وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إسرائيل كظاهرة رجعية ويمينية أخرى في الشرق الأوسط

يهود متشددين اسرائيل
صورة تم التقاطها يوم ١ أكتوبر ٢٠٢٠ ليهود متشددين وهم يتفقدون ثمار حمضيات تم استخدامها خلال الاحتفال بعيد المظال “سوكوت”، وذلك في حي ميا شعاريم الأرثوذكسي المتطرف في القدس. المصدر: Emmanuel DUNAND / AFP.

ماجد كيالي

لا تبدو إسرائيل اليوم هي نفسها الدولة التي حاولت تأسيس ذاتها، قبل أكثر من ستة عقود، باعتبارها “واحة” للحداثة والديموقراطية في “صحراء” الشرق الأوسط؛ القديم والاستبدادي والمتخلّف.

وكانت إسرائيل، طوال العقود الماضية، روّجت لاعتبارها “واحة” للتمايز عن النظم السائدة العربية، التي نشأت آنذاك إما من حوامل عشائرية (النظم الملكية والأميرية) أو من أحضان المؤسّسة العسكرية (النظم الجمهورية)؛ وكلاهما تميّز بالعداء للديموقراطية وانتهاج التسلّط ومصادرة الحريات وتغييب المجتمعات وإعاقة تطور الاقتصاد والمجتمع والدولة.

وقد نتج عن تميّز النظام السياسي لإسرائيل بالديموقراطية الليبرالية (نسبة لمواطنيها اليهود) منحها فائض قوّة في مواجهتها للمحيط المعادي لها، وهو ما ينبغي احتسابه مع عوامل القوة الأخرى، العسكرية والاقتصادية والعلاقة مع الغرب، والتي مكّنتها من الاستقرار والتطوّر كما التفوّق على الوضع العربي.

وفي الواقع فإن هذا الوضع سهّل على إسرائيل جذب يهود العالم إليها، وسهّل لها تخليق الشعب خاصّتها، الذي بات كذلك بفضل “بوتقة الصهر” التي مثلتها المؤسّسات الإسرائيلية الجمعية (الجيش والكيبوتزات والموشاف والهستدروت والصندوق القومي اليهودي والمدارس والجامعات ومؤسّسات الدولة).

هكذا نجحت إسرائيل، بفضل نظامها السياسي الليبرالي التعدّدي المتنوّع، فيما أخفقت فيه البلدان العربية، التي نشأت في فترة متزامنة معها تقريباً، بسبب نظامها السياسي المتّسم بالتخلّف والجمود والتسلّط، إذ أن هذه الدول لم تنجح في إقامة مؤسسات جمعية ولا بخلق اجماعات وطنية داخلها ولم تستطع أن تحوّل الكتل الاجتماعية فيها إلى شعب بمعنى الكلمة، بدلاً من البقاء في حيّز الانتماءات العشائرية والطائفية والمذهبية والأثنية؛ الأمر الذي أضعف الدولة والمجتمع.

بديهي أن هذا الوضع المتناقض كان له انعكاسات إيجابية لمصلحة إسرائيل التي بدت، كدولة وكمجتمع، أكثر قوّة وحصانة إزاء التحدّيات الخارجية، في حين كان له انعكاسات سلبية جداً على البلدان العربية، التي بدت هشّة وضعيفة ومكشوفة إزاء هذا النوع من التحدّيات، وضمنه التحدّي الذي مثلته لها إسرائيل في الجوانب الأمنية كما في الجوانب السياسية والاقتصادية.

