وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عودة المتطرفين تشعل ليبيا

عودة المتطرفين تشعل ليبيا
صورة تم التقاطها يوم ٢٧ أكتوبر ٢٠١١ لرئيس مجلس طرابلس العسكري عبد الكريم بلحاج أثناء حديثه خلال جلسة نقاش عامة تم عقدها في جامعة طرابلس (سابقاً جامعة الفاتح). المصدر: MARCO LONGARI / AFP.

خالد محمود

بوجود حكومتين تتنازعان على السلطة والشرعية في العاصمة الليبية طرابلس، يعود المشهد السياسي إلى ما كان عليه قبل اتفاقي الصخيرات نهاية عام 2015 وجنيف عام 2021 اللذين رعتهما بعثة الأمم المتحدة في المغرب وسويسرا على التوالي. وينذر المشهد الجديد بمخاطر محتملة لحرب أهلية، خصوصاً بعد عودة قيادات متطرفة من الخارج واستمرار النزاع العبثي على عائدات النفط.

وفي الوقت الذي تمتلك فيه “حكومة الاستقرار” برئاسة فتحى باشاغا المكلفة من مجلس النواب، حسابات رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها لا تمتلك مقرات الحكومة في العاصمة طرابلس. ويعود السبب في ذلك إلى رفض عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة المؤقتة، التخلي عن موقعه وتسليم السلطة.

الصراع بين حكومتين أمرٌ سبق له الوقوع في ليبيا قبل سنوات وتحديدا قبل أن تعلن الأمم المتحدة عن ولادة سلطة انتقالية جديدة برئاسة فائز السراج رئيس حكومة الوفاق السابقة. ومع تجدّد هذا النوع من الصراعات، يبدو وكأن شيئا لم يتغير في بلد يعيش دوامة الفوضى المنظمة ويصر المجتمع الدولي على قيادة عملية سلمية فيه بطريقة إدارة الأزمة وليس حلها.

ولأن من يتحكم في المصرف المركزي ومؤسسة النفط بإمكانه أن يسيطر على طرابلس، فإن باشاغا الذي فشل في دخول العاصمة واصل سياسة الهروب الى الأمام بحديث عقيم عن عدم رغبته في استعمال القوة، التي لا يمتلكها بالأساس.

واستمراراً للعبث، ابتدع مركز الحوار الإنساني الذي يتخذ من جنيف مقرا له، مشاورات غاب عنها باشاغا والدبيبة، بينما حضرها قادة الميليشيات والتشكيلات المسلحة لغرب وشرق ليبيا بالإضافة إلى ممثلين عن مجالس الرئاسي والنواب والدولة.

هذا المركز لعب الدور الأساسي في وضع اتفاقية “خارطة الطريق” التي أقرها منتدى الحوار السياسي الليبي وأسفرت عن وجود ترويكا انتقالية في المجلس الرئاسي الذي يقوده محمد المنفي، بالإضافة إلى حكومة الدبيبة.

وبينما لا زال مجلسا النواب والدولة يناقشان في القاهرة وضع قاعدة دستورية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي كانت مقررة نهاية العام الماضي، فإن باشاغا رئيس حكومة الوحدة ما انفك يجول على عدة عواصم إقليمية بهدف إقناعها دون جدوى بسحب اعترافها بحكومة غريمه الدبيبة.

وبما أن حكومة الدبيبة ترفض الاعتراف بهيمنة الميليشيات المسلحة عليها، وتتهرب من تحمل مسؤولية استمرار هذه الميليشيات في ارتكاب الجرائم، فقد كان طبيعياً أن تتهم وزارة الخارجية بالحكومة منظمة العفو الدولية بالترويج للإلحاد والمثلية في ليبيا، ردا على تقرير أصدرته المنظمة مؤخرا يطالب بمحاسبة قادة ميليشيا جهاز دعم الاستقرار التابع للحكومة.

تهديدات أمريكية

عادت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مجددا إلى استخدام لغة التهديد والوعيد الكلاسيكية، بفرض عقوبات على من وصفتهم بمعرقلي الانتخابات.

