وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تأزم العلاقات الإيرانيّة الأذربيجانيّة: العوامل التاريخيّة والجيوسياسيّة

الدولتين تتقاسمان حقول غاز مشتركة وخطوط إمداد أساسيّة لتصدير مصادر الطاقة، ما يعطي تأزم العلاقات الإيرانيّة الأذربيجانيّة أبعادًا كبيرة على مستوى عالمي.

[caption id=
علم أذربيجاني بجانب جسر خضيرين الذي يعود إلى العصور الوسطى في منطقة جبرايل على حدود البلاد مع إيران. وكالة فرانس برس

علي نور الدين

في يناير/كانون الثاني 2022، قُتل مسؤول أمن السفارة الأذربيجانيّة في العاصمة الإيرانيّة طهران، كما أصيب اثنان من موظفي أمن السفارة، في اعتداء مسلّح نفّذه مواطن إيراني يُدعى ياسين حسين زاده.

ومنذ حصول الاعتداء، أصرّت وزارة الخارجيّة الإيرانيّة على نفي وجود أي خلفيّة سياسيّة أو إرهابيّة للاعتداء، معتبرة أنّ دوافع المهاجم كانت شخصيّة وعائليّة فقط، في إشارة إلى مشاكل سابقة بين المهاجم وزوجته الأذربيجانيّة.

تأزّم العلاقة بين الدولتين بعد الحادثة

بعكس الرواية الإيرانيّة الرسميّة، كان لدى السلطات ووسائل الإعلام الأذربيجانيّة رأي مختلف تمامًا. فالبرلمان الأذربيجاني اعتبر أنّ حملات الإعلام الإيراني ضد أذربيجان شجعت على تنفيذ هذا النوع من الهجمات، فيما أشارت وزارة الخارجيّة الأذربيجانيّة إلى أنّ إيران تجاهلت طلباتها السابقة التي ألحّت على ضرورة توفير أمن السفارة.

طوال الأيام التي تلت الحادثة، استعرضت وسائل الإعلام الأذربيجانيّة مواقف السياسيين الإيرانيين المتشنّجة ضد أذربيجان، باعتبارها تحريضًا متعمّدًا ومنظمًا سبق وقوع الحادثة. وكالة الأنباء الأذربيجانيّة الرسميّة بالتحديد، ذهبت إلى حد الإشارة إلى ارتباط المهاجم ببعض فصائل الحرس الثوري الإيراني، متهمةً المسؤولين الإيرانيين بالكذب وتضليل الرأي العام، عبر ربط الهجوم بأسباب عائليّة أو شخصيّة. مع الإشارة إلى أن العديد من المسؤولين البارزين الأذربيجانيين أشاروا إلى اعتقادهم بتورّط مسؤولين إيرانيين في التخطيط للهجوم.

بالنتيجة، تم إقفال السفارة الأذربيجانيّة في طهران، وغادر طاقمها إيران، بانتظار الكشف عن تفاصيل الاعتداء وهويّة المتورّطين في التخطيط له، بحسب السلطات في أذربيجان. كما استدعت وزارة الخارجيّة الأذربيجانيّة السفير الإيراني لديها، للتعبير عن انزعاج أذربيجان من الحملات الإيرانيّة ضدها، فيما ألقى المتحدث باسم الوزارة بكامل مسؤوليّة الهجوم “على عاتق السلطات الإيرانيّة”.

تكرار الحوادث والأزمات بين الدولتين

هكذا تحوّل الاعتداء على سفارة أذربيجان في طهران إلى عامل جديد يهدد بحصول أزمة دبلوماسيّة حادّة بين الدولتين. وطوال السنتين الماضيتين، تكرّر حصول هذا النوع من التوتّرات المفاجئة، والتي كانت تذكّر بالتوتّر الدائم الذي يحكم علاقة إيران بأذربيجان.
ففي شهر أغسطس/آب 2022، اقتحمت مجموعة “شيعيّة متطرّفة” السفارة الأذربيجانيّة في لندن، وقامت بتعليق أعلام دينيّة على شرفات مبنى السفارة. يومها، اتهم مسؤولون أذربيجانيون السلطات الإيرانيّة بلعب دور خفي في التشجيع على الاعتداء، عبر دعم المجموعات الأذربيجانيّة الشيعيّة الدينيّة، المناهضة لتوجّه دولتهم العلمانيّة.