وعلى الصعيد الدولي أفاد النظام الديمقراطي الليبرالي إسرائيل كثيرا فيما يتعلق بتوثيق علاقتها بالغرب، واعتبار ذاتها بمثابة جزءٍ منه وامتداد له في هذه المنطقة، تكريساً لمقولة مفادها أن “ليس للغرب في الشرق أفضل من الغرب نفسه” (أي إسرائيل). وبالفعل فإن العالم الغربي عطف على إسرائيل وعزّز من دعمه ورعايته وحمايته لها باعتبارها امتداداً له في المنطقة إلى درجة أنه غضّ النظر عن مصادرة إسرائيل حقوق الفلسطينيين واحتلالها أراضي دول عربية أخرى، كأنه يؤكد عرفاً يقوم على “أن الدول الديموقراطية يحق لها ما لا يحق لغيرها”! وبديهي أن هذا السكوت شجّع إسرائيل على انتهاج ممارسات استعمارية وعنصرية ضد الفلسطينيين وإحكام السيطرة عليهم بوسائل القوة الغاشمة.

لكن إسرائيل هذه، ومع الزمن، لم تستطع طمس التناقضات المعششة فيها منذ قيامها، بين كونها دولة حداثية وكونها تعتبر قيامها نتيجة إرادة “ربانيّة”؛ وبين كونها دولة علمانية وواقعها كدولة دينية؛ بين وضعها كدولة ديموقراطية وطبيعتها كدولة عنصرية ـ يهودية. ذلك أن هذه التناقضات ظلّت تظهر بين فترة وأخرى بشكل هادئ أو بشكل متوتّر جداً.

هكذا، ونتيجة ذلك كله فإن إسرائيل، في سياساتها الخارجية والداخلية وفي تشريعاتها وأيديولوجيتها ورموزها، باتت تتمظهر اليوم، أكثر من أية فترة ماضية، على شكل دولة استعمارية وعنصرية ودينية، وعلى شكل دولة ثيوقراطية يسيطر على توجهاتها الحاخامات والأحزاب الدينية والقومية المتطرّفة، في حين باتت باقي التيارات العلمانية والليبرالية واليسارية في غاية الضعف والهشاشة، وهو الأمر الذي أشار اليه تقرير بيتسيلم مؤخرا، كما أشار اليه المفكر الإسرائيلي إيلان بابيه، الذي اعتبر (في كتابه أكبر سجن على وجه الأرض) أن إسرائيل لم تصبح دولة استعمارية وعنصرية بسبب حدث معين، وإنما هي كذلك بحكم تكوينها ومركباتها.

وقد شهدنا أخيرا تعزّز التوجّه في إسرائيل نحو سنّ تشريعات تقيّد الطابع الليبرالي للمحكمة العليا، وتحدّ من حرية الصحافيين، وتضعف من دور منظمات المجتمع المدني، وتحطّ من مكانة المرأة، وتؤكّد على إسرائيل كدولة يهودية، وليس كدولة مدنية؛ ما يعني أن عنصرية إسرائيل وروحها الاستعمارية وإشهارها هويتها الدينية إزاء الخارج، لاسيما إزاء الفلسطينيين (وضمنه طلب الاعتراف بها حصراً كدولة يهودية)، بات لها انعكاس في الداخل أيضا، يتجلّى بإضعاف المكوّن الديمقراطي والليبرالي التعّددي في ثقافتها ونظامها السياسي وعلاقاتها الداخلية، الأمر الذي تم إشهاره في قانون إسرائيل كدولة قومية لليهود، الذي أقرّه الكنيست صيف العام 2018، والذي أخرج الفلسطينيين من دائرة المواطنة في إسرائيل.

ومشكلة إسرائيل، أيضاً، إنها تسير في هذا الاتجاه بينما العالم يحثّ خطاه نحو تعميم قيم الحداثة، المتأسّسة على العقلانية والليبرالية والديموقراطية، ونبذ الأصولية والتطرّف الديني والتسلط، ويتّجه نحو دولة المواطنين المتساوين، ما يعني أن إسرائيل في هذا المسار تذهب بالضدّ من التاريخ العالمي؛ وهو أمر باتت تدفع ثمنه بما يسمى مسار نزع الشرعية عنها، الذي يتغذى من قوّة المجتمعات المدنية في العالم، التي بات وزنها يزداد تصاعداً في تقرير السياسات الخارجية لدولها، وفي إعلاء شأن القيم على المصالح.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.