ومع أنها لم تحدد أية أسماء، لكنها توعدت بفرض هذه العقوبات بالتعاون مع الشركاء الدوليين والحلفاء الإقليميين، وفقا لتصريحات المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأمريكية سامويل وربيرغ. وفي نفس السياق، قال المتحدث وربيرغ: “ستكون هناك عقوبات على معرقلي العملية السياسية الليبية وإجراء الانتخابات من الأمم المتحدة والولايات المتحدة وشركائها الدوليين وحلفائها في المنطقة وخارج المنطقة”.

وبعدما حدد استراتيجية بلاده في “دعم خيار الشعب الليبي الذي اختار الانتخابات”، اعتبر أنه “حان الوقت لوجود حكومة ليبية موحدة تواجه كلّ التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها ليبيا”.

في المقابل، هناك مخاوف حقيقية من أن تكون ليبيا مُرشحةً مرة أخرى لاحتضان العناصر الإرهابية الباحثة عن ساحة لإثبات الوجود وتحقيق السيطرة المكانية. وفي مراحل أكثر تقدمًا، قد تكون ميدانًا لتدوير وانتقال التنظيمات من الملاحقات الأمنية والتنافسية القاعدية-الداعشية بدول الجوار، مما سيدخلها في دورة صراعية يصعب تجاوزها بالمستقبل المنظور.

وتحذر تقديرات أخرى من “اندلاع حرب أهلية جديدة واقتتال داخلي مع ما يعنيه ذلك من الابتعاد لسنوات عن الانتخابات، في ظل الانقسام السياسى الراهن”. كما تشير هذه التقديرات إلى بروز مؤشرات على تواجد عناصر لتنظيمات متطرفة في جنوب البلاد.

في ظل هذا الوضع، يكون من المدهش أن يجري المشهد التالي:

عاد عبد الحكيم بلحاج الأمير السابق للجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة قادما من قطر، وذلك في ذكرى سقوط العاصمة الليبية طرابلس التي تم تقديمه على أنه قائدها. كما عاد شعبان هدية الملقّب بأبو عبيدة الزاوي، رئيس تحالف “فجر ليبيا” والمدرج ضمن قائمة الأشخاص غير المرغوب فيهم لأكثر من عشر دول باعتباره إرهابيًا.

ورافق مسلحون يعتقد أنهم من الحرس الرئاسي وكتيبة “ثوار طرابلس” بلحاج لدى خروجه من مطار معتيقة الدولي متجها إلى منزله في منطقة زناتة بوسط العاصمة.

وحظي بلحاج، الذي يترأس حاليا حزبا سياسيا لا يحظى بشعبية جماهيرية، باستقبال حافل من عدد من أقاربه ورفاقه لدى وصوله الى المطار. وكان بحماية أيوب أبوراس آمر الحرس الرئاسي وأحد مسؤولي كتيبة ثوار طرابلس.

مبعوث الرب

المفاجآت هنا لا تنتهي، فقد قدّم بلحاج فور عودته، نفسه على أنه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ ليبيا. وقال بلحاج لن نسمح بأن يعاد سيناريو الحرب والاقتتال ويجب أن يكون هناك قدسية وحرمة للدم الليبي. وأضاف: “نحن مسؤولون أمام الله وشعبنا والتاريخ بألا نضيع الفرصة على المستوى الاجتماعي والسياسي للتقارب”.

وأظهرت لقطات مصورة بثتها وسائل إعلام محلية وأخرى نشرها بلحاج عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، إلقاءه كلمة أمام أعيان ومشايخ الجنوب الليبي ابتداءً من سيدي السائح، ومروراً بعين زارة وتاجوراء، ووصولاً إلى الزاوية.

وادعى بلحاج في بيان له أن ليبيا تمر بمرحلة تاريخية حاسمة وتواجه فيها مخاطر التقسيم وعودة الحروب.

لكن توقيت العودة يشي برغبة بلحاج في لعب دور سياسي في الأزمة الراهنة ما بين الحكومتين المتنافستين على السلطة.

