وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عثرات تعيق انسحاب الجيش السوداني من الحياة السياسية

تضغط قوى الثورة الشعبية لإجبار الجيش السوداني على الانسحاب من الحياة السياسية في السودان. لكن تلك الجهود ما تزال تصطدم بعثراتٍ عدّة.

الجيش السوداني
صورة تم التقاطها يوم 5 ديسمبر 2022 لعبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو أثناء حضوره لمراسم التوقيع على الاتفاق الإطاري في قاعة الصداقة بالعاصمة السودانية الخرطوم. المصدر: Mahmoud Hjaj/ ANADOLU AGENCY/ Anadolu Agency via AFP.

خالد محمود

تضغط قوى الثورة الشعبية لإجبار الجيش على الانسحاب من الحياة السياسية في السودان. لكن تلك الجهود ما تزال تصطدم بعثراتٍ عدّة، سيّما وأن الجيش يبذل جهوداً حثيثة للحفاظ على دوره المؤثر ويغض الطرف عن المطالب المحلية والدولية الداعية لتخفيف قبضته عن اقتصاد السودان.

وبعد مرور نحو 4 سنوات من الإطاحة بنظام عمر البشير، ما يزال السودان من أفقر دول العالم. كما أنه غارقٌ في أزمة سياسية طاحنة بعدما فرض الجيش إجراءات استثنائية وحل الحكومة السابقة.

مشهد قاتم

منذ 25 أكتوبر 2021، يشهد السودان احتجاجات شعبية تطالب بحكم مدني كامل وترفض فرض الجيش لحزمة من الإجراءات الاستثنائية. ودخلت البلاد في 11 أغسطس 2019 مرحلةً انتقالية كان من المفترض أن تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024. وبموجب الاتفاق الموقّع حينذاك، فقد تم تقاسم السلطة بين الجيش والقوى المدنية. وانضمت لهذا الاتفاق حركاتٌ مسلحة وقّعت اتفاق سلام مع الحكومة في عام 2020.

عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، عزّز من هذا المناخ القاتم بعدما قرّر تجميد نشاط النقابات والاتحادات المهنية والاتحاد العام لأصحاب العمل. كما أنه فرض السيطرة على الأرصدة المالية لهذه المؤسسات، ناهيك عن تشكيل لجنة لتكوين لجان تسييرها.

أحد الخبراء السياسيين اعتبر التجميد تنازلاً لتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، وهو الائتلاف الحاكم السابق. وبحسب ذلك الرأي، تأتي هذه الخطوة في ظل المساعي الرامية لإنجاح التسوية السياسية المرتقبة بين العسكريين والمدنيين. وكان التحالف أعلن مرارا رفضه عودة نشاط النقابات السابقة نظراً لارتباطها العضوي بنظام البشير السابق.

أما المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فيرى أن سيطرة الجيش على الكيانات المهنية والنقابية ستقضي على نشاطاتها أو ستجيرها لخدمة مصالح وسياسات السلطة العسكرية.

وبما أن العسكر “يواصل المراوغة في التسوية لتحقيق أكبر مكاسب والضغط على قوى الحرية والتغيير”، يقترح ممثلو هذا الاتجاه تشديد مقاومة الانقلاب العسكري بمختلف الأشكال. ويشمل ذلك الانتفاضة الشعبية الشاملة والاضراب السياسي العام والعصيان المدني لإسقاط الانقلاب وانتزاع الحكم المدني الديمقراطي.

وندد بيان الآلية الثلاثية المكوّنة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) بالاستخدام المستمر للقوة المفرطة ضد المتظاهرين في السودان. وبلغ عدد القتلى منذ الانقلاب العسكري إلى 121 شخصاً. كما يقدّر عدد الجرحى بالمئات.

تعهدات بالانسحاب

جدّد البرهان مؤخراً تعهداته بالانسحاب من المشهد السياسي حال توافق القوى السياسية. وقال إن الجيش سيقبل بأي صيغة تضمن تماسك البلاد وتأتي بحكومة مستقلين غير حزبية. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يعلن فيها القائد العام للجيش السوداني رغبته في النأي بالمؤسسة العسكرية عن السياسة.

وفي يوليو 2022، أكد البرهان أن القوات المسلحة ستوافق على أي صيغة تضمن تماسك البلاد وتحفظ كرامة القوات النظامية وتأتي بحكومة مستقلين غير حزبية تتوافق عليها القوى السياسية.

