وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

بزوغ وأفول نجم نداء تونس

Tunisia- Nidaa Tounes
رئيسة قائمة حزب نداء تونس للإنتخابات البلدية في منطقة طبربة، إيناس بوستة (يمين)، تتحدث مع مواطنات تونسيات أثناء حملتها في طبربة، التي تبعد حوالي 35 كيلومتراً غرب العاصمة تونس، في 20 أبريل 2018. Photo AFP

عمت أجواء السرور تونس في أعقاب الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2014، وهي أول انتخاباتٍ حرة في البلاد بعد سقوط المستبد زين العابدين بن علي في عام 2011. فاز حزب نداء تونس بـ86 مقعداً برلمانياً من أصل 217 مقعداً، كما تم إنتخاب مؤسس وزعيم الحزب، الباجي قائد السبسي للرئاسة. بينما جاء حزب النهضة الإسلامي الديمقراطي، الفائز في انتخابات 2011، في المرتبة الثانية بمجموع 69 مقعداً.

تمّيز السبسي، وهو سياسيٌ مخضرم، بلعب دورٍ رئيسي في أول حكومةٍ انتقالية في البلاد، كما خدم في ظل الحكومات المتعاقبة لكلٍ من الرئيس الحبيب بورقيبة وبن علي. ومن عجيب المفارقات أن رئاسة السبسي لم تكن في مصلحة حزبه ومهدت الطريق لدراما سياسية واقعية من بطولة حافظ، ابن السبسي (الذي تم ترشيحه عام 2013). وبدعمٍ من والده ومحاولة الحفاظ على نفوذ العائلة، وقف وجهاً لوجه أمام لاعبين بارزين آخرين في الحزب، ممن كانوا على نفس القدر من العزم لرفع مكانتهم في الحزب. كان الاقتتال الداخلي المطول السبب الرئيسي في عددٍ من الأزمات الحكومية التي عقدت جهود تونس في إيجاد مخرجٍ من مستنقعها الاقتصادي. ونتيجةً لذلك، منذ انتخابات 2014، خسر نداء تونس معظم مؤسسيه وقيادته الرئيسية وحوالي نصف الكتلة البرلمانية.

يمكن وصف حزب نداء تونس، وهو حزب علماني ووسطي تأسس في منتصف عام 2012، بأنه الحصيلة الناجحة لاستراتيجية “الجميع ضد النهضة،” التي يقودها ممثلو النظام القديم (التجمع الدستوري الديمقراطي)، ورجال الأعمال (الذين تمثلهم منظمة أصحاب العمل، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية)، واتحاد النخبة (ممثلين بـالاتحاد العام التونسي للشغل) وبدعمٍ من مجموعة واسعة من اليساريين والليبراليين.

وفي أعقاب أول انتخاباتٍ برلمانية ديمقراطية في تونس عام 2011، شكلّ ما يسمى بـ “ائتلاف الترويكا،” الذي يضم حزب النهضة (89 مقعداً) وحزبان آخران ديمقراطيان اجتماعيان مستقلان، هما حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (29 مقعداً) وحزب التكتل الديمقراطي (26 مقعداً) – أغلبيةً برلمانية. فقد اجتثت الترويكا توازن القوى التاريخي في البلاد وبالتالي شكلت تهديداً على مراكز القوى القديمة التي اتحدت، خوفاً من تجريدها من امتيازاتها، حول “مشروعٍ ديمقراطي حديث،” الذي تم نسخه حرفياً من الرئيس السابق حبيب بن علي بورقيبة.

وعلى الرغم من انتهاكات حقوق الإنسان الموثقة جيداً واضطهاده لخصومه، أصبح بورقيبة، أول رئيسٍ في تونس بعد الاستقلال ومسوّقاً بارعاً، رمزاً لمفهوم كون تونس”استثناءً ليبرالي في العالم العربي،” لا سيما فيما يتعلق بإصلاحات حقوق المرأة التي اعتبرها شرطاً أساسياً لتحديث تونس ودمج البلاد في حضارةٍ دولية، أي الفرنسية.