في بيانه الرسمي، حاول بلحاج الإيحاء بأنه على مسافة واحدة من حكومتي الدبيبة وباشاغا. بيد أن عودته المتزامنة مع عودة قيادي آخر تم ربطه بأعمالٍ إرهابية وهو شعبان هدية، المحسوب على عملية فجر ليبيا، يشير بحسب مصادر مطلعة إلى احتمال انضمامه إلى معسكر المتطرفين الذين يدعمهم الدبيبة للبقاء في منصبه.

قصة الهروب

فر بلحاج من طرابلس اعتبارا من عام 2017. كما صدر أمرٌ باعتقاله من النائب العام في 2019. ويعد بلحاج قائد الجماعة الإسلامية المقاتلة التي تمردت على القذافي في التسعينات. وأمضى فترة مع متشددين إسلاميين في أفغانستان، لكنه قال إنه لم يكن حليفا لأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة الراحل.

ومع أنه مطلوب جنائيا، لكن مصادر النيابة الليبية في طرابلس قالت في المقابل إن لديه إذن صدر منذ أشهر بالدخول لمرة واحدة، وبالتالي فهو ليس مدرجا على قوائم الترقب والانتظار.

وفي رسالة رسمية وجهها النائب العام إلى رئيسي جهازي المخابرات والمباحث العامة، سرد سلسلة اتهامات موجهة لبلحاج وأربعة ليبيين آخرين، بالإضافة إلى عدد من قادة المعارضة التشادية، تضمنت وقائع القضية رقم 5 لعام 2018 مخابرات. كما تضمنت الرسالة بلاغات ذات صلة بالهجوم الذي تم من قبل مجموعات مسلحة على الحقول والموانئ النفطية والهجوم على قاعدة تمنهنت والتدخل في القتال الدائر حينذاك بين بعض القبائل.

واستندت الرسالة إلى بلاغات عن وقائع متعلقة بجرائم القتل والخطف والحرابة التي طالت عددا من المواطنين الليبيين في الجنوب الليبي من قبل عناصر فصائل المعارضة التشادية وبارتكاب عدد من المواطنين الليبيين لوقائع الاستعانة ببعض عناصر المعارضة السودانية والتشادية في القتال الدائر بين الفرقاء الليبيين.

اعتذار بريطانيا

عودة المتطرفين تشعل ليبيا
صورة تم التقاطها يوم ١٠ مايو ٢٠١٨ لعبد الحكيم بلحاج وهو يقرأ رسالة اعتذار حصل عليها من الحكومة البريطانية وذلك عقب مؤتمر صحفي عقده بالقنصلية البريطانية في إسطنبول. وعبّر بلحاج، وهو مقاتلٌ إسلامي ليبي سابق قبل أن يتحول إلى سياسي، عن شكره للحكومة البريطانية على اعتذارها “الشجاع” عن المساهمة بمعاملته بطريقة سيئة لدى تسليمه إلى ليبيا. المصدر: OZAN KOSE / AFP.

في سابقة هي الأولى من نوعها، قدّمت السلطات البريطانية اعتذاراً رسمياً لبلحاج في مايو عام 2018، وتعهدت بدفع تعويض له عن دورها في “إساءة معاملة” بلحاج – الذي خطف في تايلاند عام 2004 ونقل إلى ليبيا.

وفي خطاب وجهته إلى بلحاج وزوجته فاطمة، قالت رئيسة الحكومة البريطانية السابقة تيريزا ماي آنذاك: “نيابة عن حكومة صاحبة الجلالة، أعتذر منكما بلا تحفظ”، واعترفت بأن أفعالها ساهمت في اعتقالكما وتسليمكما ومعاناتكما.

واستمع البرلمان البريطاني بحضور زوجة بلحاج إلى نص رسالة ماي، فيما تواجد بلحاج في مقر القنصلية البريطانية بمدينة إسطنبول لتسلم خطاب الاعتذار من المسؤولين. وسلم السفير البريطاني في تركيا دومينيك تشيلكوت الاعتذار إلى بلحاج أمام وسائل الإعلام في القنصلية.

واتهم بلحاج الحكومة البريطانية بتزويد الاستخبارات الأمريكية بالمعلومات التي أتاحت توقيفه في تايلاند ثم تسليمه لسلطات طرابلس، حيث تم توقيفه هو وزوجته واحتجزا في بانكوك من عناصر المخابرات الأميركية في 2004، ورحلا لاحقا الزوجان إلى طرابلس حيث ادعى أنه تعرض للتعذيب والسجن لستة أشهر.

