وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

جعجع: يدٌ لا تصافح الأقوى

جعجع
صورة تم التقاطها يوم ٢٦ إبريل ٢٠١٢ لزعيم القوات اللبنانية المسيحي سمير جعجع في لقاء أجرته معه وكالة الأنباء الفرنسية في دارته بمعراب شمال شرق العاصمة اللبنانية بيروت. المصدر: JOSEPH EID/ AFP.

ببساطة وانسيابية واضحة، يتم استبدال قضية بأخرى في لبنان، بحيث تكفل القضية الجديدة على أقل تقدير تأجيل البت بالقضية الأساسية. كما تضمن للأطراف المستفيدة من هذا التأجيل، مزيداً من اللعب السياسي وخلق التجاذبات الجديدة بناء على القضية البديلة إن صح التعبير. القضية الكبرى والتي تم إخفاؤها خلف ظهر قضية جديدة، هي المحكمة الخاصة بتفجير المرفأ، وتوجيه القاضي المكلّف بالتحقيق بقضية التفجير طارق بيطار مذكرة استدعاء لمسؤولين سابقين بينهم الوزيران نهاد المشنوق وغازي زعيتر، وهو ما ألّب الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) ضدّه وجعلهم وجمهوره يطالبون بإقصائه.

خلال الأسبوعين الأخيرين من أكتوبر 2021، لم يعد استدعاء المسؤولين إلى المحكمة هو القضية الملحّة، حيث باتت هناك محكمة جديدة تحقق في أحداث ما سمّي بـ “الخميس الدامي”. هذا اليوم شهد اشتباكات في منطقة الطيّونة، اتّهِم فيها حزب القوات اللبنانية وأنصاره بالهجوم على متظاهرين مؤيدين لعزل قاضي التحقيق بيطار وهم من جمهور حزب الله وحركة أمل.

المحكمة الجديدة استدعت سمير جعجع قائد حزب القوات للتحقيق بالأحداث، وعدم استجابته لتلك الدعوة بات القضية الملحّة، لدرجة أنه تم الحديث عن عزل القاضي بأحداث الطيّونة… وكأن التفاصيل ذاتها أعيدت إنما بشكل معاكس، بحيث تم خلق قضية جديدة كلياً، تواجدت فيها كل الأطراف الموجودة بالقضية القديمة: هناك قاض ومتهم وجمهور يطالب بعزل القاضي وآخر يطالب بحضور المطلوبين للشهادة مهما علت مراتبهم السياسية. لكن الأدوار هنا قلبت، فالمدّعى عليه أصبح مدعياً، والمطالِب باستجواب المشكوك بتورطهم، بات متهماً مشكوكاً بتورُّطه.

من المفترض أن التحقيق بأحداث الطيونة قد أغلِق وفق ما صدر عن الجيش اللبناني، بعد توجيه القاضي فادي عقيقي الاتهام لثمانية وستين شخصا بارتكاب جرائم القتل ومحاولة القتل وإثارة الفتنة الطائفية. لكن حضور القضية على الساحة السياسية الداخلية، وفي وسائل الإعلام ما زال طاغياً، تحضر معه شخصية جعجع، بحيث تظهر القضية كلها، وكأنها تهدف إلى وسم الحزب وقائده بسلوك عدواني، وارتكاب جريمة ضد مدنيين، وخلق سجل قضائي جديد في وثيقة حزب لم تسجّل ضدّه أعمال غير قانونية منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، التي دخل إثرها جعجع السجن وأمضى فيه 11 سنة (1994-2005)، ليخرج بإجماع برلماني طالب بخروجه.

مرّت أحداث الطيونة، وحصدت أطراف لبنانية كثيراً من المكاسب منها، ولعلَّ في مقدمتهم حزب الله، الذي وضعته الأحداث موضع الضحية داخلياً وهو دورٌ نادراً ما يلعبه الحزب بوجود حدث داعم للراوية، وبرّرت له خطاباً أقرب إلى الخطاب الحربي يهاجم فيه أعداءه في الداخل وفي مقدمتهم بالطبع القوات، ويتهمهم بالعمالة مجدداً، ويعبّر عن مدى قوته واستعداده عسكرياً لأي مواجهة، بمعنى تجهّزه للحرب الأهلية، وبالطبع المكسب الأساسي هو إقحام  حزب القوات وقائده في قضية قضائية، واتهامهم بالتسبب باشتباك عسكري، وبإيقاع ضحايا مدنيين من أنصار “المقاومة” التي يمثّلها الحزب في لبنان.

