وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هيئة تحرير الشام والقاعدة: رفقاء أم خصوم؟

هيئة تحرير الشام
مقاتلون سوريون يشاركون في معركة وهمية تحسباً لهجوم يشنه النظام على محافظة إدلب وريفها، أثناء تخريج عناصر جدد تابعين لهيئة تحرير الشام في أحد المعسكرات في ريف محافظة إدلب الشمالية، في 14 أغسطس 2018. Photo AFP

يدور الكثير من الجدل في الغرب حول الجماعة الإسلامية المتمردة هيئة تحرير الشام و طبيعة علاقاتها مع تنظيم القاعدة. وبشكلٍ تقليدي، يتم تصنيف هيئة تحرير الشام باعتبارها جماعةً تتبع تنظيم القاعدة، استناداً إلى حقيقة أن المقوّمات الأساسية لهيئة تحرير الشام قد تطورت من جبهة النصرة، التي كانت الجماعة الرسمية التابعة للقاعدة في سوريا. بيد أن النقاد يشيرون إلى خلافاتٍ واسعة بين هيئة تحرير الشام والقاعدة التي ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي، تُثار العديد من الأسئلة ﺣﻮل ﻃﺒﻴﻌﺔ هذه اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت وﻟﻤﺎذا، بالرغم من وجودها، لا تزال هيئة تحرير الشام تُصنف على أنها جماعة منبثقة من القاعدة.

كانت القوة الدافعة وراء تشكيل هيئة تحرير الشام هو المفهوم قديم العهد لـ “الوحدة” بين التمرد السوري: أمرٌ يُنظر إليه على أنه ضروري جداً في ضوء الخسائر الجسيمة التي عانى منها التمرد، مع تأكيد الحكومة السورية السيطرة على جميع المدن الرئيسية في البلاد. بلغة قادة هيئة تحرير الشام، كان السعي من أجل الوحدة عبر كيانٍ واحد من خلال قطع العلاقات مع القاعدة من “مصالح الجهاد.”

من الناحية العملية، لم تكن تعني هذه “الوحدة” المفترضة دمج جميع الفصائل في الميدان، بل جماعة واحدة (أي هيئة تحرير الشام)، مؤكدةً الهيمنة مع قوةٍ عسكرية واحدة مجسدة في مقاتليها إلى جانب نظام حكمٍ واحد (في هذه الحالة، حكومة إنقاذٍ مدعومة من هيئة تحرير الشام). ومع ذلك، يزعم قادة هيئة تحرير الشام أنه عندما قال أيمن الظواهري بنفسه ذات مرة إن وحدة “المجاهدين” يجب أن تسمو فوق العلاقات التنظيمية، فليس هناك ما هو غير مشروع في تشكيل هيئة تحرير الشام وانفصالها عن القاعدة.

وعلى العكس من ذلك، يؤكد مؤيدو القاعدة أن زعماء هيئة تحرير الشام قد عصوا الظواهري واتخذوا خطواتٍ دون مشورةٍ مناسبة. فعلى سبيل المثال، قبل تشكيل هيئة تحرير الشام في يناير 2017، أعادت جبهة النصرة تغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام في يوليو 2016، والذي تم تقديمه إلى وسائل الإعلام باعتباره نوعاً من الإنفصال عن القاعدة. ومع ذلك، فقد تم تقديم ذلك للظواهري كتحولٍ من ولاءٍ علني إلى آخر سري للقاعدة. وعليه، رفض الظواهري هذه الخطوة. يدعي سامي العريدي، وهو مسؤولٌ أردني رفيع سابق في جبهة النصرة، أنه بعد أن أشار الظواهري إلى رفضه لإعادة تسمية الجماعة، تعهد أبو محمد الجولاني (الذي كان آنذاك قائداً لجبهة فتح الشام والآن زعيم هيئة تحرير الشام)، بعدم اتخاذ أي خطوات لقطع العلاقات دون استشارة الظواهري والحصول على موافقته.

إلى جانب الخلاف حول ما إذا كان تشكيل هيئة تحرير الشام مشروعاً أم لا، طفى خلافٌ حول الاستراتيجية في الميدان. فعلى سبيل المثال، من وجهة نظر الظواهري، لا ينبغي للجهاد في سوريا أن يركز في الوقت الحاضر على السيطرة على الأراضي وإدارتها، بل على حرب العصابات من أجل استنزاف العدو على المدى الطويل. وفي هذا الصدد، رفض أنصار القاعدة حكومة الإنقاذ المرتبطة بهيئة تحرير الشام.