تعهدات البرهان السابقة لم تخلو من رفض مباشر للتدخل في شؤون الجيش. وسبق للبرهان التأكيد على عدم السماح لأي جهة تعمل على تفكيك الجيش. كما أنه حذّر الأحزاب السياسية من التدخل في شؤونه واستغلاله لتحقيق مكاسب سلطوية. وقال: “لن نسمح بالتدخل في شؤون الجيش. وكلّ من يتحدث عن الجيش عدوٌ لنا، سواء كانوا إسلاميين أو شيوعيين أو بعثيين”.

أما الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي”، فقد أكّد التزام الجيش بالخروج من المشهد السياسي. وككلّ السياسيين في العالم الثالث، اشترط حميدتي أن يأتي أناس “على قدر المسؤولية” لملء الفراغ.

ومع ذلك، لم يخفي حميدتي في طيات حديث له مؤخرا طموحا سياسيا تقليديا. وقال إنه لم يفكر بالترشح للرئاسة في أي وقت من الأوقات. ومع ذلك، فقد أبقى حميدتي الباب مفتوحا أمام احتمال بقائه كعنصر فاعل في الحياة السياسية السودانية. وقال: “إذا رأينا السودان ينهار، سنكون حاضرين”.

وأثار الكشف عن بيع شركة إسرائيلية لمعدات تجسس متطورة بشكل سرّي لقوات الدعم السريع في السودان مخاوف من استخدامها. وتضمنت الصفقة بيع معدات وبرنامج للتجسس واختراق الهواتف الذكية.

آنيت هوفمان، الباحثة في معهد كلينغندال، رأت أن تزويد قوات الدعم السريع بهذه التجهيزات لن يؤدي إلى تفاقم القمع الوحشي وقتل المتظاهرين. ووفقاً لهوفمان، فإن الصفقة ستقرّب السودان من مواجهة مفتوحة مع القوات المسلحة في البلاد، ويزيد من خطر اندلاع حرب أهلية.

هيمنة اقتصادية

تتهم دراسة الجيش بالسعي لعرقلة طموحات السودان الديمقراطية عبر استخدام سيطرته على الاقتصاد. وبحسب الدراسة، فإن تلك السيطرة ستكون عبر تشكيل دولة عميقة تعمل من خلال مؤسسات الدولة.

وخلصت الدراسة إلى أن هذه الدولة العميقة استخدمت سلطتها في أكتوبر 2021 لصالح الانقلاب العسكري ضد الحكومة الانتقالية المدنية. وتشدّد الدراسة على أن الدولة العميقة فاعلة متمكنة من خلال وصولها إلى الموارد المالية الهائلة، واستمرارها بإسكات الصحافيين، واعتقال النشطاء، وقتل المدنيين دون رادع.

وطبقا للدراسة، فإن دولة السودان العميقة تمتلك بعضًا من أكبر الشركات في البلاد. ويتيح ذلك لهذه الدولة العميقة إمكانية الوصول إلى تدفقات مالية خارجة عن الميزانية. كما أنها تتيح لها التمتع بوضعٍ اقتصادي قوي يمكنها من تعيين القادة السياسيين الرئيسيين. وإلى جانب ذلك، فإن تلك الشركات تسمح للدولة العميقة بالسيطرة على البنوك وشركات الاستيراد والتصدير.

ولا يبدو في المقابل، أن الجيش السوداني على استعداد للقبول بأقل من الشروط التي وضعها لنفسه مقابل الدخول في تسوية تنهي الوضع السياسي والاقتصادي المأزوم في السودان.

وتجري مساعي لإنقاذ ترتيبات اقتسام السلطة الانتقالية بين الجيش والمدنيين والتي تم التوصل إليها في أعقاب الإطاحة بالرئيس عمر البشير.

والآن يدفع الجيش باتجاه إجراء انتخابات في 2023. وفي الوقت الذي أبدى فيه الجيش التزامه بالانتقال إلى الديمقراطية، فقد عارضت الحركة الاحتجاجية لعب الجيش لأي دور سياسي.

وتحاول القوى الغربية إبعاد الجيش عن مواصلة المسيرة وحده. وتستند تلك القوى في محاولاتها إلى ما تمتلكه من أوراق الضغط، سيّما وأنها أوقفت مساعدات اقتصادية بمليارات الدولارات بعد الانقلاب.

ومن غير المرجح أن يتخلى الجيش عن السلطة وأن يضع زمام أمر مؤسساته تحت يد مكون مدني دون وجود ضمانات. وبطبيعة الحال، سيستمر الجيش في فرض هيمنته على البلاد، ما لم يتحول السودان إلى نظام ديمقراطي قوي مبني على نظام اقتصادي متماسك.

