وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

نتنياهو: توظيف الفجوات الثقافية لتحقيق النصر

اسرائيل انتخابات
النتائج الاولية للانتخابات الاسرائيلية المصدر Haaretz

في مايو 2012، وبعد تطور آخر في السياسة الإسرائيلية الائتلافية، وضعت Time Magazine رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو على غلافها. “الملك بيبي” أطلقت عليه المجلة، مشيرة إلى أن “ليس لديه أي منافس وطني. وتصل شعبيته إلى ما يقرب من 50% وفي تزايد مستمر. وفي الوقت الذي يوضع فيه أصحاب المناصب جانباً، يحتفل هو بالنصر”.

وهكذا علِق اللقب. ومنذ فوزه بالانتخابات في 17 مارس 2015، أشادت وسائل الإعلام الوطنية والدولية على حد سواء بالزعيم الإسرائيلي المستقبلي الأوحد “الملك بيبي”، حاكم سياسة بلاده.

وفي الواقع، يُبرهن فوز نتنياهو بولاية رابعة فهمه العميق للقوى الدافعة للرأي السياسي الإسرائيلي. وطوال فترة طويلة من الحملة الانتخابية، ناقش المعلقين ما إذا كانت القضايا الأمنية أم الاقتصادية العامل الحاسم في أرجحة أصوات الناخبين في البلاد. ولكن فطن نتنياهو إلى أنّ أيّ منهما كذلك، إذ تعدّ الانتخابات في إسرائيل بالنسبة لغالبية الناخبين مسألة هوية ثقافية مع “اليسار” أو “اليمين”. وهنا، عرف نتنياهو ذلك، إذ كان يتمتع بأفضلية غير مشكوك فيها، ليثبت في نهاية المطاف أنه يمتلك ورقةً رابحة. إنّ إدراك سبب تمتع نتنياهو بهذه الأفضلية أمر جوهري لتبصر حاضر اسرائيل ومستقبلها.

قد يبدو التصويت لصالح اليمين الاسرائيلي وكأنه تصويت للأمن المتشدد ضد الأعداء العرب، سواء على أرض الواقع أو في الخيال. وعلى الرغم من ذلك، تاريخياً، كانت في الواقع موجهة أكثر إلى الداخل ضد المؤسسة الصهيونية الاشتراكية المستحكمة التي أسست الدولة. ولطالما تضمنت الصهيونية أصواتاً غير متناغمة، ولكن في فترة تأسيسها كانت الغالبية العظمى لأولئك الذين غادروا أوروبا للاستقرار في أرض اسرائيل من تيار “العمل الصهيوني”. أسس هذا الفصيل مؤسسات ما قبل الدولة، وإلى جانب المهاجرين الآخرين تمكن من الهيمنة عليها. ومع تأسيس الدولة عام 1948، أسست هذه المجموعة جذور ما يُعرف اليوم بحزب العمال. هيمن الحزب على اسرائيل ثقافياً واقتصادياً وفاز في جميع انتخابات الدولة في أول 29 عاماً.

ولكن مع مرور الوقت، ولدّت هيمنة هذه النخبة الاستياء في البلاد. وكان المزراحيم، وهم اليهود الشرقيون من أصول شرق أوسطية واللذين فروا من دول العالم العربي إلى الدولة الوليدة أوائل الخمسينات، من أوائل من عبروا عن استيائهم. كان المهاجرون بعيدون ثقافياً عن النخبة الأشكناز وفي مرتبة اقتصادية أقل بكثير. ومع مرور الوقت، بدأوا يشعروا إلى جانب غالبية أولادهم وأحفادهم أن مؤسسة العمل الأشكناز أبعدتهم عن دوائر السلطة. وفي عام 1977، تفاقم الغضب ووصل الزعيم اليميني مناحيم بيغن، بدعم قوي من المزراحيم إلى السلطة، مُنهياً بذلك ما يقرب من ثلاثة عقود من حكم حزب العمل الصهيوني.

أضافت السنوات التالية المزيد من الويلات للنخبة القديمة. ازدادت أعداد الاسرائيليين المتدينين وخصوصاً الحريديم (المتدينين المتشددين)، وهاجر مليون يهودي من الاتحاد السوفياتي السابق. شعرت هذه الجماعات أيضاً بأنها مُنفصلة عن النخبة الثقافية التي أصبحت تركز بشكلٍ متزايد على ما يُعرف باسم “دولة تل أبيب”. وفي عام 1996، أدى هذا التحالف إلى فوزٍ مفاجىء لمرشح رئاسة الوزراء عن حزب الليكود اليميني، بنيامين نتنياهو. وحتى آنذاك، تحدثت التقارير الصحفية عن اسرائيل جديدة، وهو ائتلاف المزراحيم والمتدينين والروس الذي يسعى للإطاحة بالمؤسسة القديمة والاستيلاء على السلطة.

ومنذ عام 1996، يبدو أنّ العيب الديموغرافي لليسار يستمر في النمو فقط. فقد حاولت أحزاب اليسار وأحزاب اليسار الوسط اتباع استراتيجياتٍ مختلفة لاستمالة الناخبين اليمينيين، ومؤخراً تم تسليط الضوء على المخاوف الاقتصادية التي استحوذت على اهتمام أعداد متزايدة منذ حركة الاحتجاج الجماعي عام 2011، إلا أنّ هذه الاستراتيجيات باءت بالفشل.