فقد أشار السبسي، الذي مشى على خطى قائدٍ سابقٍ صلبٍ وجذاب، إلى أنه، على عكس حزب النهضة المنافس لنداء تونس، أراد مواصلة “مسار التحديث في تونس،” وأن ينقل تونس إلى القرن الواحد والعشرين.

وقبل الانتفاضات التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس بن علي في 2010-2011، حظر كل من بورقيبة وبن علي حركة النهضة، ونجحا في تصويرها بأنها “حركة متعصبة ومتخلفة ستدمر الدولة التقدمية والمؤيدة للغرب التي كانا يبنيانها.” فقد عُززت صورة النهضة هذه، التي لم تقدم سوى الأخبار السيئة عن “القيم الحديثة” للبلاد، جزئياً في عام 2011 بسبب حركة النهضة ذات نفسها، وذلك بعد أن غازلت علانية قوانين الشريعة الإسلامية ودافعت عن إدراجها في الدستور الجديد، وهو موقفٌ أثار جدلاً وطنياً ساخناً وطويل الأمد بشأن هوية البلاد.

يقول خالد شوكت، وهو مؤسس مشارك يساري، عندما طلبنا منه في فَنَك توضيح الأساس المنطقي وراء نداء تونس: “كان علينا مواجهة صعود النهضة وإنقاذ البلاد من الإسلام السياسي.” وأضاف “كانت الأحزاب العلمانية القائمة منقسمة وضعيفة للغاية، لذلك كنا بحاجة إلى جبهةٍ موحدة حول زعيم يتمتع بشخصية جماهيرية،” وذلك لتوضيح الشعور بالإلحاح الذي يشعر به الكثيرون من أجل إنشاء حزبٍ آخر في المشهد السياسي الذي كان منتشراً في ذلك الوقت والذي يضم 80 حزباً سياسياً والمئات من المرشحين المستقلين. فقد أدى سوء الإدارة الداخلية، والتنافس الشخصي وعدم الرضا عن اتخاذ القرار من أعلى الهرم إلى أسفله، إلى تجزؤ الأحزاب العلمانية/ اليسارية وإضعافها مقارنةً بحزب النهضة الشعبي، المعروف بديمقراطيته الداخلية النابضة بالحياة.

Tunisia- Nidaa tounes party
أعضاء من حزب نداء تونس وحزب النهضة الإسلامي يحتفلون بعد اعتماد مشروع قانون المصالحة المتنازع عليه، مما يمنح العفو للموظفين المتهمين بالفساد أثناء حكم النظام السابق، في تونس العاصمة في 13 سبتمبر 2017. Photo AFP

ومن وجهة نظر شوكت، لا ينبغي فهم ثورة 2010-2011 باعتبارها مقدمةً للثورة، وإنما كخطوة نحو نظامٍ سياسي آخر. وعندما سُئل عن التعاون المثير للجدل بين نداء تونس والنظام القديم، وضح أن “المصالحة جزءٌ لا يتجزأ من مشروع نداء تونس، إذ كان تكاملهما أمرٌ لا غنى عنه لتحقيق الاستقرار.”

