وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الإخوان المسلمون الدوليون ميتون سريريًا

hamas-supporters-carrying-photo-of-hassan-al-banna
طلاب مؤيديين لحماس يحملون ملصقاً لحسان البنا، مؤسس الإخوان المسلمين، الخليل، فلسطين، 20 إبريل 2015. Photo REX features Ltd

لم يمر وقتٌ طويل على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928 على يد حسن البنا حتى تطورت عند البنا نفسه ورفاقه بذور ما يمكن تسميته بـ”الأممية الإسلاموية،” التي تعني أن مشروع الإخوان يتجاوز الحدود الوطنية للدولة المصرية ويتوجه إلى العرب والمسلمين بشكلٍ عام. تجسدت التعبيرات والمظاهر الأولى لهذه الأممية في الادبيات الإخوانية التي تتوجه إلى “المسلمين” وتطرح افكار الوحدة الإسلامية لعودة الخلافة الاسلامية. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، أنشئت اوائل فروع الإخوان المسلمين في فلسطين والأردن وسوريا والعراق، حيث باتت تتواجد تنظيمات الاخوان المسلمين اليوم، بشكلٍ أو بآخر، في أكثر من ثمانين بلداً في العالم. وقد توج مفهوم الوحدة “الإسلامية” وروح القومية عبر هيئة تنسيقٍ عالمية، هي المنظمة الدولية للإخوان المسلمين أو التنظيم الدولي، التي أنشئت في عام 1982 وتضم جميع الفروع الوطنية. تدرس هذه المقالة صعود وتراجع كل من الحركة والمفاهيم التي أسس عليها.

وعلى ذلك، ومن أجل مناقشة وفهم مسألة “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين” نحتاج إلى استدعاء عدة عناصر في آن معاً:

  • أولها، الفكرة النظرية الإخوانية الجوهرية المُستبطنة في المشروع الإخواني والتي تنادي بالوحدة الاسلامية، سواء على شكل خلافة او اي شكل آخر.

  • وثانيها، الحركية العملية الإخوانية التي تركز على السياق الوطني، حيث ينشغل كل تنظيم اخواني بالعمل السياسي او الاجتماعي او الدعوي ضمن الدولة الوطنية التي ينتمي لها.

  • وثالثها، هو واقع الإنتشار العالمي للتنظيمات والاحزب الاخوانية أو تلك المتأثرة بها وتعتبر نفسها منتمية فكرياً إلى مدرسة الإخوان.

  • 4) ورابعها هو خروج قيادات الإخوان المسلمين التاريخية من السجون في مصر في أوائل عقد السبعينات من القرن الماضي، وعلى وجه التحديد مصطفى مشهور، وهي القيادات التي كان لديها أفكار أكثر بلورة حول الأممية الإسلامية. يمكن القول أن تكثف وترسخ هذه العناصر الثلاثة مع الزمن هو الذي أنضج الفكرة العامة حول الأممية الإسلامية إلى شكل مؤسسي تمثل في الإعلان عن تأسيس “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين” في يوليو عام 1982.

ومع ذلك، لم يقدم الإخوان المسلمون تنظيراً فكرياً حقيقياً وواضحاً حول الوحدة الإسلامية، أحد العناصر الرئيسية لهذه الأيديولوجية، على النقيض من حزب التحرير الإسلامي الذي تبنى صراحةً فكرة الخلافة الإسلامية منذ ان تأسس في الاردن سنة 1953على يد تقي الدين النبهاني،أحد الأعضاء السابقين في الإخوان المسلمين في الأردن.

وتشير وقائع النشاط والحركية الإخوانية سواء في مصر أو في الدول الاخرى التي أنشأ فيها الإخوان تنظيمات محلية، إلى انهماك كل تنظيمٍ منها في الشأن المحلي في البلد الذي تواجد فيه، بحيث أن الإهتمام بشأن “الوحدة الإسلامية” خفُت عملياً ولم يتعدى مستوى الشعار.

وهذا يقودنا إلى العنصر الثاني وهو الحركية العملية التي انخرطت فيها التنظيمات الإخوانية المحلية في بلدانها، والتي يمكن إجمالها بالقول بأن كل تنظيم منها صار يشتغل ضمن إطار الدولة- الامة التي تأسس فيها. وفي البلدان التي شارك فيها الإخوان في العملية السياسية، مثل سورية والاردن ثم لاحقاً الجزائر واليمن والكويت والمغرب  وغيرها، عبر الإنتخابات او المشاركة في الحكم، كانت برامجهم السياسية تعكس اجندات محلية صرفة، وتؤكد على عدم التدخل في شؤون الدول الاخرى. أي أنها تقر بالسيادات القومية للدول ولا تعمل من أجل انجاز الوحدة الإسلامية على أرض الواقع، بقدر ما تحافظ عليها كشعارٍ فضفاض.