معركة الثقافة والهوية

وعلى ما يبدو، فهم نتنياهو ذلك بالبداهة. وطوال حملته الانتخابية، استمر في دفع عجلة قضايا الحرب الثقافية. وفي أحد الأيام، نشر على صفحته على الفيسبوك هجوماً قاسياً على صحيفة يديعوت أحرونوت، لافتاً النظر إلى ما يعتبره العديد من اليمين هيمنة يسارية على وسائل الإعلام. ومن جهة أخرى، منع عدة حكام من حضور جائزة إسرائيل السنوية للآداب بسبب تعاطفهم مع اليسار. لفت هذا الأنظار أيضاً إلى الاستياء واسع النطاق من هيمنة الأشكناز اليساريين على المؤسسات الثقافية.

وفي يوم الانتخابات، أخبر نتنياهو أنصاره أن اليسار والمنظمات غير الحكومية الممولة من الخارج كانت تقّل الناخبين العرب إلى صناديق الاقتراع. ومجدداً أشار ضمنياً إلى أنّ النخبة اليسارية، الثرية والتي تتمتع بالسلطة، كانت تستخدم حيلاً لتقويض الإرادة الشعبية للأغلبية اليهودية الحقيقية، المزراحيم والمتدينين والمهاجرين الروس.

وعلى ما يبدو، تحوّل ولاء الناخبين بشكلٍ جماعي إلى حزب الليكود بقيادة نتنياهو، ليعطوه بذلك الدفعة اللازمة لفوزه بولاية رابعة. ومن المهم أن نلاحظ أن هذا لم يكن تحولاً من “اليسار” إلى اليمين” بل من حزب يميني إلى حزب يميني آخر. والأهم من هذا كله، فهم السبب وراء هذا السلوك. أدرك نتيناهو الحجج التي من شأنها تحفيز قاعدته الشعبية: ليس الأمن، وليس الاقتصاد، بل مناشدته الثقافة والهوية. ومن غير الواضح كيف يمكن لليسار الاسرائيلي أن يستجيب لهذا النداء وكيفية، بعد سنوات عديدة من الفشل، استعادة الأرض التي خسرتها في معركة الثقافة والهوية.

وفي الوقت نفسه، وبينما ينقسم اليهود إلى اليسار واليمين، فإن مواطني إسرائيل العرب الذين يتخطون حاجز المليون مواطن موحدوا الصفوف. وفي الانتخابات الأخيرة، تنافست ثلاثة أحزاب عربية منفصلة، تعتبر بشكل عام شيوعية وقومية وعربية، على مقاعد الكنيست. قد لا يكون وصف هذه الأحزاب دقيقاً، إلا أن الجهور العربي الإسرائيلي، تماماً كحال اليهودي، يعاني من تصدعاتٍ وخلافات ثقافية وفكرية. وعلى الرغم من ذلك، وقبل هذه الانتخابات عمل الكنيست الإسرائيلي على تمرير سلسلة من الإصلاحات الانتخابية رافعاً الحد الأدنى المطلوب لحصول الأحزاب السياسية على مقاعد في المجلس التشريعي من 2% إلى 3,25% من مجموع الأصوات المدلى بها. كان الدافع من وراء هذا جزئياً رغبة عامة في تخليص النظام من الأحزاب الصغيرة وتشجيع المزيد من الاستقرار في الحكم. ولكن، بقيادة السياسي اليميني أفيغدور ليبرمان، تهدف هذه الخطوة أيضاً إلى رفع النسبة بما فيه الكفاية مما يعني عدم قدرة الأحزاب العربية جذب الأصوات المطلوبة وبالتالي سيتم استبعادها من الكنيست بشكلٍ تام.

ورداً على ذلك، قررت الأحزاب العربية الترشح كـ”قائمة مشتركة” واحدة، في حين عمت البهجة بين الناخبين العرب. ارتفع تمثيل الأحزاب العربية في الكنيست من 11 مقعداً إلى 13، على خلفية تزايد إقبال الناخبين. كما أعتبر زعيم القائمة المشتركة، أيمن عودة، بنظر الجمهور اليهودي، صوت أكثر اعتدالاً من رؤساء الأحزاب العربية الماضية. ومن المحتمل أن يمهد هذا الطريق لإجراء حوار بشأن تخفيف التمييز الذي يواجهه عرب اسرائيل في كثير من نواحي الحياة، إذ لا يقتصر التمييز على اليسار بل على اليمين أيضاً. ومع ذلك، وعلى الرغم من مكاسبها المتواضعة، ستواصل تهميش الممثلين العرب، باعتبارهم ضحايا قدرة “الملك بيبي” على حشد قاعدته الجماهرية.

كان يُعتقد في الماضي أن الانتخابات تتعلق بالقضايا المُلِّحة، سواء كانت قضايا الأمن أو الاقتصاد أو سوء الإنفاق التي تصل مقر رئيس الوزراء، إلا أنها في النهاية لا تتعلق بتلك القضايا على الإطلاق. كان هذا تصويتاً بين قبيلتين مختلفتين، “اليسار” و”اليمين” ويبدو أن نتنياهو أدرك الأمر منذ البداية.