هذا الحزب يعتبر ثالث أكبر كتلة برلمانية في تركيا.

وفي إطار الجدل الواسع بشأن الوضع الاقتصادي الصعب والأزمات الناتجة عن مواقف وتدخلات إردوغان الخارجية، يحاول الرئيس التركي انتهاج استراتيجية مغايرة على أمل أن تؤمّن له البقاء على عرش البلاد مجددًا.

هذا التغيير الذي يدلّل على انتصار السياسة المحلية على السياسة الخارجية، تصاحبه شكوك في أنه ينم ذلك عن “حاجة مستعجلة للتمويل”.

من شأن تأرجُح تركيا المستمرّ بين روسيا والغرب أن يزيد من ويلاتها في سياساتها الخارجية والأمنية. وربما يتعين على الغرب الاستعداد لسيناريو نهاية حقبة إردوغان وسياساته.

السياسة التركية، التي تعتمد على معارك التموضع المحدود، بدأت في التغيّر. بيد أن هذا التغيير يجري فقط في إطار رؤية إردوغان للاستفادة من وجوده العسكري المنتشر في المنطقة تحت ذرائع مختلفة. وللعلم، فإنّ القوات التركية موجودة في مناطق من كلٍّ من سوريا والعراق والصومال وليبيا.

ومع محاولة تركيا التقارب مع دول المنطقة، سيكون على جهاز الاستخبارات التركية أن يجد طريقة آمنة للتخلص من العبء الذي راكمه بالاستثمار في دعم الإسلاميين والجهاديين.