وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

كيف تمكنت إيران من كسر الجمود الاستراتيجي الذي خلقته الولايات المتحدة

US nuclear deal
إيرانيون يحرقون صور الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في مظاهرة مناهضة للولايات المتحدة خارج المقر السابق للسفارة الأمريكية في العاصمة طهران، في 9 مايو 2018. Photo: ATTA KENARE / AFP

عندما وقّعت طهران خطة العمل الشاملة المشتركة، المعروفة باسم الاتفاق النووي الإيراني، في عام 2015، كانت تأمل في تحسين العلاقات مع الغرب. ومع ذلك، لم يتمكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما على حث الكونغرس التصديق على الإتفاق ليترك التزام واشنطن خاضعاً لإعفاء رئاسي كل ثلاثة أشهر. وعليه، استخدم خليفته، دونالد ترمب، هذا الإعفاء لسحب الولايات المتحدة من الإتفاق في عام 2018.

وعلى الرغم من انتهاك قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2231، أعادت واشنطن فرض عقوبات أحادية الجانب على إيران والتي تم رفعها كجزءٍ من الإتفاق، بهدف إجبار إيران على الموافقة على شروطها المتعلقة بالقضايا الإقليمية وكذلك برنامج الصواريخ البالستية الإيرانية؛ وسيلة الدفاع الرئيسية في البلاد وفقاً للمسؤولين الإيرانيين.

بالنسبة لإيران، لم تكن الخيارات المتاحة مثالية، إذ تمثل الخياران الرئيسيان بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة، الأمر الذي سرعان ما كان سيمنح الولايات المتحدة مبتغاها: إجماعاً دولياً ضد إيران على جدول أعمال ترمب. أو تجرّع ألم العقوبات ومواصلة العمل مع أطراف أخرى في الإتفاق، على أمل أن تساعد تلك الأطراف إيران على التحايل على العقوبات. وعليه، لجأت إيران للخيار الثاني.

وبعد مرور عام، واجهت طهران حقيقة مرّة أخرى: الأطراف الأخرى في الإتفاق لم تلتزم بتنفيذه كما هو متوقع، وأوقفت تقريباً جميع أعمالها التجارية مع إيران، خوفاً من الانتقام الأمريكي في حال لم يفعلوا ذلك.

رداً على هذا، تبنت طهران سياسةً مدروسة جديدة تنطوي على بُعدين: الأول كان تراجعاً تدريجياً في التزامات إيران تجاه خطة العمل الشاملة المشتركة. وعلى الرغم من أن المسؤولين الإيرانيين يصرون على أن الخطوات الأربع المتخذة في هذا الصدد تتفق مع خطة العمل الشاملة المشتركة، إلا إنها لا تتفق مع موقف إيران السابق بالامتثال الكامل. والثاني كان موقفاً أكثر قوة تجاه الضغط العسكري الأمريكي على البلاد، والذي بلغ ذروته مع إسقاط طائرة تجسس أمريكية بدون طيار في يونيو 2019.

من خلال هذه الإجراءات، عرضت طهران الخيارات التي يمكن أن تتوصل إليها إذا حاصرتها الولايات المتحدة. وبالفعل، نجحت هذه السياسة الجديدة في إبعاد أنظار العالم عن برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية وأنشطتها الإقليمية وتركيزها مجدداً على برنامجها النووي.

في المنطقة، ظل حلفاء الولايات المتحدة الذين دعموا وسعِدوا بانسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل المشتركة الشاملة وتوقعوا القيام بعمل عسكري محدود على الأقل من جانب واشنطن ضد طهران، يصرون على أن إيران تشكل تهديداً للاستقرار الإقليمي. تضمّنت حججهم، على الرغم من اختلاف تفاصيلها، في افتراضين: الأول هو أن تضخيم “تهديد إيران” من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة في النهاية إلى القيام بعمل عسكري، مما يقوض مكانة إيران الإقليمية ويغير ميزان القوى الإقليمي لصالحها. الافتراض الثاني هو أن إيران لا تمتلك لا القدرة العسكرية ولا الإرادة لتحمل هجومٍ أمريكي.