يقف سمير جعجع في المشهد السياسي اللبناني الحالي على يسار التحالفات الواضحة، ثابتاً عند موقف عدم قبول بناء أي مشروع سياسي بالتحالف مع حزب الله، مصرّا على كون الحزب حالة شاذّة في لبنان بالسلاح الذي يمتلكه، وغير مهادن في قضية ضرورة سحب هذا السلاح، الذي سبق وسُحب من بقية الأطراف اللبنانية عند نهاية الحرب، واستبقي عليه بيد حزب الله كضرورة لمقاومة إسرائيل في الجنوب وهو واحدة من النقاط الجدلية في اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، فحزب الله متهم اليوم بالسيطرة على لبنان والتحكم بمفاصل الحياة السياسية والاقتصادية فيه عبر امتلاكه لهذا السلاح.

انفرد حزب القوات اللبنانية بقيادة جعجع بموقف بعيد كلياً عن كلّ مواقف الأطراف السياسية اللبنانية التي يمكن وسمها بالتقليدية عبر استمرارها في صياغة السياسات الداخلية في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية، إذ رأى أن الحكومة اللبنانية الجديدة طالما أنها تشكل في الظروف ذاتها فإنها لن تكون سوى “حبة بانادول” تلعب على الوقت لا أكثر، وتبقى تناقش نتائج المشكلات دون أن تذهب عميقاً في حلها. هذا الموقف أخذ شكله التطبيقي في امتناعه عن المشاركة في تشكيل الحكومة الجديدة، مقابل إقبال كل الأحزاب اللبنانية للمشاركة فيها، وتقاسم الحقائب الوزارية.

جعجع
صورة تم التقاطها يوم ١٤ أكتوبر ٢٠٢١ ويظهر فيها بناء تعرّض لإطلاق النار في منطقة الطيونة في الضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية بيروت. وأدت الاشتباكات إلى مقتل العديد من الأشخاص وجرح العشرات في بيروت، وذلك على هامش تظاهرة نظمها حزب الله وحركة أمل الشيعيين للمطالبة بإقالة المدعي العام لمحكمة بيروت. وتركزت أعمال العنف في منطقة الطيونة، وهي منطقة تقع على مفترق الطرق بين معاقل الميليشيات الشيعية والمسيحية التي كانت ساحات للمعارك بين الجانبين أثناء الحرب الأهلية اللبنانية قبل ثلاثة عقود. المصدر: JOSEPH EID / AFP.

جعجع وبوضوح لم يرد الخضوع لسلطة حزب الله على الحكومة الجديدة، فمن الواضح بالنسبة لديه أن تحالف الحزب مع مجموعة من الأحزاب الأخرى سيمكّنه من دعم قوته في صياغة السياسات الخارجية وتحديد مصير البلاد. جعجع فضّل على ذلك أن يأخذ موقف المتفرّج المنتقد، وهو موقف يسمه البعض بأنه انسحابي، يفضّل السهل على الصعب في فترة حساسة جداً. في المقابل، يرى كثيرون هذا الموقف موقفاً قوياً، وعقبةً أخيرة أمام إتباع البلاد كلها لسلوكيات حزب الله، وتحالفه مع إيران مقابل قطع علاقاته مع كل أعدائها الكثر في العالم العربي والغربي.