العنصر الثالث الذي يمكن تأمله في خلفية تأسيس التنظيم الدولي للإخوان المسلمين هو الإنتشار المتسارع لتنظيمات الإخوان أو الجماعات التي تتبع مدرستهم الفكرية في بلدان كثيرة من العالم، بما كان يشير إلى “ضرورة” تجسيد هذا الإنتشار في شكل مؤسسي جامع. بكلمة اخرى، انعش التوزيع الجغرافي العريض للتنظيمات الاخوانية وتواجدها في معظم رقاع العالم أي افكارٍ أولية او غير مختمرة حول تكوين إطار توحيدي وتنظيمي لها، بشكل تبّدى التأسيس الحقيقي لمثل هذا الإطار ليس سوى ترجمة حركية وعملانية لما هو قائم على ارض الواقع.

العنصر الرابع، وربما يمكن وصفه بأنه المحرك العملي الذي انطلق لترجمة الفكرة الأممية الخافتة على شكل تنظيم دولي، تمثل في خروج مئات القيادات الإخوانية في أوائل 1970، بمن فيهم مصطفى مشهور من قِبل الرئيس المصري أنور السادات، وهي القيادات التي سجنها الرئيس المصري الاسبق جمال عبد الناصر في حقبتي الخمسينات والستينيات. إن الهدف الأساسي من وراء إطلاق القيادات الإخوانية كان توجيههم لصد صعود التيار اليساري في المجتمع المصري، وخاصة في الجامعات. أعاد الإخوان تأسيس انفسهم في مصر أولاً، وتمكنوا في وقتٍ قصير من السيطرة على الجامعات المصرية بما حقق هدف الرئيس السادات، ثم انطلقوا إلى خارج مصر في عملية بناء جسور قوية مع التنظيمات الإخوانية في بلدان العالم. وسرعان ما تبلورت فكرة التنظيم الدولي عند أحد أهم القيادات الإخوانية، مصطفى مشهور، عام 1982، والذي اصبح في حقبة التسعينات الرجل الاهم في الجماعة، ومرشدها بين 1996و2002.

النصوص التنظيمية التي تضمنتها اللوائح القانونية للتنظيم الدولي للإخوان حاولت أن توازن بين سيطرة التنظيم على توجهات وقرارات الفروع المحلية للإخوان وإتاحة مساحة واسعة من الحرية واتخاذ القرارات من قبل الفروع كل بحسب ظروفه الخاصة. وبرغم محاولة إيجاد ذلك التوازن إلا أن غموضاً كبيراً ظل يحيط بدور هذا التنظيم إزاء التدخل في الشؤون المحلية لتنظيمات الإخوان المحلية. ومن ناحية قيادية، سلمت القيادات الإخوانية خارج مصر بأحقية الإخوان المصريين في قيادة التنظيم الدولي، على الأقل عرفاً وإن لم يكن هناك نص في اللوائح القانونية يشير إلى ذلك. لكن اشارت تلك اللوائح إلى ضرورة وجود غالبية من اعضاء مكتب الإرشاد، وهو القيادة الحقيقية للتنظيم، من بلد المرشد العام، وبالتالي ان يكونوا مصريين بحكم ان المرشد العام سيكون بداهةً من مصر. أثار هذا الوضع اعتراضات عدد من القيادات الإخوانية غير المصرية، لكن الإخوان المصريين ظلوا متحكمين في التنظيم الدولي الذي لعب بقية الإخوان ادواراً أخرى ليست رئيسة فيه.

ومن ناحيةٍ عملية، لم ينجح التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في إضافة اي حركية او تحقيق اهداف جديدة للإخوان المسلمين، بل شكل عبئاً كبيراً عليهم في مصر وعلى حركات نظرائهم في اكثر من مكان. كما خلق توتراً مُستحدثاً بين الإخوان المصريين من جهة وفروع وتنظيمات اخوانية عديدة من جهة ثانية بسبب السيطرة المصرية، وبسبب التدخل في التوجهات والقرارات المحلية. كان اول المعارضين لفكرة السيطرة المصرية على بقية تنظيمات الإخوان، وقبل تأسيس التنظيم الدولي، هو حسن الترابي قائد الحركة الإسلامية الأخوانية في السودان إلى منتصف ثمانينات القرن الماضي. آنذاك، انشق الترابي عن الإخوان عام 1976 وأسس “الجبهة القومية الإسلامية” متحررة من أية تأثيرات او توجيهات من القاهرة.

