وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

جورج قرداحي: صانع العزلة اللبنانية

جورج قرداحي
صورة تم التقاطها يوم ١٣ سبتمبر ٢٠٢١ لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي وهو يتحدث في مؤتمر صحفي في القصر الرئاسي ببعبدا شرقي العاصمة بيروت. وكانت الحكومة اللبنانية الجديدة قد عقدت أول اجتماعاتها للنقاش حول سبل إنقاذ البلد من أسوأ أزماته الاقتصادية على الإطلاق. المصدر: ANWAR AMRO / AFP.

في حقل السياسة وتنافر الأطراف اللبنانية، لا يبدو أن خبرات الإعلامي اللبناني جورج قرداحي والذي تبوأ مؤخراً وزارة الإعلام في لبنان كانت نافعة، خاصة تلك المتعلقة بدبلوماسية التعامل مع الأطراف المتضادة، والتي من المفترض أنه اكتسبها من برنامجه “المسامح كريم“، البرنامج الذي بث منه تلفزيون أبو ظبي عدة مواسم قبل سنوات قليلة، بثيمته القائمة على التوفيق بين الخصوم، ولم شمل العائلات أو العلاقات التي مسّتها العداوة بفعل حدث ما. في لبنان اليوم تسبب قرداحي بأزمة دبلوماسية، قد يدفع لبنان ثمنأً باهظاً لها، من جملة الأثمان التي يدفعها منذ سنوات والتي أدخلته بأزمات سياسية واقتصادية، آخرها بدا أنه الأشد قسوة، فالانهيار الاقتصادي الذي تعانيه البلاد منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 صنّف كواحدة من أقسى الأزمات الاقتصادية تاريخياً، وفق البنك الدولي الذي رجّح أن تكون ثالث أسوأ أزمة اقتصادية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

كانت تسمية قرداحي وزيراً للإعلام في حكومة نجيب ميقاتي المشكلة في العاشر من سبتمبر ٢٠٢١ بعد مخاض عسير، خطوة غير اعتيادية في الساحة السياسية اللبنانية، لسبب رئيسي هو أنه ابن سلك الإعلام البرامجي، والأقرب ليكون نجماً تلفزيونياً صدّرته كبرى التلفزيونيات العربية كمثال لعرّاب البرامج المنوعة والمسابقات، وأشهرها كان برنامج “من سيربح المليون؟“، الذي بقي لعدة سنوات أقوى برامج شبكة MBC السعودية. بهذا المعنى، كان قرداحي بعيداً عن العمل السياسي المباشر، ولا يزيد حضوره في هذا السياق عن تصريحات قصيرة ومواقف تتناقلها مواقع الإنترنت بين فترة وأخرى، إلا أنها تصريحات غير ذات أثر، خجولة ومحكومة بعمله مع تلفزيونات الخليج والتي لا بدّ وأنها شكلت العائق الأساسي بينه وبين التعبير العلني والمباشر عن الموقف السياسي، خاصة عندما نعرف أن موقف قرداحي لا يصب في توجهات الدول التي تملك وتمّول المؤسسات التي كان يعمل بها، ويحقق نجومية كبرى عبر شاشاتها.

لم يكن متوقعاً أن تكون أولى أزمات لبنان بعد تشكيل الحكومة الجديدة، هي أزمة دبلوماسية مع السعودية ولّدتها مقابلة مع قرداحي في برنامج “برلمان شعب” الذي تنتجه قناة الجزيرة، تم تسجيلها قبيل تسميته وزيراً وبثها بعد تسلمه الحقيبة الوزارية، دافع فيها عن حركة “أنصار الله” في اليمن، وهاجم التدخل السعودي والإماراتي فيه واصفاً إياه في بالعدوان الخارجي، ما أدى لاستياء سعودي وبحريني وكويتي، وهو ما حدا بالبلدان بمطالبة السفراء اللبنانيين فيها بمغادرتها، واستدعاء سفرائها من لبنان، أما الإمارات فاستدعت هي الأخرى دبلوماسييها من لبنان، اعتراضاً على ما قاله قرداحي.

