وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عندما تسعى جبهة النصرة لأن تكون جماعة إرهابية “معتدلة”

al-Nusra Front Idlib
أحد مقاتلي جبهة النصرة يرفع علم الحركة أمام مبنى محافظة إدلب, شمال سوريا Photo Twitter

“حربنا ليست هي حرب ثأرية.. نحن لا نقاتل اليوم إلا من يرفع علينا السلاح… ديننا دين رحمة… نحن لسنا مجرمين قتلة.”

هذه الكلمات لم تصدر عن أحد مقاتلي الحرية المعتدلين، بل إنها في الحقيقة تصريحات صادرة عن أبو محمد الجولاني قائد جبهة النصرة، ذراع تنظيم القاعدة في سورية.

في مقابلة حصرية على قناة الجزيرة في 27 أيار (مايو) الماضي، ادعى الجولاني أن لا نية لجبهة النصرة باستهداف الغرب أو الأقليات في سورية، على الأقل في الوقت الراهن، وأن جماعته كانت معنية فقط بإسقاط نظام بشار الأسد.

لقد حملت تصريحات الجولاني تناقضاً صارخاً مع ما عرف عن أيديولوجية القاعدة المتمحورة حول استهداف الغرب والقتل الطائفي، وقد قرأ عدة من المراقبين خطاب الجولاني على أنه محاولة لتقديم النصرة كجماعة أكثر اعتدالاُ من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والتي وصفها خلال المقابلة بأنها “غير شرعية” واستنكر ممارساتها.

تأسست جبهة النصرة، التي تُفيد التقارير أنها مدعومة من قِبل قطر، في كانون الأول (يناير) من العام 2012، حيث وصلت أعداد مقاتلي الجبهة في منتصف عام 2014 حوالي 15,000 مقاتل. ووفقاً للجولاني، فإن 70% من رجال النصرة هم من السوريين، في حين أنّ ما تبقى منهم ينحدرون من مختلف بقاع العالم العربي، والاتحاد السوفياتي السابق، واستراليا. واليوم، باتت تشكل الجبهة جزءاً من تحالف لعدة فصائل مسلحة معارضة يحمل اسم “جيش الفتح.” وتشير تقارير عدة إلى أن السعودية وقطر وتركيا تشكل أكبر الداعمين لجيش الفتح الذي أحرز تقدماً كبيراً في الشمال السوري في شهري نيسان (أبريل) وأيار (مايو) الماضيين.

“لقد سعى الجولاني إلى تطمين المجتمع الدولي” يقول الخبير المصري بالجماعات الإسلامية أحمد بان. “لقد حاول الخروج بخطاب مختلف حول الأقليات الدينية وإقناع الجمهور أن النصرة مختلفة عن تنظيم الدولة الإسلامية.”

كما يرى عدد من الخبراء أن تصريحات الجولاني كانت جزءاً من حملة تلميع واسعة كانت جبهة النصرة قد أطلقتها في وقت سابق. “هذه الحملة ليست بالشيء الجديد، فقد بدأت قبل وقت طويل،” يقول المحلل السياسي السوري مهند فياض. “كان من فصول هذه الحملة دخول النصرة في تحالف جيش الفتح مع فصائل أكثر اعتدالاً، وتخفيف حظرها على التدخين وتوزيع الغذاء على الناس في بعض المناطق الخاضعة لسيطرتها، وقيامها علانية بمحاسبة أفرادها الذين يتعرضون للمدنيين، إضافة إلى المعاملة الحسنة التي قدموها لراهبات معلولا إلى حين تحريرهن بصفقة تبادل.”

لكن في العاشر من حزيران (يونيو) الجاري، أي بعد أقل من أسبوعين على بث مقابلة الجولاني، تورطت النصرة في مجزرة مروعة، إذ قام مقاتلوها بقتل 20 درزياً على الأقل رمياً بالرصاص في قرية قلب اللوزة القريبة من مدينة إدلب في الشمال السوري. ونقلت تقارير أن قيادياً في النصرة حاول مصادرة منزل يعود لرجل درزي قيل أنه موالٍ للنظام، وحين حاول أقاربه منع القيادي، أمر الأخير بإعدامهم.

التمكين

أثارت الحادثة كثيراً من الانتقادات لجبهة النصرة وفاقمت من انعدام الثقة بقياداتها. “أكد الجولاني في المقابلة أن النصرة تتبع للقاعدة وتتلقى أوامرها من الظواهري، ولقد رأينا سلوكيات القاعدة مع مسيحيي العراق ومع اليزيديين وسواهم من الاقليات قبل ظهور داعش حتى،” يقول الصحفي السوري إياد شربجي. “لا يمكن أن نثق بالجولاني لأنه غير صادق، وما يفعله هو عقيدة التمكين التي تؤمن بها السلفية الجهادية، وهي عملية خداع مرحلي ريثما تمتلك القوة لفرض ما تريد”.