Syria Terrain Control and Militants 3000 AR
المصادر: Wikipedia, Institute for the Study of War and web.standford.edu. إضغط للتكبير. @Fanack ©Fanack CC BY 4.0

في الوقت نفسه، وضعت هيئة تحرير الشام خطوطها الحمراء الخاصة فيما يتعلق بالحكم مما تركها مفتوحةً أمام اتهامات الجهاديين بتهديد المبادىء. على سبيل المثال، أوضحت الجماعة رفضها للديمقراطية، على الرغم من أن قادتها يرون أن معظم المسلمين الذين يعتقدون أن الديمقراطية تتوافق مع الإسلام يفعلون بدافع الجهل، وبالتالي لا يحتاجون سوى إلى التوجيه والتثقيف بلطف. علاوةً على ذلك، هناك تركيزٌ ثابت على الشريعة الإسلامية باعتبارها المرجع الوحيد في الحكم. كما لم يتغير موقف الجماعة تجاه الأقليات البدعية مثل الدروز والعلويين. هناك، على سبيل المثال، مجتمع صغير من الدروز في شمال إدلب، مركز التمرد المتبقي في سوريا، الذي اضطر سكانه إلى اعتناق الإسلام من قبل سلف هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة، في عام 2015. وحتى الآن، لا تزال الشكاوى من المعاملة التمييزية قائمة.

نقطة خلافٍ رئيسية أخرى بين هيئة تحرير الشام والقاعدة تتمثل في العلاقات مع الجهات الفاعلة الدولية. بالنسبة لهيئة تحرير الشام، من خلال جعل نفسها الجهة الرئيسية المهيمنة في إدلب وما حولها، ستضطر الجهات الفاعلة الدولية إلى الاعتراف بها والتعامل معها حتى وإن وصفوا الجماعة بأنها منظمة إرهابية. في مبادىء هيئة تحرير الشام، يعتبر هذا “علاقاتٍ متوازنة” مع الجهات الفاعلة ذات الصلة.

إن أوضح حالة في هذا السياق هي تركيا التي وافقت في إطار محاولتها منع تدفق اللاجئين إلى أراضيها على إطار “خفض التصعيد” مع روسيا وإيران. لفرض “خفض التصعيد” في شمال غرب سوريا، أقامت تركيا بؤراً عسكرية حول إدلب لمنع الهجوم العسكري من قبل الحكومة السورية وحلفائها. ومع ذلك، بما أن هيئة تحرير الشام هي الجهة المسيطرة في المنطقة، توجب على تركيا إقامة معظم مواقعها العسكرية الأمامية بالتنسيق مع هيئة تحرير الشام، التي سمحت بإنشائها شريطة احتفاظ هيئة تحرير الشام بقرار شن الهجمات وعدم تدخل تركيا بالشؤون الإدارية.

والنتيجة؛ علاقة معقدة بين تركيا وهيئة تحرير الشام. فقد سبق وأدرجت تركيا هيئة تحرير الشام كمنظمةٍ إرهابية، واعتقلت أفراداً داخل تركيا للاشتباه بصلاتهم بهيئة تحرير الشام، ووقعت اتفاقية مع روسيا في سبتمبر 2018 تشير إلى “تصميم تركيا ورسيا على مكافحة الإرهاب في سوريا بكل أشكاله ومظاهره.” من المفترض أن يتضمن هذا الشرط اتخاذ إجراءات ضد هيئة تحرير الشام، ولكن على أرض الواقع لم تكن تركيا ترغب في شن هجومٍ ضد هيئة تحرير الشام بالطريقة التي قاتلت بها تنظيم الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني.

في غضون ذلك، قال قادة هيئة تحرير الشام إنهم لن يعارضوا الهجوم التركي ضد حزب العمال الكردستاني في مناطق شرق نهر الفرات لأن تركيا (التي تعتبر قوة “علمانية”) أقل شراً من حزب العمال الكردستاني (الذي يعتبر “كافراً”)، بالرغم من أن هذا لا يعني أن هيئة تحرير الشام ستشارك في هذا الهجوم.

إلا أن أنصار القاعدة يعتقدون أن هيئة تحرير الشام تلعب لعبةً خطرة مع تركيا تضر بالجهاد وتؤدي إلى تنازلاتٍ غير مقبولة بالمبادىء. وكما كتب حساب شبل العقيدة المؤيد للقاعدة في الآونة الأخيرة على تيلغرام: “ولن يرضى عنك الأتراك مهما قدمت لهم من تنازلات، حتى تنخلع من كل مبادئك فاحذر يا من دخلت في هذا الطريق الخطر.”

