وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أرض النظام: ملاذ آمن أم شبه حياة

سوريا
مئات السوريين ينتظرون امام نقطة تفتيش عسكرية للخروج من المدينة لشراء المواد الغذائية و الأساسية, بيت السحم دمشق الجنوبي يناير 2015 Photo AP|Associated Press

فقد النظام السوري سيطرته على نحو ثلثي مساحة البلاد على مدى الأعوام الأربعة الماضية من الحرب الدائرة في سورية منذ عام 2011. وفي مارس 2015، لا يزال الأسد يحتفظ بكامل محافظتي طرطوس (ساحل) والسويداء (جنوب)، وقلب العاصمة دمشق، إلى جانب عدد من الطرق الرئيسية بين المحافظات، إلا أنه يتقاسم السيطرة على بقية المحافظات والمناطق السورية بنسب متفاوتة مع مختلف القوى والميليشيات المعارضة. ووفقاً للخبير الفرنسي فابريس بلانشيه يُسيطر النظام السوري على 55 -72  بالمئة من السكان (الذين بلغ عددهم في عام 2011، 23 مليون نسمة).

في عُمق مناطق النظام، تبدو الحياة طبيعية أكثر مما هي عليه في مناطق سيطرة المعارضة، رغم الاكتظاظ الواضح في الكثافة السكانية، إذ تضم هذه المناطق اليوم فئتين من السكان، الأولى هي السكان الأصليين الذين يقطنون هذه المناطق منذ ما قبل الأحداث السورية، والثانية تتكون من النازحين من مناطق الجبهات المشتعلة ومناطق سيطرة المعارضة التي تشهد حصاراً وقصفاً متواصلاً. لكن طبيعية الحياة في مناطق النظام قد لا تعدو كونها مظهراً خادعاً يخفي وراءه ما يخفي من مصاعب وتحديات وأخطار لا يدركها إلا من يعيشها.

وأقل ما يمكن الحديث عنه في هذا السياق هو معاناة سكان هذه المناطق من شح شديد في الطاقة الكهربائية، فعلى الرغم من توفر الكهرباء هنا أكثر من توفرها في مناطق المعارضة، إلا أنها تنقطع لمدة تتراوح بين 12 إلى 20 ساعة في اليوم، ويعود ذلك النقص في الطاقة الكهربائية إلى تضرر الكثير من محطات توليد الطاقة وشبكاتها من أعمال العنف، إلى جانب النقص الحاد في الوقود اللازم لتشغيل المحطات التي لا تزال قائمة.

وفي ظل العقوبات المفروضة على النظام السوري منذ أربع سنوات، وتقطّع معظم طرق النقل الرئيسية، وخسارة البلاد لمعظم مرافق الإنتاج العامة والخاصة بسبب الحرب، غدا عرض السلع الرئيسية في الأسواق قليلاً جداً، إذ لا يمكن للعابر في شوارع مدن النظام إلا أن يلحظ الطوابير الطويلة على محطات الوقود القليلة التي لا تزال تعمل، بعد أن أصبح تأمين بضع ليترات من البنزين أو الديزل مهمة صعبة جداً، وقد انعكس ذلك على وضع شبكة النقل العام، التي أصبحت هي الآخرى غير قادرة على تلبية احتياجات السكان. وإلى جانب ذلك، أصبح وقودا التدفئة والطبخ عملة نادرة يعاني السكان الأمرين للحصول عليهما، ناهيك عن الخبز والأدوية والكثير من السلع والمواد الضرورية الأخرى.

قلة العرض هذه، إلى جانب استنزاف الحرب لمعظم موارد البلاد الاقتصادية، والضرر الشديد الذي لحق بقيمة العملة السورية، دفع بأسعار السلع والخدمات المتوفرة إلى معدلات ضخمة فاقت في بعض الحلات 500%. وإلى جانب كل ما سبق من مسببات لمأساة الأسعار، يرى كثيرون هنا أن أسعار السلع أصبحت خاضعة لأطماع المحتكرين والتجار في ظل غياب كامل لدور الحكومة في ضبطها.