كان الافتراضان موضع شكٍ كبير بعد الإجراءات المذكورة أعلاه التي اتخذتها طهران وحلفاؤها الإقليميون. فقد أظهر ترمب ضبطاً للنفس عندما تعلق الأمر باستهداف مواقع إيرانية بعد أن أسقطت إيران طائرة أمريكية مُسيّرة – حتى وسط إدعاء إدارته أن الحادث وقع في المجال الجوي الدولي. كما أن صمته على استهداف ناقلات النفط داخل وخارج مضيق هرمز وهجوم 14 سبتمبر على محطات إنتاج النفط الرئيسية في المملكة العربية السعودية قد قوض فرضية شن هجومٍ عسكري أمريكي وشيك ضد إيران – على الأقل إلى حين موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة. وعلاوةً على ذلك، بالإضافة إلى إظهار قدرتها العسكرية، كان المقصود من إسقاط إيران للطائرة المسيّرة إرسال رسالة واضحة حول استعدادها للانخراط عسكرياً في حال هجوم الولايات المتحدة.

كان التحول الاستراتيجي الإيراني موجهاً نحو الولايات المتحدة وممارسة سياسة “أكبر قدرٍ من الضغط،” وليس نحو حلفائها الإقليميين. ومع ذلك، في الوقت الذي تحاول فيه ردع الولايات المتحدة، أثرت السياسة الإيرانية على حسابات وسياسات خصومها وأعدائها الإقليميين بشكلٍ كبير.

فقد تفاجأت إسرائيل من إسقاط الطائرة الأمريكية المسيرة، إذ لا تستند سياستها إلى قدرة إيران على إشعال المواجهة واختيار توقيتها، بل على إيران سلبية لا ترد إلا على هجومٍ أمريكي/ إسرائيلي على نطاقٍ محدود. وعلى هذا النحو، لم ترغب إسرائيل في أن تستهدف الولايات المتحدة طهران خوفاً من الانتقام من قبل ما يسمى بمحور المقاومة- إيران وحلفاؤها الإقليميون.

بالنسبة للسعوديين، مثّل ترمب فرصةً لتحويل ميزان القوى الإقليمي بعيداً عن إيران، إذ أوضحوا أنهم سيعوضون مقدماً أي تحرك للولايات المتحدة في هذا الاتجاه إما عن طريق المشتريات العسكرية أو الاستثمارات المباشرة في الولايات المتحدة. ومع ذلك، تبددت آمالهم بعد خطاب ترمب وتحديده أولوياته بـ”أمريكا أولاً،” وكذلك تحفظه في أعقاب الهجمات على ناقلة النفط وحادثة الطائرة المسيرة. كما فقدوا ما تبقى من أملٍ لديهم عندما تغاضى ترمب عن الهجوم على منشآت إنتاج النفط في أرامكو السعودية. وعليه، سرعان ما انتشرت شائعاتٍ عن محادثات مصالحة بين إيران والسعودية.

وبالمثل، انحرفت الإمارات العربية المتحدة عن مسار سياستها الأولى المناهضة لإيران والمؤيدة لممارسة أقصى قدرٍ من الضغط، وخففت من حدّة خطابتها وعقدت عدة جولاتٍ من المحادثات المباشرة مع الإيرانيين.

ركزت إستراتيجية إيران في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل المشتركة الشاملة على هدفين؛ الأول هو التصدي لسياسة ممارسة أكبر قدرٍ من الضغط بهدف إثبات عدم أهميتها بدفع إيران نحو طاولة المفاوضات بشروط الولايات المتحدة، بينما تمثل الهدف الثاني في إحداث شرخٍ بين الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، وخاصة جيران إيران العرب.

يبدو أن الوضع يسير في الاتجاه المطلوب لإيران، ولكن لا تزال الريبة في أعلى مستوياتها، لا سيما في ضوء الاحتمالات غير الواضحة بولاية ثانية لترمب وتراجع إيران المستمر بالتزاماتها بخطة العمل الشاملة المشتركة.

ومع ذلك، هناك بعض الدلائل الإيجابية، لا سيما الموقف الجديد لدولة الإمارات العربية المتحدة، والمحادثات الإيرانية السعودية التي تجري خلف الكواليس وتراجع حدة الخطاب المتبادل بين طهران والرياض وأبو ظبي – على الأقل على المستوى الرسمي. وبالرغم من ذلك، شيءٌ واحد مؤكد: كسرت طهران الجمود الاستراتيجي الذي كان من المفترض أن يخلقه جدول الأعمال الأمريكي. وبالتالي، يجدر بالتطورات المستقبلية أخذ هذا الواقع بعين الإعتبار.