بعد تشكيل الحكومة، وتصريحات وزير إعلامها جورج قرداحي المستقيل وما تركته من أثر يوحي بأن لبنان مقبل على عزلة عربية، بات موقف جعجع أكثر حضوراً وأثراً في الشارع، حيث أن أولى نتائج تشكيل الحكومة كان خلق مشكلة جديدة في وجه مستقبل البلاد الغائم، وعزز أيضاً من ثقة جمهوره، ما يعسّر على حزب الله مشروعه في إتمام السيطرة، ويجعل من جعجع عدوّاً بشكل حاد أكثر من السابق، وبشكل يستدعي بدء التلويح بالتفوق العسكري – هو أمرٌ لا يخفى على أي متابع للشأن اللبناني – وهو بشكل من الأشكال لا يلعب في صالح حزب الله داخلياً، ويعزز فكرة السيطرة العسكرية، وإجبار الجميع على الرضوخ. بمعنى، إنه يكشف ما يحاول حزب الله بشكل مستمر إخفاءه، بالخطابات التي يلقيها زعيمه حسن نصر الله، والتي دائماً تتضمن جملاً تصف الحزب بكونه جزءاً من الأحزاب الأخرى له ما لهم وعليه ما عليهم، وبأنه ليس صاحب قرار نهائي في البلاد، وبأن سلاحه موجه فقط للخارج.

بناء على تصاعد حدة الخلاف، يمكن أن نقول إن جعجع بات اليوم يلعب دوراً مختلفاً نسبياً عن السابق، بات يضع حزب الله بزاوية يضّطر فيها أن يكشف بها عن مشروعه بشكل أوضح، ويعرّي السياسيين التقليديين في لبنان – مع أنه واحد منهم – أكثر فأكثر، فلا يكررون سوى وصفه بـ “العمالة والخيانة”، وهي أوصافٌ باتت تفقد معانيها في لبنان، بعد تكشّف انتماءات الأحزاب وميولها وإسهامها في تردي الأوضاع في لبنان، الذي يصيح منذ سنوات “كلّن يعني كلن”.

دافع جعجع خلال الفترة السابقة عن المحكمة الخاصة بتفجير المرفأ، وطالب بضرورة مثول السياسيين الذين تم طلبهم من قبلها، وهو ما يراه حيّزٌ كبيرٌ من اللبنانيين ضرورةً، بل وحاجزاً أخيراً أمام الانهيار التام، وهو حاجز السلطة القضائية، التي يعوّل كثيرون على أنها ما زالت قادرة على التأثير، وتحفظ من سلامة البلد المتداعي، وهو أيضاً جانب يصبّ في صالح جعجع على الصعيد الشعبي، ويزيد من حدة الخلاف مع بقية الأطراف المطالبة بتنحية المحقق الذي طلب استجواب السياسيين.

جعجع المختلف اليوم عن بقية الشخصيات السياسية التي خاضت الحرب، ثم تقاسمت السلطة في لبنان بموجب الطائف، هو أمام اللبنانيين قائدٌ عسكري حربي، لُطّخت يداه بالدماء خلال الحرب الأهلية، وثبت تورطه مباشرةً بعمليات قتل واغتيال، دخل إثرها السجن، ولم ينزل عن اسمه لقب “مجرم حرب” لدى جموع كبيرة من اللبنانيين، لكنه أيضاً السياسي الوحيد الذي عوقب على ما ارتكبت يداه بالنسبة لكثيرين، فيما تقاسم الجميع البلاد المدمرة بعد أن كانت فوّهات مدافعهم تُعمِل الخراب في شوارعها.

لم يقبل جعجع منذ خروجه من السجن الدخول في حلف هو الأقوى في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، ففي الوقت الذي تغيّرت فيه مواقف التيارات الأخرى، من الوطني الحر بزعامة ميشيل عون، إلى المستقبل بزعامة سعد الحريري، وصولاً إلى التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، كان حزب القوات اللبنانية بزعامة جعجع رافضاً بشكل قطعي التحالف لصالح الأقوى، موقف اليوم بات يعني أكثر من مجرّد موقف سياسي لا يحمل أثراً على الأرض، فلبنان وبكل المؤشرات يتجه نحو فقر مدقع وفوضى عارمة، فوضى كان المسبب الرئيسي في صنعها بالنسبة لغالبية اللبنانيين قادة الأمس، الذين يقف جعجع على خلاف كبير معهم اليوم، خلاف قد لا يشي باستمراره بعيداً عن البنادق.