مستفيداً من سلسلةٍ من الأحداث المزعزعة للاستقرار، بما في ذلك الهجوم على السفارة الأمريكية في تونس عام 2012 واغتيال اثنين من السياسيين البارزين، ظهر نداء تونس، الذي يعتمد على المال والقوة البشرية للنظام القديم، بسرعة في عام 2013 في مركز الطيف السياسي كحركةٍ معارضة لا يمكن تجاهلها. فقد اغتنم السبسي، الذي يعرف أن الحزب يستطيع الإعتماد على دعم ائتلافه الواسع المناهض للإسلاميين، فرصة ضمان ظهوره الإعلامي، إذ دعا إلى استقالة الحكومة واستبدال أول تجمعٍ انتقالي في تونس عبر البرامج التلفزيونية، حيث ألقى باللوم على الترويكا، وخاصة حزب النهضة، على سوء الحكم والتأجيل المتعمد للإصلاحات الضرورية. وعلى الرغم من عدم ثبوت ذلك، إلا أن العديد من العلمانيين واليساريين رأوا في الاغتيالات اللفظية تأكيداً واضحاً لما كانوا يؤمنون به دوماً: أن النهضة كان “ذئباً في ثياب حمل؛” حزبٌ سياسي يدعم الجهادية العنيفة وهو يرتدي قناع “الاعتدال.” وبدافعٍ من دعوات السبسي والنخب السياسية الأخرى، أشعلت هذه الاتهامات، خلال فصل الصيف، موجةً من الاحتجاجات الضخمة والاحتجاجات المضادة التي أضعفت حزب النهضة وشلت حكومة النهضة. تم حل الأزمة في نهاية المطاف من خلال إنشاء “الحوار الوطني لعام 2013” الحائز على جائزة نوبل، وأعقب ذلك تنحي الترويكا.

وفي الإنتخابات التي أعقبت عام 2014، حاصدين ثمار البذور التي زرعوها بعناية، ثبُت أن السجل السياسي للسبسي كان الورقة الرابحة لنداء تونس. فقد مكّن نداء تونس من استغلال التراجع الاقتصادي والعنف المتنامي، في حين أن دوره السابق كوزيرٍ تحت قيادة بورقيبة جعله “بورقيبة الثاني” المناسب، ووعد أنصاره “باستعادة هيبة الدولة وتوحيد تونس.”

ولا يحتاج طاهر ساهر، الذي كان أحد المؤيدين لنداء تونس منذ البداية والذي قرر مغادرة الحزب مؤخراً، إلى العديد من الكلمات للتعبير لنا في فَنَك عن ما يؤمن أن المستقبل يحمله في طياته: “لا شيء سوى الصراعات الشخصية والتسويات الداخلية.”

بيد أن الأمر بالنسبة لشوكت أكثر تعقيداً، إذ قال: “تعكس قضايا نداء تونس العقبات التي تعترض طريق الديمقراطية في تونس.” وأضاف ملخصاً الوضع الحالي، “قدم نداء تونس إسهاماتٍ غاية في الأهمية للدستور الديمقراطي التونسي. أكبر التحديات الداخلية التي تواجه الحزب هي استيعاب الخلافات، وكذلك تنظيم خلافة السبسي، ولكن يمكن حل هذه المشاكل.”

وعلى الرغم من استراتيجيته للمفهوم الذكي، إلا أن قرار السبسي المثير للجدل في عام 2013 لترشيح ابنه حافظ قائد السبسي كمديرٍ تنفيذي للحزب، والذي نظرت إليه مجموعة من مسؤولي الحزب على أنه تذكرةٌ بمحاباة الأقارب للنظام القديم، يمكن أن يتسم بسهولة، عند التفكير به ملياً، باعتباره خطأ أساسي. بالإضافة إلى ذلك، ظهر عاملان آخران للخلاف الداخلي مغيران لقواعد اللعبة في عام 2014.

فقد ترك صعود السبسي إلى الرئاسة فرغاً في السلطة داخل نداء تونس، ليجد الحزب نفسه في خضم حالةٍ من الفوضى، إذ كان هناك بالفعل انقساماتٌ عميقة تزداد سوءاً بسبب خطوة تشكيل ائتلاف مع حزب النهضة. فقد كان الحزب منقسماً بين أولئك الذين أولوا إهتماماً للإدماج والإجماع الوطني و”المتشددين” الذين شعروا بأن التعاون نوعٌ من الإستسلام.

