وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حكم المحكمة الجنائية الدولية بالنسبة لفلسطين يختبر النظام الدولي

war on Gaza 2014 Palestine
والدة وشقيق محمد، أحد الأطفال الأربعة من عائلة بكر الذين قُتلوا خلال الحرب الإسرائيلية على غزة 2014، يزورون قبره في مخيم الشاطئ في مدينة غزة في 7 فبراير 2021. Photo: MAHMUD HAMS / AFP

نور عودة

أصدرت الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية في 5 فبراير الجاري حكماً بالأغلبية بتأكيد اختصاص المحكمة على أراضي فلسطين، التي تضم الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية وقطاع غزة، إذ جاء الحكم بعد قرابة العام من الطلب الذي تقدمت به المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا.

وكما أقرت المدعية العامة في طلبها، لم يكن الحكم مطلوباً من الناحية القانونية أو الإجرائية للشروع في فتح تحقيقٍ في جرائم حربٍ محتملة ارتكبت في فلسطين، التي ذكرت السيدة بنسودا أنها تمتلك أدلةً كافية للاعتقاد بارتكابها. ومع ذلك، كان الطلب مؤشراً آخر على الحساسيات التي تعاملت معها المدعية العامة فيما يتعلق بالحالة في فلسطين، بما في ذلك طابعها الفريد باعتبارها حالة في ظل احتلالٍ طويل الأمد تحظى باهتمام دولي لا مثيل له وإن كان مستقطباً. وخلال العام التالي بعد تقديم الطلب، تعرضت المحكمة الجنائية الدولية والمدعية العامة نفسها ومكتبها لعقوبات أمريكية فرضتها إدارة ترمب المعادية.

وعليه، لم يكن من المستغرب احتفال الفلسطينيين بالحكم، ففي نهاية المطاف، قضى الفلسطينيون عقوداً محاولين فحسب طرق أبواب المحكمة. واليوم، بعد أن حظيت فلسطين بمقعدٍ على الطاولة كدولةٍ طرف في أعقاب انضمامها إلى نظام روما الأساسي، بات التحقيق الذي طال انتظاره في جرائم الحرب الإسرائيلية محتوماً. فقد رحبت وزارة الخارجية الفلسطينية بالإعلان، إذ قالت في بيانٍ لها “سيكون حق الشعب الفلسطيني المتأصل في السعي بتحقيق العدالة والمساءلة في المتناول ولن يتم إنكار العدالة بعد اليوم.”

من جهتها، قالت المندوبة الدائمة لدولة فلسطين لدى المحكمة الجنائية الدولية، السيدة روان سليمان، لفَنَك: “هذه الخطوة مهمة لأنها تمنح الفلسطينيين الأمل في أن العدالة ممكنة وأن حقوقهم وحياتهم مهمة.”

في الوقت نفسه، رحبت منظمات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية بالحكم باعتباره خطوة مهمة نحو تحقيق المساءلة. وقالت منظمة بتسيلم الإسرائيلية إنها تأمل في أن يؤدي “القرار التاريخي” إلى وضع حدٍ للإفلات من العقاب.

ومع ذلك، لم يحتفل الجميع بإمكانية محاكمة الإسرائيليين على جرائم الحرب، وكما كان متوقعاً، انفجر رئيس الوزراء الإسرائيلي غضباً، وكال الاتهامات بالتسييس والنفاق وحتى معاداة السامية للمحكمة، ومن جهتها، سرعان ما أكدت إدارة بايدن، التي لم ترفع العقوبات التي فرضها ترمب على المحكمة الجنائية الدولية، معارضتها لقرار الدائرة التمهيدية وشككت في عضوية فلسطين في المحكمة. كما حذت أستراليا وكندا والمجر والبرازيل والنمسا وجمهورية التشيك وألمانيا وغيرها من الدول حذوها، مصدرين بياناتٍ متماثلة تقريباً بما يتماشى مع السرد الإسرائيلي، بينما رد الفلسطينيون باتهام هذه الدول بتسييس عمل المحكمة ومحاولة الضغط على المحكمة الجنائية الدولية، مضيفين: “إن وجود دولة فلسطين هو حقيقة قانونية وسياسية لا يمكن تجاهلها أو إنكارها، ولا بد للحكومات التي ما زالت تنكر هذه الحقيقة أن تعود للصواب وأن تصطف إلى الجانب الصحيح من التاريخ في هذا الصدد.”

وعلى الرغم من الضوضاء التي رافقت إعلان الحكم، ما يزال الطريق نحو قاعة المحكمة الجنائية الدولية طويلاً. فأولاً، ينبغي على المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولة إعلان بدء تحقيق رسمي وذلك على الرغم من حكم الدائرة التمهيدية بأنه من الناحية القانونية، يعتبر القضاة التحقيق جارٍ بالفعل.

وفي حين استمر الفحص الأولي لـ”الوضع في فلسطين” ما يقارب خمس سنوات، فإن بعض التحقيقات في المحكمة الدولية مستمرة منذ ستة عشر عاماً. وعليه، يمكن في غضون ذلك أن تسوء الكثير من الأمور، إذ يتضمن ذلك تدخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بناءً على طلب من أحد أعضائه الدائمين، ويأمر المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بتعليق التحقيق لمدة اثني عشر شهراً قابلة للتجديد. ومع ذلك، يبدو أن مثل هذا السيناريو غير مرجح في الوقت الحاضر، ذلك أنه سيشكل سابقة خطيرة للتدخل قد لا يرغب أعضاء مجلس الأمن في إشعالها.