وفي إطار الحذر الأذربيجاني من طهران، وقبل أشهر من الهجوم على سفارة أذربيجان في لندن، كانت سلطات أذربيجان قد اتخذت قرارات بإقفال مؤسسات دينيّة شيعيّة في العاصمة باكو، تتبع جميعها لمكتب المرشد الإيراني علي خامنئي. يومها، ردّت السلطات الإيرانيّة بمنع الطائرات الحربيّة الأذربيجانيّة من التحليق في أجوائها، بعدما اعتادت هذه الطائرات قبل ذلك العبور من شمال إيران، لإرسال الإمدادات لمنطقة ناختشيفان التي تتبع لأذربيجان دون أن تتصل بها جغرافيًّا.

في العديد من المراحل خلال الفترة الماضية، تحوّلت هذه الأزمات السياسيّة إلى توتّر عسكري حدودي بين البلدين، كما حدث مثلًا في أكتوبر/تشرين الأوّل 2021. إذ قامت في ذلك الوقت القوّات الإيرانيّة بمناورات عسكريّة مفاجئة على حدودها مع أذربيجان، لترد أذربيجان باستنفار عسكري كبير على الحدود. ثم عادت أذربيجان لتصعّد ميدانيًّا بمناورات مشتركة مع حليفها المقرّب تركيا، على الحدود مع إيران، في محاولة لخلق معادلة ردع مقابل التهديدات الإيرانيّة.

باختصار، وكما هو واضح، لا تسير الأمور على ما يرام بين إيران وأذربيجان اللتين تتشاركان حدودًا بريّة تمتد لأكثر من 765 كلم، كما تتشاركان أيضًا الإطلالة على بحر قزوين المغلق، المليء بعوامل التفجّر الجيوسياسيّة. ومن المعلوم أن الدولتين تتقاسمان كذلك حقول غاز مشتركة وخطوط إمداد أساسيّة لتصدير مصادر الطاقة، ما يعطي النزاع والتصعيد المستجد أبعادًا كبيرة على مستوى أسواق الطاقة الدوليّة.

في واقع الأمر، ترتبط كل هذه التوتّرات بعوامل جيوسياسيّة واقتصاديّة وتاريخيّة، ساهمت في خلق تناقضات كبيرة في مصالح نظامي الحكم في إيران وأذربيجان. ولذلك، لم تكن كل هذه الأحداث الأمنيّة السبب الأساسي لتوتّر العلاقات بين الطرفين، بل كانت مجرّد نتيجة لتلك التناقضات الموجودة أساسًا، والتي تراكمت على مرّ السنوات الماضية. ولهذا السبب، من المتوقّع أن تستمر كل هذه التناقضات بالتأثير على علاقة البلدين طوال السنوات المقبلة.

موقع أذربيجان الحسّاس والتعقيدات الجيوسياسيّة

تقع أذربيجان على الشاطئ الغربي لبحر قزوين، وتحدّها إيران من جهة الجنوب، وروسيا من جهة الشمال، فيما تمتلك حدودًا متوتّرة عسكريًّا مع أرمينيا من جهة الشرق، بالإضافة إلى حدود قصيرة مع حليفتها تركيا. هذا الموقع بالتحديد، وضع أذربيجان بين ثلاث قوى مؤثّرة على المستويين الإقليمي والدولي، مع كل ما تملكه هذه الدول من مصالح وتطلّعات مرتبطة بسوق مصادر الطاقة وخرائط سلاسل توريدها.

وهذا الموقع الجغرافي، الذي يجعل منها حاجزًا بين إيران وروسيا، تزايدت أهميّته مؤخّرًا مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، مع ما عناه ذلك من زيادة الحاجة الروسيّة إلى خطوط إمداد جديدة لتصدير غازها، وزيادة الحاجة الأوروبيّة إلى الغاز الذي تنتجه أذربيجان لتعويض انقطاع الغاز الروسي. أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أنّ إيران نفسها باتت تتطلّع مؤخّرًا إلى زيادة وارداتها من الغاز الروسي، لتعزيز موقعها كمركز لإعادة توزيع الغاز، هذا ما زاد من الحساسيّات المرتبطة بدور أذربيجان الجيوسياسي.