وتكررت ذات الفكرة فيما يقوله المفكر السوري- الفلسطيني سلامة كيلة، الذي يفترض أن تصريحات الجولاني كانت مجرد تكتيك مرحلي. “ربما كان الهدف هنا هو فعل ما فعلته داعش، حين ’توافقت‘ مع قوى عراقية ضد النظام في العراق، وسارعت للسيطرة على مناطق واسعة غرب العراق لتعلن الخلافة، وتشرّد المسيحيين وتعتقل اليزيديين، وتمارس كل أشكال القتل.”

وعلى مدى الأشهر الماضية، تحدث عدد من المراقبين عن احتمال أن تكون واشنطن قد قدمت الدعم إلى جيش الفتح الذي يضم جبهة النصرة. ويفترض هؤلاء أن الولايات المتحدة لربما ابتلعت الطعم وتنظر حالياً في التعاون مع النصرة ضد داعش. لكن الموقف الرسمي للولايات المتحدة يبدو ـ على الأقل حتى الآن ـ ثابتاً حيال جماعة النصرة التي صنفتها واشنطن كجماعة إرهابية في العام 2012.

وفي تعليق للصحفيين على حادثة قرية قلب اللوزة، قال الناطق باسم الخارجية الأمريكية جيف راثكي: “ندين الهجوم الذي قامت به ‏جبهة النصرة‬ في العاشر من شهر حزيران (يونيو) الجاري على قرية درزية في محافظة إدلب‬، مما أدى بحسب التقارير الى مقتل 20 شخصاً. وعلى النقيض من الادعاءات الاخيرة لقائد جبهة النصرة المدعو الجولاني بأن جبهة النصرة لن تلحق الاذى بالأقليات الدينية، برهنت هذه المجموعة الارهابية ـ مرة اخرى ـ أنها ماضية بارتكاب مجموعة من الجرائم بحق الشعب السوري.”‬‬‬

لكن شربجي يعتقد أن واشنطن قد تمد يدها إلى النصرة في حال استشعرت الحاجة إلى ذلك، فيقول: “لقد سبق للولايات المتحدة أن تعاملت وفاوضت طالبان وهي تقصفها في ذات الوقت.” ويضيف: “البرغماتية الغربية وخصوصا الامريكية قدمت الكثير من الأمثلة عن ذلك، ليس أولها فضيحة إيران كونترا وليس آخرها تعاملها مخابراتياً مع نظام الأسد في الوقت الذي كانت تحاربه دبلوماسياً وتصنفه ضمن محور الشر والدول الداعمة للإرهاب. لذا، لا استبعد تعاون واشنطن مع النصرة مرحلياً في سبيل القضاء على داعش.”

وفي 13 حزيران (يونيو) الجاري، صرحت جبهة النصرة بأنها ستقوم بمحاكمة الأفراد الذين تورطوا في حادثة قلب اللوزة، وحاولت الجبهة في بيان على تويتر التخفيف من مخاوف الأقليات من حصول هجمات مماثلة أخرى، بقولها إن “ما وقع خطأ كبير وغير مبرر وتم بدون علم القيادة وبمخالفة واضحة لتوجيهات قيادة جبهة النصرة وأن كل من تورط في تلك الحادثة سيقدم لمحكمة شرعية.”
لكن جهود جبهة النصرة لإصلاح الموقف وإنقاذ صورتها ظلت تعتبر متأخرة وهزيلة. “صدور البيان المتأخر ربما يدل على انقسام في القيادة، وقد يكون ثمة تيار براغماتي في النصرة يحاول أن يبعد نفسه عن داعش والإرهاب،” يقول وائل السواح المدير التنفيذي لمنظمة اليوم التالي ومقرها اسطنبول. “ولكن هذا التيار ليس له قوام واضح، ولا يمكن الرهان عليه.”

على صفحات التواصل الاجتماعي، تحدث كثيرون عن أن تصريحات الجولاني الأخيرة ـ إلى جانب غيرها من تصرفات النصرة ـ قد تشكل بداية نحو رفض كامل في النهاية للإرهاب واندماج كامل في ثورة الشعب السوري من أجل الحرية. لكن يبدو من المبكر التبين فيما إذا كانت هذه هي الحال. “ستظل النصرة وشركاؤها منظمات دخيلة وإرهابية طالما حوت مقاتلين أجانب، ومادامت تعلن أن الدين لا المواطنة هو ما يجمع السوريين،” يقول السواح. “إذا شاءت النصرة، أو أي فصيل راديكالي مسلح، أن تتخلى عن برنامجها، وأن تشارك السوريين في بناء سوريا مدنية، وطنية، ديمقراطية، فذلك يستوجب منها إبعاد كل المقاتلين الأجانب وتبني برنامج يقوم على أساس حقوق الإنسان ويعتبر أن السوريين جميعهم متساوون أمام القانون، وأن السلطة تأتي من صندوق الانتخاب. عندها فقط، سيكونون أكثر من مرحب بهم.”