وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

نجوم الدراما السورية: مواقف لم تتبدّل

نجوم الدراما السورية
الفنان عباس النوري أثناء حضوره لجنازة المخرجي السوري بسّام الملا في العاصمة السورية دمشق يوم ٢٤ يناير ٢٠٢٢. المصدر: LOUAI BESHARA / AFP.

نبيل محمد

خلال أكثر من ثلاث سنوات، تتالت تصريحات مجموعة من الممثلين السوريين المقيمين داخل سوريا، معبّرةً عن استيائهم نتيجة الأوضاع المعيشية التي يعانيها سكان البلاد التي ترزح تحت أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها؛ أزمة جعلت أكثر من 90% من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر وفق تقارير دورية تصدر عن وكالات الأمم المتحدة المختصة. أولئك الفنانون الذين يسخّرون صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن مواقفهم، معروفون بمواقف سياسية مؤيدة للسلطات هناك، وفق تصريحاتهم خلال السنوات التالية لبدء الاحتجاجات الشعبية 2011.

قبل أسابيع، تصدّر الممثل عبّاس النوري، وهو أحد نجوم الصفّ الأول على الشاشات السورية والعربية، مواقع الأخبار الفنية وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي، بعد لقاء أجري معه عبر إذاعة المدينة FM المحلية. التصريحات التي وصفت بـ”الجريئة”، وفيها قال إن الحكم العسكري هو الذي سلب سوريا حياتها الديمقراطية، وأن دول الخليج ديمقراطية أكثر من سوريا.

النوري جاء أيضاً في المقابلة على ذكر حواجز المخابرات التي تخيف المواطنين. وبعد ساعات من نشر المقابلة، قامت الإذاعة بحذفها كاملةً عن موقعها ومعرّفاتها عبر الشبكة ككل. جاء ذلك بالتزامن مع شن حملة ضد الممثل من قبل مؤثرين سوريين داعمين للنظام السوري عبر مواقع التواصل، ومن قبل وسائل إعلام محليّة، ليظهر النوري بعد أيام قليلة على الإذاعة نفسها معتذراً عن تصريحاته، ومقراً بفضل الجيش السوري في نشر الأمان في البلاد.

ممثلون سوريّون يصنّفون من قبل الجمهور كداعمين للنظام السوري أمثال الفنان أيمن زيدان والفنان فراس ابراهيم والفنانة شكران مرتجى، دافعوا عن النوري في حرية التعبير والتصريح. وكان هؤلاء الفنانون قد عبّروا قبل وقت قصير عن الاستياء من الأوضاع الداخلية، موجهين الاتهامات للحكومة في دمشق، وللمسؤولين الفاسدين، الذين عادة ما يتم الهجوم عليهم واتهامهم بأنهم مسؤولون عن تردي الأوضاع المعيشية في البلاد. كل ذلك جاء دون المساس برأس السلطة أو بالجيش كونهما خطّين أحمرين عادة ما لا يتم المساس بهما وفق ما هو متعارف عليه في البلاد، حيث عادة ما يتعرَّض من يمسّ بهما للملاحقة الأمنية، والاعتقال وحتى الموت تحت التعذيب، وهو ما حدث مع آلاف من النشطاء والذين كان بينهم أحياناً عاملون في الشأن الفني ممن عبّروا عن وقوفهم ضد النظام السوري خلال الأشهر الأولى بعد حراك مارس 2011.

نجوم الدراما والسلطة قبل 2011

كانت الدراما السورية المنتج الفني السوري الأوفر إنتاجاً وحضوراً في حياة السوريين، خاصة خلال العقود الثلاثة الماضية. وتفوق هذا القطاع على السينما التي كانت محصورة بإنتاج القطاع العام منذ ستينيات القرن الماضي، وكذا على المسرح وبقية أنواع الفنون التي كانت تنتج بإشراف مباشر أو غير مباشر من السلطة الرسمية.

إلا أن الأبواب فتحت أكثر للدراما، التي بثتها عبر سنين طويلة مختلف الشاشات العربية. وكان للسلطات السورية رقابة واضحة وصارمة عليها في كثير من الأماكن، بل واستخدمتها أيضاً في عدة مواقع كأداة مؤثرة في بث رسالتها ومواقفها. ولعلَّ أبرز مثال عن استخدام الدراما في السياسية هو المسلسلات التاريخية السوريّة، التي قدّمت في كثير من الأماكن رواية مطابقة لرواية الدولة للتاريخ. فصورة المحتل التركي وكذا الفرنسي كانت تتوضح في فترات العداء مع الدولتين أكثر من حضورها خارج تلك الأوقات، وكذا دور حزب البعث في الحياة السياسية كانت تقدّمه الدراما بصورة مطابقة لصورته في كتب “القومية” التي كانت مرافقة لمختلف المناهج التربوي في المدارس السورية.

وكان للسلطة السوريّة دورٌ هام في فلترة الأعمال الدرامية قبل وصولها إلى شاشات المشاهدة، من خلال الرقابات المتعددة التي تمارسها على الأعمال الدرامية. وفي التاريخ أعمال كثيرة منعت من العرض، أو تم حذف مقاطع منها، أو تم طلب تعديلها، إيماناً من السلطة بالأثر العميق التي يمكن أن تتركه تلك الأعمال لدى المشاهدين، وقدرتها على صياغة الرأي العام. ومن الأمثلة مسلسل “أيام الولدنة” الذي منع من العرض في سورية لسنوات طويلة بسبب المحتوى السياسي الذي تتضمنه حلقات كثيرة من المسلسل، والسخرية من المخابرات السورية التي تضمنتها تلك الحلقات. وتشمل القائمة مسلسل “الحصرم الشامي” إنتاج 2007، كان ممنوعاً من العرض في سورية لأسباب مجهولة نسبياً، إلا أنه يتضمن محتوى تاريخياً عن دمشق يختلف عمّا هو شائع في مسلسلات البيئة الشامية المعروفة بانتشارها في سورية في تلك الفترة.