وبعد أقل من عقدٍ من تأسيس التنظيم، تعرض لاختبارٍ قاسٍ تمثل في غزو العراق للكويت سنة 1990. ففي حين وقف إخوان الكويت والخليج ضد صدام حسين، وقف التنظيم المصري وبقية الفروع مواقفا متفاوتة، ليس تأييداً للغزو بل ضد الحشد الامريكي والغربي لضرب العراق، وقد أدى ذلك إلى خروج التنظيم الكويتي من تحت عباءة التنظيم الدولي، فضلاً عن خسارة مصدر التمويل الرئيسي اللازم لهذا التنظيم.

كما لم يستطع التنظيم الدولي فرض أي توجهاتٍ موحدة إزاء مواقف سياسية مفصلية في أكثر من بلد، وترك اتخاذ الموقف للفروع واحياناً على خلاف رغبة او توجه التنظيم الدولي (وقيادته المصرية). ومن الامثلة المهمة على ذلك ترشيح مراقب الإخوان المسلمين في الجزائر لنفسه في الإنتخابات الرئاسية سنة 1995، ومشاركة اخوان العراق في مجلس الحكم الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد غزو العراق سنة 2003، وهي مشاركة اثارت اعتراض كثير من الإخوان واعتراض التنظيم الدولي ايضاً.

والأهم من ذلك، أصبح التنظيم الدولي عبئاً حقيقياً بعد أحداث التاسع من ايلول 2001 وإعلان جورج بوش الإبن الحرب على الإرهاب، ومطاردة التنظيمات الإسلامية. وقد ضغط ذلك الإعلان على إخوان مصر خشية ان تطالهم تلك الحرب، وادى إلى توتر مواقفهم إزاء كل فكرة التنظيم الدولي. فعلى سبيل المثال حاول الإخوان المصريون خلق مسافة آمنة بينهم وبين حماس لأنها وضعت على قائمة الإرهاب الامريكية، وحماس بدورها ردت على هذا “التباعد” وقطعت علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين واستعادت علاقاتها السياسية مع مصر، في محاولةٍ على ما يبدو للعمل بشكلٍ منفرد ساعيةً إلى إضفاء الشرعية عليها مجدداً.

وعند إغتيال قائد حماس، أحمد ياسين، في غزة عام 2004، نعى الإخوان المسلمون المصريون الشيخ ياسين بوصفه “المرشد العام للإخوان المسلمين في فلسطين.” إن استخدام وصف “المرشد العام،” الذي كان حصراً بالمرشد العام المصري، قصد به إيصال رسالة إلى العالم أن إخوان فلسطين منفصلون عن إخوان مصر ولا علاقة تنظيمية بين الإثنين. توازى ذلك مع إنكفاء الإخوان المصريين انفسهم وتركيزهم على برنامجهم السياسي في مصر وحدها.

وفي حقبة ما بعد الربيع العربي وعزل الرئيس الإخواني محمد مرسي سنة 2013، تشتت صفوف الإخوان المصريين. ومع فشل الثورة السورية والثورة اليمنية وتصدع الوضع في ليبيا، بما فيه الوضع الإخواني، ومطاردة الإخوان المسلمين في الخليج، وخاصة في الإمارات العربية المتحدة والسعودية وعُمان، تعرضت فروع الإخوان المسلمين إما للتفكك أو الحل أو لتهمة الولاء الخارجي وبأن “وطنية” هذا الفرع أو ذاك مشكوك فيها.

وفي فبراير 2016، تعرض التنظيم الدولي الإخواني، أو ما تبقى منه، لضربتين موجعتين إضافيتين، أولهما إعلان اخوان الأردن فصل علاقتهم مع الجماعة الأم في مصر، وبالتالي الخروج من التنظيم الدولي. والثانية، إعلان حركة النهضة في تونس تحولها إلى حزب سياسي وخروجها (النظري) من تحت عباءة الإسلام السياسي، وبالتالي خروجها أيضاً من التنظيم الدولي إن كان ما زال قائماً. ويمكن القول أن التنظيم الدولي، فعلياً، ميتٌ سريرياً، إن لم يكن رسمياً. في الواقع، إن التصريحات الرسمية التي تصدرها جماعة الإخوان المسلمين نفسها تدعم هذه الحجة بطريقةٍ أو بأخرى.