ومما يزيد الأمر سوءاً هو أن هذا الارتفاع الشديد في الأسعار يترافق مع معدلات بطالة تفوق اليوم الـ 40% من مجمل القوى العاملة في مناطق النظام وفقاً للاقتصادي سمير سيفان، فقد أدت موجات النزوح من مناطق سيطرة المعارضة إلى زيادة كبيرة في الطلب على الأعمال التي تلاشت جراء الدمار الذي لحق بمعظم المنشآت والقطاعات الاقتصادية على طول البلاد. وقد دفعت نسب البطالة المرتفعة أعداداً كبيرة من العوائل القاطنة في مناطق النظام إلى الاعتماد على ما يأتيها من مساعدات من أقرباء مغتربين خارج سورية. ولا يمكن للمار في شوراع المدن التي يسيطر عليها النظام أن يغفل مظاهر التسول التي باتت منتشرة على نحو كبير، إلى جانب مظاهر التشرد التي تجسدها عوائل بأكملها تسكن الحدائق العامة وتفترش الأرصفة.

إلى جانب الكثافة السكانية المرتفعة يكمن سبب آخر وراء حالة الاكتظاظ المروري التي لا تطاق في شوراع مناطق النظام، ألا وهو الحواجز الأمنية المنتشرة بكثرة في تلك المناطق والتي لا يخلو منها شارع هناك. أدى انتشار هذه الحواجز إلى جعل التنقل بحد ذاته إحدى المصاعب اليومية للسكان، فالرحلة التي كانت تستغرق 10 دقائق ضمن المدينة قبل الأحداث، أصبحت اليوم تستغرق قرابة الساعتين يقضي العابر معظمها منتظراً دوره على واحد أو أكثر من تلك النقاط الأمنية التي تقوم بالتدقيق في جميع السيارات العابرة وراكبيها.

أهداف النظام

لكن السكان هنا يرون أن الاكتظاظ ربما يعتبر في الحقيقة أقل المشاكل التي تسببها تلك الحواجز سوءاً للحياة في مناطق النظام، فالمرور من حاجز للنظام يعني خطر الاعتقال والذهاب في غياهب معتقلاته وربما ينتهي بالإعدام أو الموت تحت التعذيب.

عناصر الحواجز التابعة للجيش أو الفروع الأمنية تقوم بكثير من الأحيان بالتحرش بالركاب دون سبب، ويبحثون عن أي إشارة تدل أن الشخص لا يدعم النظام أو يتعاطف مع المعارضة لكي يتم إنزاله. ويقول أحد سائقي الحافلات في دمشق أن إبداء أي ردة فعل من الراكب قد تنتهي باعتقاله. “في بعض الأحيان مجرد أن يروا في هويتك أنك من أحد المناطق الثائرة ضد النظام كفيل بأن يبدأوا بالتحرش بك وغالباً ما ينتهي الأمر بأن ينزلوك من الحافلة وتختفي”.

ومن بين أول المُعرضين للاعتقال على حواجز النظام هم الشبان المتخلفين عن خدمة العلم، والتي أصبحت عبئاً ثقيلاً على كاهل السكان. استنزفت الحرب الدائرة في سورية أعداداً كبيرة من أفراد الجيش السوري الذين قضوا في معارك مع قوى المعارضة المختلفة في مناطق مختلفة من الأراضي السورية. ويرى كثير من السوريين أن ذهاب أبنائهم إلى القتال يعني موتهم الحتمي على إحدى الجبهات. فيلجأ كثير منهم إلى تسفير أبنائهم من الشباب المطلوبين للخدمة العسكرية أو الاحتياط خارج البلاد بأي طريقة ممكنة، سواء كانت شرعية أوغير شرعية ومهما كانت مكلفة أو محفوفة بالمخاطر. وإلى حين تدبر هذا الأمر فإن الشباب المطلوبين للخدمة العسكرية يتنقلون متخفين ويحاولون تفادي الحواجز الأمنية أو يدفعون أموالاً طائلة بصورة رشاوى لكي يتم التغاضي عنهم.