واشترط قادة الجيش التوافق على رئيس دولة مدني يمثل السيادة والقائد الأعلى للقوات المسلحة. كما اشترطوا أن تنص مسودة الدستور على أن تصبح قوات الدعم السريع جزءاً من الجيش. وطالب القادة أيضاً بتوضيح الخطوات العملية لإدماج تلك القوات في القوات المسلحة، فضلاً عن حذف النصوص التي تدين القادة العسكريين مباشرة.

ويقود تحالف الحرية والتغيير المعارضة الشعبية ويطالب بعودة العسكريين إلى ثكناتهم وتسليم السلطة للمدنيين. ويدعو التحالف لعدم إقحام القوات النظامية في الصراعات السياسية”، فضلاً عن الحث باتجاه التزام تلك القوات بدورها المهني.

ويرفع الشق الأعظم من هذا التحالف المدني شعار “عودوا إلى ثكناتكم”، علماً بأنه وافق على تقاسم السلطة مع الجيش بموجب إعلان دستوري صدر في 2019.

ويعتقد البعض أن نجاح السودانيين في التخلّص من الحكم العسكري قد يعني كتابة نهاية حكم العسكر في شمال إفريقيا. كما أنه سيفضح الأكاذيب التي يروّج لها إعلام أنظمة الحكم العسكري مثل أن مجتمعات الشرق الأوسط غير جاهزة بعد للتحوّل الديمقراطي.

دور مصر وتجربة الجزائر

عاد الزعيم السياسي والديني السوداني المخضرم محمد عثمان الميرغني إلى الخرطوم قادما من مصر. وتأتي عودة المرغني، الذي يتزعم الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، لإنهاء الخلاف الحاصل بين ابنيه حول الاتفاق الموقع بين تحالف قوى الحرية والتغيير والجيش السوداني.

ويعارض جعفر، ابن الميرغني، الاتفاق وتؤيده في موقفه مجموعة من الجماعات المتمردة المعارضة. في المقابل، فإن ابن الميرغني الثاني الحسن يؤيد الاتفاق ويحظى بمباركة والده لموقفه. ويرى البعض أن تباين الموافق الحالي يشكل تهديداً جديداً قد يؤدي إلى تقسيم الحزب بشكلٍ أكبر.

ويقيم الميرغني منذ نحو عشر سنوات في مصر، علماً بأن حزبه يحتفظ منذ استقلال السودان بعلاقات وثيقة مع السلطات المصرية. ويرى مراقبون أن عودة الميرغني يشرف عليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع القيادة العسكرية السودانية.

يأتي ذلك في الوقت الذي أجرى فيه محمد عثمان الحسين، رئيس هيئة الأركان السوداني، زيارة إلى الجزائر. ووفقاً لأحد التحليلات، فإن تلك الزيارة مرتبطة بسعي الجيش السوداني للاستفادة من تجربة نظيره الجزائري في قيادة مرحلة الانتقال السياسي وتسليم السلطة للمدنيين.

وبعد استقالة الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة في أبريل 2019، رفض قائد الأركان الراحل أحمد قايد صالح الاستيلاء على السلطة أو اقتسامها مع المدنيين. وفضّل صالح احترام نص الدستور.

سيناريو الخطر

ثمة من يجادل بأن الأكثر إلحاحًا هو اتخاذ خطوات جريئة لوضع العلاقات المدنية العسكرية على مسار جديد. والحجة هنا تتعلق بالشقاق داخل المعسكر المؤيد للديمقراطية، وهو ما استغله الجيش تاريخياً. ومنذ عام 1956، قامت فصائل عسكرية بـ 17 محاولة انقلابية، نجح منها خمس محاولات فقط.

ومن المحتمل أن يقوم الجيش بتشكيل حكومة مدنية تكنوقراطية جديدة للإشراف على العملية الانتقالية. وقد يتم بتحالف بيروقراطي عسكري يعمد فيه الجيش إلى اختيار حلفاء مدنيين يقبلون بالسيطرة العسكرية، حتى بعد إجراء الانتخابات.

لكن الخوف الأكبر يتمثل في انزلاق السودان لحالة من الفوضى والعنف. وقد يؤدي الفشل في اتّخاذ إجراءات فعّالة واستباقية لترسيخ الانتقال الديمقراطي إلى إغراق السودان في أزمة أعمق لا تُحمد عقباها.