وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الحريري يُعلق استقالته إلا أن التوتر سيد الموقف مع السعودية

Lebanon- Saad Hariri
Lebanese prime minister Saad Hariri greets his supporters upon his arrival in Beirut on November 22, 2017. Hariri told cheering supporters that he was staying. Photo AFP

يُجمع لبنان بأكمله على خسارة السعودية للحرب الدبلوماسية التي اندلعت في نوفمبر 2017 مع الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، بيد أن الانعكاسات طويلة الأمد للعلاقات بين البلدين لا تزال قيد النظر.

ومن المؤكد أن السعودية لم تنسى تظلمها من حزب الله، الحزب السياسي والميليشيات المدعومة من إيران، الذي بات اليوم يضرب جذور نفوذه، بشكلٍ متزايد، في السياسية اللبنانية. ومع ذلك، أظهرت سلسلة الأحداث الأخيرة أنّ المجتمع الدولي أكثر اهتماماً بالحفاظ على استقرار لبنان من توجيه ضربةٍ لحزب الله أو حتى مساعدة المملكة على تحقيق مكاسب في مجاراتها لإيران.

بدأت أحداث الملحمة السياسية الغريبة في الرابع من نوفمبر 2017، عندما أعلن الحريري عن تقديم استقالته من المملكة العربية السعودية في خطابٍ انتقد فيه إيران لتدخلها بالسياسة اللبنانية، كما اتهم حزب الله بفرض “أمرٍ واقع في البلاد بقوة السلاح.” وأضاف “تسبب تدخل حزب الله لنا بمشكلات مع محيطنا العربي.”

تبع ذلك استخدام المسؤولون السعوديون للهجة عدائية، فقد قال وزير الدولة لشؤون الخليج العربي في وزارة الخارجية السعودية ثامر السبهان إنه سيتم التعامل مع “الحكومة اللبنانية كحكومة إعلان حرب على المملكة” بسبب “الأعمال العدوانية” لحزب الله. كما ادعى السعوديون أن حزب الله ساعد المتمردين الحوثيين في اليمن على إطلاق صواريخ على العاصمة السعودية الرياض، وهو ما ينفيه حزب الله.

وعلى الفور، تسيّد القلق المشاعر في لبنان خوفاً من أن يؤدي الخطاب والاستقالة من اندلاع عنفٍ طائفي جديد أو – لربما يُنذر بشؤمٍ أكبر- بأن تهيىء السعودية لبنان لهجومٍ إسرائيلي من خلال التخلص من شخصيةٍ حكومية رائدة كانت معارضةً لحزب الله، ظاهرياً على الأقل. فيما رأى آخرون بالأحداث تمهيداً للطريق أمام السعوديين لفرض حصارٍ اقتصادي، مماثل لذلك المفروض على قطر، على لبنان.

وخلافاً لقطر، التي تعد المُصدّر الرئيسي للغاز الطبيعي في العالم ولديها احتياطيات مالية كبيرة تمنعها من اللجوء إلى غيرها من الدول، إلا أن لبنان غير مهيأ لمواجهة مثل هذه الضربة الاقتصادية، خاصة إذا ما طردت المملكة العربية السعودية وحلفاؤها مئات الآلاف من المواطنين اللبنانيين العاملين في الخليج.

وببساطة، كان من الممكن أن تتفاقم الأزمة، إلا أنّ القادة السياسين اللبنانيين، وفي مشهدٍ نادرٍ للوحدة، سواء أولئك المنتمين لحزب الله أو المعارضين له، وقفوا وقفة الرجل الواحد مطالبين بعودة الحريري. كما أكد الرئيس ميشال عون أن الحريري، وهو من مواطني المملكة العربية السعودية وكذلك لبنان، محتجزٌ كرهينة من قبل المملكة ورفض قبول استقالة الحريري إلى حين عودته إلى لبنان. اقترنت الاحتجاجات الشعبية في شوارع لبنان بالضغوطات الدولية، فلم تكن أوروبا والبعض على الأقل في الولايات المتحدة يتوقون لرؤية الاستقرار الهش في لبنان يتبدد، فضلاً عن احتمالية اندلاع حربٍ أخرى في المنطقة، خاصة وأن البلد يستضيف بالفعل ما يقدر بنحو 1,5 مليون لاجىء سوري.

فالرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يتمتع بعلاقاتٍ وثيقة مع المملكة العربية السعودية، كما أن صهره، جاريد كوشنر، كان قد زار المملكة والتقى بولي العهد محمد بن سلمان قبل فترةٍ وجيزة من تكشف فصول مسرحية الحريري. ومع ذلك، أصدر وزير الخارجية ريكس تيلرسون بياناً بدى فيه أنه ينتقد الدور السعودي في استقالة الحريري، وحث “جميع الأطراف داخل لبنان وخارجه على احترام نزاهة واستقلال المؤسسات الوطنية الشرعية،” مضيفاً أن ” الولايات المتحدة تحذر من أن يستخدم أي طرف -من الداخل أو الخارج- لبنان مكانا لنزاعات بالوكالة، أو بأي صورة تساهم في زعزعة استقرار هذا البلد”.