أمام هذا الواقع المليء بالفرص والمخاطر في وقت واحد، حاولت أذربيجان بناء سياسة خارجيّة متوازنة جدًا بين جميع الأقطاب الدوليين، لتفادي التورّط في أية نزاعات يمكن أن تهدد مصالحها. فهي حافظت على علاقة إيجابيّة مع نظام فلاديمير بوتين، بوصفها إحدى دول الاتحاد السوفياتي السابق، التي مازالت ترتبط بمصالح اقتصاديّة مهمّة مع روسيا.

كما وثّقت أذربيجان تحالفها الإستراتيجي والعميق مع تركيا التي تجمعها بأذربيجان روابط عرقيّة وتاريخ مشترك. وفي الوقت نفسه، دخلت أذربيجان بصفقات كبيرة في مجال الطاقة مع أوروبا خلال السنة الماضية، عندما كان الأوروبيون في أمسّ الحاجة إلى الغاز، الأمر الذي عزّز علاقة أذربيجان مع الدول الغربيّة.

لكن في المقلب الآخر، لم تتمكّن أذربيجان أبدًا من بناء علاقات مستقرّة مماثلة مع جارها الجنوبي إيران، بسبب خشيتها الدائمة من أطماع النظام الإيراني في موقع أذربيجان الإستراتيجي ودورها، والخوف من محاولة النظام الإيراني التأثير في شكل نظام الحكم في أذربيجان.

فدولة أذربيجان تتبنّى في دستورها العلمانيّة بشكل واضح، وفقًا للنموذج التركي التاريخي، في الوقت الذي يمثّل فيه المسلمون الشيعة 85% من السكّان. ولهذا السبب، حاولت إيران بشكل متكرّر على مرّ السنوات الماضية التأثير في الأكثريّة الشيعيّة داخل أذربيجان، من خلال التوسّع بدعم المنظمات الدينيّة الأذربيجانيّة الموالية لطهران.

ولهذا السبب، بات النظام في أذربيجان يخاف كثيرًا من محاولة إيران خلق بيئة موالية لنظامها داخل المجتمع الأذربيجاني، من خلال استمالة الأوساط المتدنيّة الشيعيّة، وإطلاق حالة سياسيّة إسلاميّة تتبنّى طروحات إيران. ومع تزايد أهميّة موقع أذربيجان الجغرافي مؤخّرًا، وزيادة أهميّة احتياطاتها من الغاز، باتت أذربيجان تخشى أكثر من المحاولات الإيرانيّة للهيمنة عليها والتدخّل في شؤونها. مع الإشارة إلى أنّ هذه الهواجس تتغذّى من سجل إيران الطويل في مجال تصدير عقيدتها الدينيّة، واختراق المجتمعات الشيعيّة في الدول الأخرى، لتحقيق مكاسب سياسيّة إستراتيجيّة.

وبالنتيجة، وبين الروابط العرقيّة التي تجمع شعب أذربيجان بتركيا، والروابط الدينيّة التي تجمعه بإيران، فضّلت أذربيجان تعزيز وتوثيق علاقتها مع حليفها التاريخي تركيا، لتحصين وضعيّتها في مواجهة محاولات الهيمنة الإيرانيّة. ولتخفيف الضغط عنها، حرصت أذربيجان على عدم استفزاز النظام الروسي في أية مرحلة من المراحل، مقابل مد اليد بانفتاح دائم للدول الغربيّة.

إشكاليّات العلاقة مع أرمينيا وإسرائيل

كل هذه العوامل التاريخيّة والجيوسياسيّة، كانت تتأزّم جرّاء عوامل أخرى، متصلة بالعلاقات الإيرانيّة الأرمينيّة، والعلاقات الأذربيجانيّة الإسرائيليّة. فإيران ترتبط بأرمينيا بعلاقات إستراتيجيّة وثيقة، حيث تستفيد أرمينيا من هذا التحالف للالتفاف على الطوق الذي تفرضه عليها كل من أذربيجان في الشرق وتركيا من الغرب. كما تستفيد إيران من هذه العلاقة للالتفاف على العقوبات الغربيّة المفروضة عليها، وخصوصًا في مجال تصدير مصادر الطاقة.