“لا أسمح لأولادي بالخروج من المنزل إلا للضرورة وكلما قرع جرس الباب تصيبني حالة من الهلع إذ أخشى أن تكون قوات الأمن أتت لسحب الأولاد إلى الخدمة العسكرية»، يقول أبو سامر وهو أب لأربعة أولاد منهم اثنين متخلفين عن الخدمة العسكرية، ويمتلك محلاً للألبسة في أحد أسواق دمشق.

وبالنسبة للسوريين، عندما يتعلق الأمن بهكذا أمر، ينسى سكان مناطق النظام كل المشكلات الأخرى التي يعيشونها في ظل الحرب. “عندما أفكر بمشكلة أبنائي وكيف أتدبر عدم ذهابهم إلى الجيش، أنسى قلقي من المشكلات الأخرى كالكهرباء والوقود وغلاء الأسعار وتعطل أعمالي، وأنا مستعد أن أدفع كل ما أملك كي أجد لهم مخرجاُ إلى خارج البلاد”.

ورغم أن المظاهر الأمنية والعسكرية المكثفة ينبغي أن تبعث بطريقة ما على الطمأنينة لجهة أنه مناط بها حفظ الأمن وتوفير الأمان، لا يبدو أنها مجدية في هذا الشأن، إذ تشير الإحصائيات إلى انتشار ظاهرة الخطف من أجل الفدية إلى حد كبير في مناطق النظام. وتقدر مجلة الإقتصادي السورية أنه في عام 2014 تم خطف 18,000 سوري مقابل الحصول على فدية. كما نجحت المجموعات المتطرفة في مرات عدة في إيصال السيارات المفخخة إلى قلب مناطق النظام وتفجيرها مما أودى بأرواح كثير من المدنيين.

ووفقاً لمصادر محلية، هنالك أخطار لا تستطيع الحواجز الأمنية منعها عن سكان مناطق النظام حتى إن حاولت ألا وهي قذائف الهاون والصواريخ التي تنهمر عشوائياً في مناطق النظام قادمة من مناطق المعارضة المحاذية لها.

ورغم معالم الألم واليأس والخوف البادية في وجوههم، يروي الناس هنا قصصهم ومعاناتهم بطريقة تعكس أنهم ألفوا الأمر واعتادوا عليه، وتراهم اليوم يحاولون التأقلم مع واقعهم وتطوير آليات تمكنهم من ذلك، لكن من الواضح أنه ليس لديهم أدنى فكرة عما قد يكون عليه الحال غداً.

“في بداية الأمر، كنت ترى حالة من الهلع بين الناس كلما سقطت قذيفة أو حدث تفجير، ويتجنب الناس المرور من المكان الذي تم استهدافه لأيام بعد ذلك”، يقول مهند، وهو طبيب يمتلك عيادة في أحد شوارع دمشق الرئيسية. “اليوم لا يأبه الناس كثيراً، لقد اعتادوا التفجيرات والقذائف ورؤية الموت. فبعد نزول القذيفة بدقائق ترى الناس عادت إلى حياتها الطبيعية وعاد الاكتظاظ في ذات المكان الذي حدث فيه الأمر”.

الدكتور مهند هو آخر فرد بقي من عائلته في سورية، بعد أن نجح إخوته الثلاث باللجوء إلى أوروبا بطرق مختلفة. ويقول مهند إن الأثر النفسي الذي تتركه هذه الظروف فيه كما في غيره أعمق بكثير من الأثر المادي. “لقد تركت هذه الأحداث شرخاً عميقاً بين شرائح وفئات الشعب بين مؤيد ومعارض لن يزول بسهولة، واليوم ترى الناس متوجسة وحذرة حتى في طريقة التحدث إلى بعضها البعض. كما أن هناك شعور بالوحدة والعزلة يطغى على معظم الناس الموجودة هنا، فأغلبهم إما فقد عزيزاً بطريقة ما في الحرب، أو يحن إلى أحبائه الذين غادروا البلاد ولا يعلم إن كان سيلقاهم من جديد”.

user placeholder
written by
veronica
المزيد veronica articles