وبالنظر إلى هذه التناقضات المختلفة، التي تعتبر حقيقةً واضحة، يظل السؤال هو لماذا تم، بشكلٍ تقليدي، إدراج هيئة تحرير الشام على قائمة المجموعات الإرهابية على أساس كونها تابعة لتنظيم القاعدة. من غير المحتمل، على سبيل المثال، أن تكون المخابرات الأمريكية غير مدركة لهذه النزاعات. وعلى هذا النحو، لربما يكون إدراجها تم لأسباب عملية.

على الأرض في سوريا، اجتمعت العديد من العناصر التي تعلن الولاء للقاعدة، بما في ذلك بعض المنشقين من هيئة تحرير الشام، في تنظيم يسمى حرّاس الدين. تم الإعلان عنه رسمياً في أواخر فبراير 2018، على الرغم من وجوده قبل ذلك. حرّاس الدين هو جزءٌ من غرفة عملياتٍ صغيرة للمتمردين تدعى “وحرّض المؤمنين.” وفي هذا الصدد، فإن حلفاء حراس الدين الرئيسيين هم جماعة أنصار الإسلام (جماعة جهادية نشأت في العراق ولكنها توسعت إلى سوريا خلال الحرب الأهلية، على الرغم من أن جماعة العراق الأصلية قد أهلكت بسبب صعود تنظيم الدولة الإسلامية)، وجبهة أنصار الدين (جماعة جهادية سورية انفصلت عن هيئة تحرير الشام).

ومع ذلك، فمن الخطأ أن نفترض أن حراس الدين قائمٌ بطريقة ما بمعزلٍ عن هيئة تحرير الشام. وبالنظر إلى هيمنة هيئة تحرير الشام، فلا يمكن لتنظيم حراس الدين التواجد في معزل، ولا يمكنه أيضاً القيام بعملياتٍ دون معرفة هيئة تحرير الشام. في الواقع، عقد تنظيم حراس الدين عدة اجتماعاتٍ مع هيئة تحرير الشام، التي تتعلق جزئياً بنزاعٍ على الأسلحة في عهدة هيئة تحرير الشام والتي يدعى حراس الدين ملكيتها، إلى جانب اجتماعاتٍ عقدت مؤخراً للتشاور حول اقتراح هيئة تحرير الشام بإنشاء “مجلس عسكري” أكبر.

اندلعت الخلافات مرةً أخرى في نهاية يناير 2019، إلا أن الجانبين توصلوا اليوم إلى اتفاقٍ لوقف استفزازات وسائل الإعلام ضد بعضهما البعض، وتنحية النزاع حول الأسلحة. ومع ذلك، هناك ادعاءاتٌ بأن بعض نقاط المواجهة الأمامية التي يديرها أفراد من حراس الدين تخضع لإشراف هيئة تحرير الشام، التي يُزعم أنها مسؤولة عن نفقاتها.

السبب الآخر المحتمل لإبقاء هيئة تحرير الشام على قائمة المنظمات الإرهابية هو علاقاتها الأوسع نطاقاً مع المقاتلين الأجانب. تتمثل أحد مبادىء هيئة تحرير الشام بحماية المقاتلين الأجانب وعدم السماح باستخدامهم كأداة مقايضة في المفاوضات. وفي الآونة الأخيرة، أعلن عدد من الأجانب (بعضهم في هيئة تحرير الشام) وشبكات المقاتلين الأجانب دعمهم لهيئة تحرير الشام ومشروعها الأوسع، بما في ذلك مجموعة أسسها معتقلون سابقون في معتقل غوانتانامو (شام الإسلام) والحزب الإسلامي التركستاني بقيادة الأويغور، الحزب الذي يمثل وجوده في سوريا مصدر قلقٍ كبير للصين.

على أي حال، فإن قدرة الغرب على المراقبة والتأثير على الديناميات الجهادية الداخلية في شمال غرب سوريا محدودة نوعاً ما. يرجع ذلك لأن الغرب مستثنى من إطار التهدئة في المنطقة، وبالتالي، يُمنع، من بين أمورٍ أخرى، من استخدام المجال الجوي لشن ضرباتٍ جوية دقيقة ضد الأفراد الذين يعتبرون خطيرين.