وتتشارك أرمينيا وإيران حدودًا قصيرة، طولها 44 كلم فقط. كما رفضت إيران مؤخرًا إجراء أية تعديلات جديدة على الحدود الأرمينيّة الأذربيجانيّة، في حال أدّت إلى فقدان اتصال إيران بالأراضي الأرمينيّة، عبر إعطاء أراضٍ أرمينيّة واقعة شمال إيران إلى أذربيجان. وهذا الموقف الإيراني، عبّر بوضوح عن حرص إيران على خطوط التواصل البرّي القائمة اليوم مع أرمينيا.

تنظر أذربيجان بتوجّس كبير إلى هذه العلاقات الإيرانيّة الأرمينيّة، وخصوصًا في ظل النزاعات التاريخيّة بين أذربيجان وأرمينيا، والتي أدّت إلى اشتباكات مسلّحة متكرّرة خلال الأعوام الماضية. كما ترى أذربيجان أن علاقة إيران بأرمينيا تحوّلت إلى عنصر الدعم الأساسي الذي تستند إليه أرمينيا ضد أذربيجان، في مقابل الدعم التركي الكبير الذي تستفيد منه أذربيجان. رغم مواقف إيران التي تدّعي الحياد في النزاع المسلّح بين أرمينيا وأذربيجان، يعتبر المسؤولون الأذربيجانيون أن إيران تسعى إلى تحجيمهم وتطويقهم، عبر دعم خصومهم في أرمينيا عسكريًّا واقتصاديًّا.

في المقابل، من المعلوم أنّ أذربيجان طبّعت علاقاتها السياسيّة والتجاريّة مع إسرائيل منذ التسعينات، فيما تنامت المصالح الاقتصاديّة المشتركة والصفقات بين الدولتين منذ ذلك الوقت. وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2022، قررت أذربيجان فتح سفارة لها في تل أبيب، لتكون أوّل دولة ذات غالبيّة شيعيّة تتخذ قرارًا من هذا النوع.

تطوّر وتعمّق العلاقة بين إسرائيل وأذربيجان، تحوّل خلال الأعوام الماضية إلى أحد أسباب توتّر العلاقات الأذربيجانيّة الإيرانيّة. فإيران تعتبر أن إسرائيل تسعى، من خلال علاقتها بأذربيجان، إلى خلق موطئ قدم لها على الحدود الشماليّة لإيران، ما يمثّل لطهران تهديدًا عسكريًا وأمنيًا إستراتيجيًا. وخلال الأعوام الماضية، تكررت ادعاءات المسؤولين الإيرانيين بوجود عناصر أمنيّة وعسكريّة إسرائيليّة على الأراضي الأذربيجانيّة، ما اعتبروه تخطّيًا للخطوط الحمراء من جانب أذربيجان.

هكذا، تضافرت كل هذه العوامل التاريخيّة لتخلق حالة التأزّم القائمة حاليًّا بين الدولتين. لكن في الوقت نفسه من الواضح أنّ الطرفين لا ينويان حتّى اللحظة الاتجاه نحو مواجهة عسكريّة خطيرة، مما سيبقي الأزمة في إطارها الدبلوماسي والسياسي.

ولذلك، من المتوقّع أن تستمر الأزمة بالظهور بين الحين والآخر، على شكل أحداث وردّات فعل متفرّقة وسريعة، إلى أن يبادر الطرفان إلى تطويق المشكلة لمنع تطوّرها نحو اشتباك حدودي مسلّح. ومن المتوقّع أيضًا أن تستمر تركيا، الداعم الأساسي لأذربيجان، بلعب دور الوسيط، لتهدئة الأوضاع والحؤول دون تعرّض أذربيجان لأي اعتداء جدّي واسع النطاق.t sporadic and rapid occurrences and responses will persist. Since Turkey is Azerbaijan’s primary ally, it is anticipated that it will continue to act as a mediator to defuse the situation and keep Azerbaijan from any significant or widespread aggression.