من المدهش هنا الإشارة إلى أن مجلس العموم البريطاني صوّت لصالح قرار يقضي برفع اسم الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة من قائمة المنظمات الإرهابية واعتبارها منظمة مارست المعارضة السياسية المسلحة ضد نظام القذافي.

التخلي عن الزي العسكري

بلحاج ارتدى ملابس مدنية بدلا من زيه العسكري المموه الذي اعتاده حين كان يدعي أنه المسؤول عن فتح طرابلس.

وقبل عامين، حذر مركز فرنسي من أنّ حكومة تركيا تعمل على عودة بلحاج إلى طرابلس ليكون قائد تركيا المُستقبلي في ليبيا.

وتورط بلحاج بنقل مُرتزقة سوريين من تركيا إلى ليبيا. كما كان المسؤول الأول في 2012 و2013 عن نقل الإرهابيين وشحنات الأسلحة من داخل ليبيا إلى الأراضي السورية.

واتهمه الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر في عام 2020، بالتورط في نقل أسلحة تركية ومرتزقة سوريين موالين لأنقرة إلى الغرب الليبي عبر شركة الطيران التي يملكها.

وكان بلحاج، وفقا لروايته، قد انضم إلى ما صنفه صفوف المقاتلين العرب في أفغانستان وعمره 22 عاماً. وأسس بلحاج جماعة للمقاتلين الليبيين هناك، ما لبث أن عادت نهاية الحرب إلى ليبيا. ونفذت هذه الجماعة محاولة فاشلة لاغتيال القذافي عام 1994، وفرّ بعدها بلحاج إلى السودان حيث اجتمع مع أسامة بن لادن، وتحالف مع تنظيم القاعدة.

وفي عام 2009، توسط الشيخ يوسف القرضاوي الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والزعيم الروحي لجماعة الإخوان المسلمين وخطيبها في قناة الجزيرة القطرية، للإفراج عنه.

ثروة كبيرة

إبان قصة المراجعات الفكرية للمتطرفين في ليبيا والتي سمحت له بالخروج من السجن، أنكر بلحاج في حضور سيف الإسلام للقذافي الفكر الجهادي وأكد نبذه للعنف بهدف الإفراج عنه. لكنه عاود فور اندلاع انتفاضة عام 2011 حمل السلاح وترأس ما يسمى بـ “لواء شهداء 17 فبراير”، وأعلن نفسه قائداً لمجلس طرابلس العسكري.

لاحقا ظهر اسم بلحاج عام 2012 على قائمة أغنى الليبيين في حقبة ما بعد القذافي. وتُقدّر ثروته بأكثر من 2 مليار دولار جاءت عبر سرقته الأموال العامة من النقد والذهب. وفي عام 2013، أسس بلحاج شركة طيرانه “الأجنحة”، ليحتكر بعدها الرحلات الجوية في العاصمة الليبية.

وبعد تقرير برلماني بريطاني كشف تورطه في تهريب المهاجرين في 2018، أصدر النظام القضائي الليبي مذكرة ضدّه بتهمة “ارتكاب جرائم حرب والهجوم على مُنشآت ليبية”.

وهو في كل الأحوال لا ينكر أهمية وخطورة دور قطر في دعم توجهاته وتحوله من العمل الإرهابي الى السياسي.

وخلافا لحقيقة كونه دخل إلى العاصمة عبر سيارة إسعاف، قدمته قناة الجزيرة القطرية في عام 2011، على أنه من حرر طرابلس بصفته قائد مجلسها العسكري، بعدما تمكن الثوار من الدخول إلى مقر القذافي في باب العزيزية.

قبلها بأشهر، كان بلحاج على شاشات التلفاز للإشادة بالقذافي “قائد الثورة”، كما وصفه، وبنجله سيف الإسلام وقال إن لهما الفضل في خروجه من السجن، وهو أمر كرره كثيرا في عدة مقابلات تلفزيونية أخرى.