فبعد الأزمة الحكومية الأولى في عام 2015، غادر الأمين العام للحزب آنذاك محسن مرزوق الحزب، مع مجموعةٍ من الأعضاء والنواب، لإنشاء حزب مشروع تونس. وفي نهاية المطاف، وصلت الاستقالات إلى الحد الذي انخفضت فيه كتلة نداء تونس النيابية من المركز الأول إلى المركز الثالث (58 مقعداً، في حين احتفظ النهضة بـ69 مقعداً).

ذروةٌ أخرى أسفرت عن نتائج لثلاث سنواتٍ قادمة ولمع بعدها نجم يوسف الشاهد، وهو فتى جديد يُضرب به المثل في التكتل عندما عينه السبسي كاتب دولة للصيد البحري في عام 2015. كان مسار الشاهد نحو رئاسة الوزراء في عام 2016 صاروخياً، في محاولةٍ لاستبدال رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد. فقد حافظ على نمط إلتزام الصمت خلال الأشهر الأولى للصيد كرئيسٍ للوزراء، ولكن في السنة الثانية، سرعان ما سرت شائعاتٌ حول الخلافات مع الرئيس في وسائل الإعلام. تم تداول العديد من الروايات حول القصة نفسها لتفسير الحبكة الرئيسية، إلا أن هناك العديد من المؤشرات على أن الاستياء السياسي من السبسي الأصغر ما دفع رئيس الوزراء إلى الإبتعاد عن نداء تونس.

في الواقع، بدأ الشاهد بالتصرف وكأنه رئيس الوزراء الفعلي، ليحوّل الصراع إلى صراعٍ بين الأفرع التنفيذية، أي الرئيس والحكومة، بينما تجاهل، بصبر، دعوات عشيرة السبسي بالإنسحاب، مما حفز انقساماً آخر في الحزب، وأسفر عن هجرةٍ جماعية لممثلي نداء تونس من مخيم السبسي إلى مخيم الشاهد وبالعكس. دفع هذا الرئيس إلى إعلان نهاية حكومة التوافق الإئتلافية مع حزب النهضة، الذي وقف إلى جانب يوسف الشاهد.

تطورت القصة أكثر فأكثر عندما أصبح سليم الرياحي، مؤسس وزعيم الحزب الليبرالي- الاتحاد الوطني الحر، زعيم الحزب بعد اندماج حزبه مع نداء تونس. الريحاني الذي اشتهر أيضاً بـ”مشاريعه التجارية الفاسدة،” شرع منذ دخوله بإجراءاتٍ قانونية ضد رئيس الوزراء ومسؤولين آخرين، متهماً رئيس الوزراء ومسؤولين آخرين بمحاولة الانقلاب ضد الرئيس.

جاءت هذه الخطوة رداً على التعديل الوزاري الجزئي الذي أجراه يوسف الشاهد، دون الحصول على موافقة السبسي أو نداء تونس.

وعليه، دعا الحزب الحاكم أعضاءه في البرلمان إلى مقاطعة التغييرات الوزارية. وبدلاً من ذلك استقال عددٌ منهم من الحزب وصوتوا لصالح التعديل. ومع مقاطعة كتلة نداء تونس النيابية التصويت على الثقة لحكومة الشاهد الجديدة، انتقلت، من الناحية العملية، إلى المعارضة.

واليوم، يبدو أن الناخبين قد ضاقوا ذرعاً. فقد يكون انخفاض نسبة المشاركة في أول انتخاباتٍ محلية في تونس، والتي عقدت في مايو 2018، والتي انخفضت من أكثر من 90% في عام 2011 إلى 66% في عام 2014 إلى 33,7% فقط من الناخبين المسجلين، نذير شؤم. ينبغي أن يكون هذا مصدر قلقٍ أكبر لمستقبل نداء تونس. فهل تتجه تونس إلى ديمقراطيةٍ خالية من الناخبين؟