وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إقرار الدستور الجزائري الجديد دون الاحتفال بالاصلاحات

إقرار الدستور الجزائري الجديد دون الاحتفال بالاصلاحات
وافق البرلمان الجزائري على سلسلة من الإصلاحات الدستورية، أُقرّت لتعزيز الديموقراطية على الرغم من مقاطعة احزاب المعارضة- الجزائر -الجزائر 7 فبراير-2016 Photo Imago Stock & People GmBH

في السعي من أجل الحرية والديمقراطية، تعاني العديد من بلدان شمال افريقيا والشرق الأوسط من عدم الاستقرار والعنف السياسي في عام 2016، إلا أنّ الجزائر اختارت مساراً أكثر أمناً. فبعد فترة وجيزة من الانتفاضة الشعبية في جارتها تونس بين عامي 2010 و2011 والتي أسفرت عن طرد الرئيس بن علي خارج البلاد، وعد الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بإجراء إصلاحات متعددة المستويات من أجل تهدئة الشباب الغاضب احتجاجاً على ارتفاع أسعار السلع الأساسية. كما وعد بإجراء إصلاحاتٍ دستورية جذرية تهدف إلى إحياء مجتمعٍ أكثر حرية وشمولاً، وإقامة دولة ديمقراطية. ففي بلدٍ يمتاز بسياسته المعقدة، بادىء ذي بدء، أثبت أنّ هذا الوعد شاقٌ ويصعب الوفاء به، إلا أنّ الجزائرين لمسوا الوفاء الرسمي بالوعد.

في عام 2011، بدأ عبد القادر بن صالح، رئيس مجلس الأمة، عقد سلسلة من الدورات الاستشارية، إلا أن هذه العملية توقفت في عام 2013 عندما تعرّض الرئيس بوتفليقة لسكتة دماغية. وبالرغم من ذلك، ترشح بوتفليقة مرة أخرى لانتخابات منصب الرئاسة، وانتخب لولاية رابعة في أبريل 2014، وفي ضوء ذلك، كلّف أحمد اويحيى، مدير ديوان رئاسة الجمهورية، بمهمة الوفاء بوعد الإصلاحات الدستورية. دعا أويحيى 64 حزباً سياسياً، وما يقرب من 36 من الشخصيات الوطنية و 12 من الأكاديميين، والعديد من المنظمات الوطنية وجمعيات المجتمع المدني للتشاور وتقديم توصيات للدستور الجديد في حوار وطني شامل.

قليلاً ما تحصل مثل هذه الاصلاحات التشاركية، ولكن على الرغم من ذلك، احتفل عدد قليل من أعضاء المعارضة بها. فقد قاطعوا الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2014، معتبرين أنّ أي دستور يُقر في ظل النظام الحالي سيفتقر إلى الشرعية. كما طالبوا باستقالة الرئيس قبل البدء بأي إصلاحات. تتكون هذه المعارضة بشكلٍ أساسي من الفرع الجزائري لجماعة الإخوان المسلمين، وحركة الإصلاح الوطني، وحركة النهضة. كما رفضت جبهة القوى الاشتراكية، التي تحظى بشعبية في منطقة القبائل، المشاركة أيضاً. وفي حين تضمنت المسودة النهائية للدستور المعدل 80% من الإصلاحات الموصى بها، لا تزال العديد من المعارضة، بما في ذلك أولئك الذين شاركوا بالمقاطعة، يعتبرون الوثيقة غير شاملة.
وفي 5 يناير 2016، ناقش اويحيى مشروع القانون في مؤتمرٍ صحفي، وذلك بعد عرضه على المجلس الوزاري والمجلس الدستوري لأخذ آرائهم. وفي 7 فبراير، وافقت الأغلبية في البرلمان على الدستور دون المزيد من التعديلات. وفي 7 مارس 2016، نُشر الدستور الجديد في الصحيفة الرسمية، مما أدخله حيز التنفيذ وجعله ملزماً.