ردة الفعل الخليجية امتدت لتشمل التبادل الاقتصادي مع لبنان، حيث أوقفت السعودية الواردات اللبنانية إلى أراضيها، والتي تفوق 250 مليون دولار سنوياً، أي ما يشكل ثاني أكبر صادرات لبنان بعد صادراتها إلى الإمارات وفق قناة LBC  اللبنانية نقلاً عن لسان السفير اللبناني لدى السعودية فوزي كبارة.

بوادر الخلاف الخليجي اللبناني كانت سابقةً لتصريحات قرداحي، ولتشكيل الحكومة اللبنانية، حيث تصاعد هذا الخلاف مع توجه لبناني واضح لحل الأزمات الداخلية المتصاعدة في البلد المأزوم بالاستعانة بإيران، خاصة بعد تفجير المرفأ وما تبعه من تزايد تفرّد حزب الله بالسلطة، والتي أفضت إلى حكومة سيطر عليها الثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل، وحليفه التيار الوطني الحر (تيار رئيس الجمهورية ميشال عون)، فيما امتنع حزبا الكتائب والقوات اللبنانية عن المشاركة، أما تيار المردة القريب أيضاً من حزب الله فكانت له حقيبتان بينهما حقيبة الإعلام التي تسلّمها قرداحي.

خطوة إلى الوراء

جورج قرداحي
صورة تم التقاطها يوم ١٣ سبتمبر ٢٠٢١ لرئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي أثناء وصوله لأول اجتماعات حكومته في القصر الرئاسي ببعبدا شرقي العاصمة بيروت. Anwar AMRO / AFP

لا شك أن استقالة قرداحي ستعالج على الأقل جزءاً من المسألة، بمعنى أنها لابد ستلغي القطيعة الدبلوماسية الكاملة على أقل تقدير، وهو ما حدا بنواب وسياسيين لبنانيين وعرب بالمطالبة باستقالته، فيما وجد سياسيون أن الاستقالة يجب أن تكون من قبل الحكومة كلها لا من قبل قرداحي فحسب. أما الحكومة فتبرأت من تصريحات وزيرها وقالت إنها تعبّر عن موقف شخصي لا عن موقف حكومي عام وفق رئيسها، الذي أكد أن موقف حكومته هو التمسك بروابطها مع السعودية ودول الخليج كافةً، وأنه ليس من شأن حكومته التدخل في الشؤون الداخلية للدول، مطالباً الوزير قرداحي بـ “اتخاذ القرار المناسب لإعادة إصلاح علاقات لبنان العربية”، وهو تصريح يحتمل التفسير على أنه يضع أمام قرداحي الاستقالة كواحد من الخيارات.

بالمقابل تمسّك قرداحي بموقعه ورفض المطالب بالاستقالة، وقال إنه جزء من حكومة لا يمكن أن يأخذ فيها قراره مفرداً. واستند أيضاً إلى دعم تيارات عدة في لبنان أولها حزب الله وحركة أمل، اللذين وجدا مثلما قرداحي أن القضية بمجملها “مؤامرة”. فيما اتجه قرداحي لتفسير تصريحه الذي ولّد الأزمة على أنه لا يعتبر تدخلاً في شؤون المملكة أو غيرها، وأنه يكن كل الاحترام للسعودية والإمارات، وما إلى ذلك من محاولات يبدو أنها لن تجديَ نفعاً.

يعرف قرداحي كما تعرف الحكومة اللبنانية أن هذه الأزمة التي قد تؤدي على أقل تقدير إلى مزيد من الضائقة الاقتصادية، إلا أنها تصب في مصلحة وتوجهات حزب الله بشكل من الأشكال، فكل خطّ ينقطع مع دول الخليج يقابله خط يفتَح مع إيران، وهي سياسة اتبعها الحزب وضغط فيها على حكومات لبنانية متلاحقة سابقاً، إذ إن أزمة يتعرض لها البلد الضعيف سيضرب الحزب على صدره مؤكداً أنه قادر على تجاوز الأزمة من خلال حليفه الإيراني، وأزمة الوقود كانت المثال الأوضح في هذا السياق.