وفي نهاية المطاف، غادر الحريري المملكة العربية السعودية إلى فرنسا – التي يحمل جنسيتها أيضاً – وعاد في نهاية المطاف إلى لبنان، حيث علق استقالته ويبدو على أتم الاستعداد لسحبها.

ويبدو أن ذوبان الجليد قد عزز، على المدى القصير على الأقل، من شعبية الحريري في الداخل، بما في ذلك بين مؤيدي حزب الله الذين كانوا في السابق يعتبرونه نداً لهم، مما أضعف الدعم موقف المملكة العربية السعودية. وفي الوقت نفسه، استطاع حزب الله أن يظهر بمظهر العقلاني بعدم ابتلاع الطعم الوارد في خطاب استقالة الحريري، بل أصرّ الحزب على أن رئيس الوزراء أدلى بتصريحاته هذه تحت الإكراه. لعب عون دور رجل الدولة، الذي وحد البلاد.

ومع ذلك، لم يستسلم السعوديون بالكامل، فقد صرح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في مؤتمرٍ عقد في روما في مطلع ديسمبر الجاري أن حزب الله “خطف” السيادة اللبنانية وأن لبنان لن يكون قادراً على “البقاء أو الازدهار” إلا إذا تم نزع سلاح حزب الله- وهي مسألة غير محتملة إلى حدٍ كبير في هذه المرحلة.

فالحريري ذات نفسه سار على حبل السياسة المشدود منذ عودته، إذ واصل انكار الضغوطات السعودية بإجباره على الاستقاله أو حتى احتجازه دون إرادته، فضلاً عن إشارته لولي العهد السعودي بـ”المعتدل الذي يريد انفتاح بلاده،” وذلك في لقاءٍ له مع مجلة باري ماتش الفرنسية.

كما انتقد “تدخل حزب الله في شؤون دول الخليج،” إلا أنه استخدم لهجة دبلوماسية إلى حدٍ ما فيما يتعلق بمسألة الأسلحة، إذ قال “لحزب الله” دور سياسي في لبنان. لديه أسلحة بالتأكيد، ولكنه لا يستخدمها على الأراضي اللبنانية. إن مصلحة لبنان هي بضمان عدم استخدام هذه الأسلحة في أماكن أخرى.”

كما واصل منافس الحريري من الطائفة السُنية، أشرف ريفي، الإعراب عن دعمه للسياسات السعودية ووصف تفاهمات عون والحريري مع حزب الله بـ”الإهانة لذكرى [الشهداء] الذين ثاروا من أجل الحرية والسيادة.”

بيد أنه عند هذه المرحلة، لا يبدو أن ريفي وغيره من السياسيين السنة المتشددين يمتلكون الدعم الكافي لعزل الحريري، كما أن الخيارات السعودية في لبنان محدودة. وكما أشار سامي عطا الله ونانسي عزالدين من المركز اللبناني للدراسات السياسية في تحليلٍ حديث، فإن العقوبات الاقتصادية من المحتمل أن تضر السُنة أكثر من القاعدة الشيعية لحزب الله، خاصة وأن مؤيدي حزب الله أقل اعتماداً على الدولة في الوظائف والخدمات.

إذ قالا “يمكن لمحاولات ممارسة ضغط اقتصاديّ أنّ تعزّز المجموعة نفسها الّتي يصبّ السعوديّون جلّ جهودهم لإضعافها. فلن يعود الدفع بالبلاد إلى الهاوية بأيّ مكاسب، بل على العكس، فمن شأن ذلك أن يفاقم التطرّف أو أن يؤدي إلى فوضى أو حتّى إلى تعزيز النفوذ الإيرانيّ في سراديب السلطة في بيروت.”

أما بالنسبة لدور إسرائيل، ففي حين لم تكن تميل إلى الدخول في صراعٍ مع حزب الله في هذه المرحلة، إلا أن المصالح السعودية والإسرائيلية تتفق مع رغبتهما إضعاف النفوذ الإيراني وقوته العسكرية في المنطقة. وقد أشار تحليلٌ حديث نشره مركز بيغن- السادات للدراسات الاستراتيجية، وهو مركز أبحاث إسرائيلي، أن على المملكة العربية السعودية وإسرائيل اغتنام فرصة الأزمة في لبنان “لتعزيز التعاون وراء الكواليس” وزيادة الضغط على الولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى للحد من النفوذ الإيراني. كما ذكر التحليل أيضاً أنه “ينبغي ألّا تفشل [اسرائيل] في الاستفادة من احتمال سقوط الحكومة اللبنانيّة كلياً في أيدي حزب الله من أجل تمهيد الطريق لعملية عسكريةٍ مستقبليةٍ في لبنان، حتى لو لم يتم التخطيط لهذه العملية في المستقبل القريب.”

ولا يزال موقف لبنان بين القوى الإقليمية محفوفاً بالمخاطر، ولكن يبدو أن الهدوء والدبلوماسية سيسودان في المستقبل القريب على الأقل.