شهت الفترة ما بين الإعلان عن المشروع وتطبيقه، حملة إعلامية كانت تهدف إلى شرح التغييرات وآثارها على الحياة اليومية للجزائريين العاديين. وفي موازاة ذلك، حشدت الأحزاب السياسية الداعمة للدستور جهودها لإقناع ناخبيهم بأهمية مثل هذه الإصلاحات وضرورة ضمان الموافقة السلسة من قِبل كلٍ من القاعدة الشعبية وأعضاء البرلمان على حد سواء. ولطالما ادعى الرئيس والدائرة المقربة منه أنّ هذه التعديلات بمثابة انتصارٍ للديمقراطية في الجزائر، واصفاً إياها بالوثيقة التوافقية والشاملة التي تضمن معظم مطالب المجتمع الجزائري وتصون حقوق الجميع وحرياتهم.

التغييرات

جاء الدستور المعدل بتغييراتٍ واعدة، ولبى العديد من مطالب المعارضة والنشطاء، إذ حددت التعديلات الترشح للرئاسة بولايتين فقط تمتد كل منها خمسة أعوام، تلبيةً لمطالب المعارضة لمنع خليفة بوتفليقة، الرئيس الأطول حكماً في الجزائر، من إقامةٍ دولةٍ دكتاتورية. ويتضمن التعديل أيضاً استشارة رئيس الجمهورية للأغلبية البرلمانية عند تعيين أو إقالة الوزير الأول (رئيس الوزراء)، وبالتالي الالتزام بالمبادىء الديمقراطية التي أهملها الدستور القديم. فضلاً عن ذلك، تمت معالجة قضية حرية التعبير، ذات الأهمية في الشرق الأوسط، من خلال عدم تجريم الأنشطة الصحفية، وضمان استقلال القضاء. ومن المفترض أن هذه التغييرات ستسمح بحرية أكبر للصحافة، دون خوفٍ من الاضطهاد.

كما يعترف التعديل باللغة الأمازيغية (البربرية) لسكان الجزائر الأصليين كلغةٍ رسمية، في استجابةٍ لمشكلة الهوية لهذه الفئة من الناس وتلبيةً لمطالب المعارضة بضمان حقوق “الأقليات.” كما يضمن الدستور الجديد أيضاً حرية الدين والمعتقدات. ومن خلال إنشاء مجالس عُليا للشباب والنساء للتشاور مع الحكومة، يوّضح الدستور أنّ حقوق الشباب والنساء جزءٌ لا يتجزأ من عملية صنع القرار، فقد كان هذا مطلباً محدداً من قِبل المجتمع المدني الجزائري، من أجل تعزيز الشمولية في عملية صنع القرار الحكومي.

ويضمن الدستور المعتمد حديثاً أيضاً الحق في التجمع السلمي، ويكفل الحريات للأحزاب السياسية (بما في ذلك المعارضة) ومشاركتهم بنشاطٍ في شؤون الدولة، وممارسة الرقابة على الحكومة، ومنحهم المساعدات المالية وفقاً لتمثيلهم البرلماني. يتطلب ذلك الكشف الكامل عن الممتلكات الخاصة ومصادر
دخل أولئك من هم في السُلطة. والأهم من ذلك، يوضح دور الجيش في الحفاظ على سيادة ووحدة أراضي البلاد.

الخلافات

قاطعت بعض أحزاب المعارضة الكبيرة والشخصيات البارزة ليس فقط المشاورات، بل أيضاً رفضت المصادقة على أيٍ من التغييرات الإيجابية في الوثيقة الجديدة. كما رفضت بعض الأحزاب الدستور الجديد كلياً، مدعيةً أنّ النظام الذي يُمسك زمام السُلطة غير شرعي، وأنّ الإصلاحات لم تكن شاملةً بما فيه الكفاية. في حين رأى آخرون أنّ هذه ليست سوى إصلاحاتٍ ظاهرية، وتفتقر إلى العمق والصدق وأنّ المقصود منها اكتساب المزيد من الوقت فقط. إن حقيقة عدم تنفيذ المعارضة للتهديدات التي صرحت بها، بما في ذلك التعبئة الجماهيرية التي حذرت منها المعارضة، أدت كما يُزعم، إلى فقدان مصداقية المعارضة، سيما أنّ بعض مطالبهم الأساسية تمت تلبيتها، حيث كان يجدر بهم اعتباره انتصاراً بدلاً من تفنيد أي عمل تقوم به الحكومة الحالية.