ومن الجدير بالذكر أن إسرائيل أعلنت بالفعل أنها لن تتعاون مع المدعية العامة. ونظراً لعدم كون إسرائيل دولةً طرف في المحكمة الجنائية الدولية، فهي غير ملزمة بالتعاون في تحقيقها، بيد أن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية قد يكون محرجاً للدول المتحالفة مع إسرائيل الذين هم أعضاء مؤسسون للمحكمة. وعلى عكس إسرائيل، يعتبر تعاونهم مع المحكمة مطلوباً، إذ سيتجلى ذلك على نحوٍ خاص في حال تم إصدار أوامر اعتقال دولية للإسرائيليين. ففي الماضي، انصاعت دولٌ مثل المملكة المتحدة تحت الضغط الدبلوماسي وأحبطت استخدام تأييد البلاد للولاية القضائية العالمية لجرائم الحرب من خلال محاربة مذكرات الاعتقال بحق تسيبي ليفني وإيهود باراك. كما اتخذت إسبانيا خطواتٍ للحد من تشريعاتها الخاصة بالولاية القضائية الدولية بعد محاولات لإصدار أوامر اعتقال للمسؤولين الإسرائيليين.

ومن الناحية التقنية، ودون تعاونٍ إسرائيلي، سيكون تقديم المعلومات والوثائق والشهود أكثر تعقيداً بالنسبة للمدعية العامة أثناء التحقيق، إذ ستعني هذه العرقلة أيضاً عدم الوصول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس، حيث تسيطر إسرائيل على جميع المعابر الحدودية الفلسطينية. وفي حين أن هذه الصعوبات ليست مستعصية على الحل أو فريدة من نوعها بالنسبة لفلسطين، فإنها ستؤدي بلا شك إلى إبطاء التحقيق وتشكل تحديات خطيرة أمام الادعاء.

ورغم هذه الصعوبات، تقول السفيرة الفلسطينية روان سليمان إن التحقيق سيكون له تأثير على عدة مستويات، “إن التحقيق مع المسؤولين الإسرائيليين ومحاكمتهم في نهاية المطاف على الجرائم التي ارتكبوها سيكون بمثابة طي للصفحة نوعاً ما بالنسبة للضحايا الفلسطينيين. فهم ليسوا مضطرين بعد الآن للمعاناة في صمت، إذ ستُسمع قصصهم وتُقدَّر،” على حد تعبيرها لنا في فَنَك. وأضافت إن التحقيق نفسه سيكون بمثابة رادع للضباط والمسؤولين الإسرائيليين، الذين كانوا حتى الآن يحظون بحمايةٍ جيدة من أي شكل من أشكال المساءلة عن الجرائم ضد الفلسطينيين.

بيد أن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية لن يقتصر على الجرائم الإسرائيلية، فقد نظرت المدعية العام في الأحداث التي تورطت فيها حماس وفصائل فلسطينية أخرى في غزة، مما يعني إمكانية إبقاء الباب مفتوحاً بمواجهة فلسطينيين لتحقيقات المحكمة الجنائية الدولية، مما سيشكل ضغطاً على جهود المصالحة الفلسطينية الداخلية الهشة الجارية حالياً. ومع ذلك، رحبت جميع الفصائل الفلسطينية، بمن فيهم حماس، بانضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية وحكم الدائرة التمهيدية.

ومن غير المتوقع أن يخبو العناد الدولي لتدخل المحكمة الجنائية الدولية في القضية الفلسطينية/ الإسرائيلية، خاصة من قبل اللاعبين الرئيسيين مثل الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن أي تحقيقٍ للمحكمة الجنائية الدولية سيكون نتيجة لتقييم قانوني يجب أن يفي بالعتبات المحددة المطلوبة، فإن النقاش السياسي حول هذه القضية سيظل راسخاً في الجدل حول ما إذا كان لفلسطين الحق في طلب إجراء من المحكمة الجنائية الدولية أو حتى أن تكون عضواً في المحكمة. مثل هذه المزاعم “لا أساس لها من الصحة وهي سياسية بحتة” على حد تعبير السفير عمار حجازي، مساعد وزير الخارجية الفلسطيني للعلاقات متعددة الأطراف، الذي قال لفَنَك أيضاً: “هذا اختبار وجودي لمصداقية النظام الدولي. يتعين على الدول أن تقرر موقفها من هذا وما إذا كانت تريد أن يكون لها يد في تفكيك هذا النظام. وفي كلتا الحالتين، لن تقبل فلسطين أن تكون استثناءً لقاعدة المساءلة العالمية.”

كما استخدمت بعض الدول “عملية السلام” غير القائمة حالياً لتأطير معارضتها، بحجة أن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية من شأنه أن يعرقل جهود السلام، وهنا يقول حجازي: “هذا هراء،” مضيفاً: “إن السعي لتحقيق العدالة ووضع حدٍ للإفلات من العقاب أساس السلام الحقيقي.”

قلبت أربع سنواتٍ مضطربة من رئاسة دونالد ترمب القانون الدولي وهددت بعرقلة النظام العالمي بأسره، كما أجبروا المنظمات الحقوقية والقانونيين والناشطين على أخذ زمام المبادرة في قضايا العدالة والمساءلة والمساواة. وبالتالي، سيختبر حكم المحكمة الجنائية الدولية بشأن فلسطين موقف جميع هؤلاء الفاعلين وكيفية تعافي النظام الدولي، إن تم ذلك أصلاً.