أمام ذلك يجد قرداحي نفسه اليوم وقد عُزل إعلامياً من الفضاء الخليجي بشكل عام، وبات صديقُ الأمس عدوَّ اليوم. فقبل أيام من توليه منصبه، أدار حلقة “استثنائية” من برنامجه “من سيربح المليون؟” بمناسبة مرور 30 عاماً على إنشاء شبكة MBC، القناة التي تغلق مكاتبها واستديوهاتها اليوم في لبنان بسبب قرداحي. بالمقابل، فإن تمسّك قرداحي بمنصبه الحالي قد يشكّل بالنسبة له تحدياً شخصياً، وهو ابن برامج التحديات واحتمالات الفوز والخسارة القائمة على شجاعة شخصية أو مغامرة، وليس ابن سلك السياسة التي تفترض دراسة القضية بشكل مختلف تماماً، وعلّها أولى مشكلات تعيين شخص كقرداحي وزيراً، كما أن تعنّته ضد الاستقالة قد يعني أيضاً بالنسبة له مزيداً من التماهي مع طرف هو الأقوى في لبنان اليوم لا شك، وهو حزب الله الذي يرفض استقالته كلياً. لذا فالاستقالة رغم أنها قد تكون الأجدى للحكومة اللبنانية الجديدة اليوم، لكنها ليست بقرار سهل ستتخذه هذه الحكومة أو تفرضه على وزير فيها.

الوجه القديم الجديد

سيرة قرداحي ابن كسروان والذي جاوز السبعين من العمر، كان من الممكن لها أن تستمر كمقدم برامج محترف، من إذاعة مونت كارلو، إلى تلفزيون لبنان، ومن MBC إلى شاشة أبو ظبي فـ LBC، إعلامي تتهافت القنوات على استمالته لتقديم البرامج المنوّعة فيها، والتي عادة ما يتم تسخير مقومات إنتاجية ضخمة فيها، فمن سيقدمها هو الحاصل على جائزة “موريكس دور” عام 2007 كأفضل إعلامي في العالم العربي. ما كان يشوب هذه السيرة بغض النظر عن التقييمات الشخصية له كمقدم برامج، هو أنه بين حين وآخر يعبّر عن موقف سياسي يشي بأنه مصطفّ، وحليف للديكتاتوريات، يعبّر عن إعجابه بالرئيس السوري بشار الأسد بين حين وآخر، ويجد أن حسن نصرالله قائد حزب الله هو الشخصية الأهم في لبنان، تلك المواقف كان لها أن تبقى دون أثر، لو بقيت معبّرة عن مقدم برامج شهير، لكن حين يصبح وزيراً، ستتغير المعادلة من جهتين، الأولى أن آراءه تلك ستأخذ طابعاً راديكالياً كونها باتت صادرة عن رجل سياسي وجزءاً من تشكيلة حكومة في بلد منقسم، يعبّر فيه كل طرف عن نفسه بأقصى ما يمتلك من راديكالية محاولاً فرض نفسه كطرف أقوى، والثانية أن رأيه بات يعبّر عن حكومة كاملة لا عن مجرد شخص، وهو ما تدفع الحكومة اللبنانية اليوم ضريبته.

ما تواجهه حكومة لبنان اليوم وكأنه قدر جاءها من غامض غيب، وهي التي كان من المفترض أنها تتجهز لحل مشكلات قديمة عالقة، وإنقاذ البلاد من جحيم التضخم والفقر، لتجد نفسها تواجه مشكلة ولدت بعد تشكلها، بل إثر تشكلها واحتوائها على أسماء جديدة، أسماء كان من المفترض أنها بمثابة رسالة تحمل رمزيّة التجديد، ومنع تكرار الوجوه ذاتها والمشكلات ذاتها، فما كان من هذه الوجوه الجديدة على العمل السياسي إلا أن وجهت صفعة للبنان تضاف إلى الصفعات التي وجهها له سياسيو الماضي الذين لدى كل منهم ممثل في حكومة “الملياردير التوافقي” كما يحلو للبعض تسمية ميقاتي اليوم، رئيس الحكومة الذي احترف تشكيلها بعد تجربتين سابقتين 2005 و 2011، تحاصصت فيهما الكتل السياسية على الحقائب الوزارية، فأنتجت لبنان اليوم، الذي لا يشبه إلا نفسه.