ولا يزال الرأي العام منقسماً بشأن الدستور، إذ يؤيد بعض الناس التعديلات ويثنون على الدستور الجديد، بينما يرى آخرون أنّ هذه التعديلات مجرد حبرٍ على ورق ويشككون في تنفيذها على أرض الواقع. ولا يزال البعض الآخر يشكك بأنّ هذه الإصلاحات ستؤدي إلى أي تحسّن في حياتهم اليومية، وأنّ لهذه الخطوة دوافع سياسية.

يتمحور الجدل على وجه التحديد حول المادتين (51) و(73). وتنص المادة (51) من الدستور السابق على عدم تقلّد من يحملون جنسية مزدوجة مناصب عُليا في الدولة، دون تحديد قائمة هذه المناصب. ويفترض المراقبون أنها تتعلق بجميع المناصب الوزارية والعسكرية والقضائية، ولربما المستشارين السياسيين. وعلى صعيدٍ آخر، تشترط المادة (73) أن يكون المترشح للانتخابات الرئاسية مواطناً جزائرياً ويثبت إقامة دائمة بالجزائر دون سواها لمدة عشر سنوات على الأقل. احتج العديدون على مثل هذه الشروط، بما في ذلك الحزب الحاكم (حزب جبهة التحرير الوطني)، حيث اشتكى الأمين العام للحزب بدايةً من أنّ المادة (51) بحاجة إلى التوضيح فضلاً عن كونها غير دستورية، لأنها قد تضر بالسكان الجزائريين الذين فروا من البلاد خلال سنوات العنف. ومع ذلك، تراجع الأمين العام للحزب الحاكم في وقتٍ لاحق عن موقفه هذا بعد الإعلان عن خطط بتضمين توضيحاتٍ لمعالجة هذه المخاوف في قانونٍ منفصل. وفي حين من غير المتوقع أن تساهم هذه التوضيحات في إحداث تغييراتٍ حقيقة،

يمكن لجبهة التحرير الوطني إدعاء تحقيق النصر بإقناع مجلس الوزراء توضيح المادة من خلال قانونٍ منفصل، وبالتالي كسب نقاطٍ سياسية دون معادة أولئك الذين يرغبون في بقاء المادة (51) كما هي.

التفسيرات

أشار بعض المحللين إلى أنّ الخطوات الأخيرة من عملية الإصلاح تمت على وجه السرعة، مما أفسح مجالاً لـ”إساءة” التفسير. ومع ذلك، استمرت المشاورات ثلاث سنوات، وبعد الانتهاء من المسودة الأولى، مُنح أصحاب المصلحة الوقت الكافي لدراستها والموافقة عليها. فقد جاء منح هذه الحريات واسعة النطاق خلال الضائقة الاقتصادية، ولربما كان الهدف منها إرضاء الناس الذين بدأوا يشعرون بالقلق على مصير الاقتصاد في مواجهة استنزافٍ مستمر لاحتياطيات النقد الأجنبي وتراجع أسعار النفط.

احتمالٌ آخر أنّ الرئيس أراد دستوراً رفيع المستوى تماماً كما هو حال إرثه. يجسد هذا جوهر ما دافع عنه، ويرمز إلى وفائه بوعده بإجراء إصلاحاتٍ جذرية، وإحياء الدولة المدنية، ودسترة مشروع المصالحة الوطنية. إن انقطاع العملية خلال فترة مرض الرئيس، يوحي يقيناً أن هذا هو مشروع بوتفليقة.

كما انتشرت شائعاتٌ بإجراء تعديلٍ وزاري آخر في القريب العاجل. بشكلٍ عام، يخلق الدستور الجديد المزيد من الانفتاح الديمقراطي في الجزائر ويدفن عهد النظام العسكري. الزمن وحده كفيل بإثبات ما إذا كان سيتم تحسين الحياة اليومية للجزائريين العاديين، وكما قال شكسبير في مسرحيته عطيل “الاوقات تحمل في رحمها الكثير من الحوادث التى تولد مع الوقت.”