الشعبية التي حازتها الدراما السورية في شوارع البلاد لفتت بلا شك أنظار الدولة إلى دور الفنانين في التأثير، بناء على شعبية بعضهم في الشوارع السوريّة. لكن حضور أولئك الفنانين على الشاشات لنقاش قضايا سياسية كان نادراً، ومقتصراً على مراحل معيّنة تتضمن أحداثاً ذات تأثير سياسي على سورية، كمرحلة اغتيال رفيق الحريري 2005 مثلاً، ومرحلة القصف الإسرائيلي الذي استهدف غزة مرات عديدة. حينذاك، لعب عدة فنانين أدواراً واضحة في تسويق الرؤية السياسية للنظام في مختلف الأحداث. وأكد هؤلاء في كل ظهور الهوية السياسية للبلاد التي يسوّقها النظام السوري منذ سبعينات القرن الماضي وهي أن سوريا “دولة مواجهة ومقاومة، تدفع ضريبة مواقفها من إسرائيل”. كانت تلك المعاني تتكرر عشرات المرات على ألسنة فنانين سوريين يظهرون على الفضائيات التابعة للدولة، أو تلك الخاصة التي لا تختلف بخطابها عن خطاب الإعلام الرسمي، دون أن يكون هناك أي موقف لفنان يمكن أن يقال بأنه مخالف لما هو سائد. وكان الذين يحملون مواقف مختلفة يكتفون بالصمت، لأن ضريبة الكلام كبيرة، وهو ما ظهر جلياً بعد 2011.

2011: النجوم كطرف في المعادلة الجديدة

نجوم الدراما السورية
الفنان السوري أيمن زيدان أثناء وصوله مع كادر الفيلم السوري “مهاجرو الحرب” يوم ٣ نوفمبر ٢٠١٨ لافتتاح النسخة التاسعة والعشرين من مهرجان قرطاج السينمائي الدولي في تونس. المصدر: FETHI BELAID / AFP.

دور الفنانين السوريين ظهر بقوّة بعد 2011 حين تصدّرت مجموعة من نجوم الصف الأول في الدراما السورية شاشات التلفزة المحلية للدفاع عن السلطة ودعم روايتها في الأحداث السوريّة. ولم يكد يخلو يوم من لقاء يحضر فيه فنان سوري، يدافع بكل ما أوتي من لغة عن الرئيس بشار الأسد وعن الجيش السوري، ويصف الحراك ضد النظام بصفات كانت الدولة السورية أول من أطلقها. هذه الصفات تتضمن مصطلحات الأسد نفسها في وصف المتظاهرين ضده من “المندسين” إلى “الإرهابيين” و “المتآمرين” وغير ذلك.

دريد لحام وهو واحد من أقدم وأشهر الفنانين السوريين، الذي دعوا لمحاربة التسلط في أعمال مسرحية خلال سبعينات القرن الماضي، تحرّك في تلك الفترة بين شاشة وأخرى ليقول بأن حبّه للرئيس السوري انقلب إلى “عشق”، مسمياً المتظاهرين ضد النظام السوري بـ “المغرَّر بهم”. وحذا حذوه نجوم مشاهير على شاكلة أيمن زيدان وغسان مسعود وعباس النوري وسلاف فواخرجي وباسم ياخور وسيف الدين سبيعي، والعشرات غيرهم. والتزم هؤلاء خطاباً مشابهاً، يتضمن وقوفهم في صف النظام، وضد الفساد، حيث كان متاحاً بشكل واضح الهجوم على الفساد الإداري في البلاد، واعتبار هذا الفساد مسؤولاً عن جزء من مجريات الأحداث.

لقاءات الفنانين السوريين على الفضائيات المحلية، وحديثهم عن الحرب على بلادهم، وعن دور الجيش السوري في حمايتهم وحماية سكان البلاد، وعمّا سمي “الحرب الكونية ضد سورية”، انتشرت بكثافة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا بد أنها تحقق أثراً كبيراً، وهو تماماً ما ينبّه إلى الدور الذي لعبته هذه الطبقة في التأثير، وإلى اهتمام النظام بظهور أولئك الفنانين على الشاشات بطريقة تبدو أحياناً مبالغا بها. بل وسادت في فترة من الفترات تلك المقاطع الرومانسية التي يظهر فيها فنان سوري يبكي على بلاده عبر الشاشة، حين يجد كل العالم يشن حرباً ضدها، أو عندما يتحدث عن جنود الجيش السوري الذين يقاسون البرد والجوع، لكنهم لا يتوانون عن حماية البلاد. تلك المقاطع كانت تحقق ملايين المشاهدات، ولا يمكن رؤيتها إلا ضمن حملة داعمة للنظام السوري في معركته.

من جانب آخر، صُنّف الممثلون الذين عارضوا ممارسات السلطة – هم أقلية مقارنة بأعداد مؤيدي النظام من الفنانين – بأنهم “متآمرون”، وأن دولاً خارجية تشتري مواقفهم وتدعمهم. ومن هؤلاء الراحلان خالد تاجا ومي سكاف، إضافة إلى جمال سليمان ومكسيم خليل وفارس الحلو ونوار بلبل وغيرهم.

ساد خطاب عدائي واضح ضد الفنانين السوريين الذين غادروا سوريا، وهاجموا نظامها عبر الفضائيات وعبر السوشيال ميديا. وكان أول من رد عليهم واتهمهم بالخيانة هم زملاء الماضي، من أولئك الفنانين الذين اعتادوا الظهور على الشاشات في البرامج الثقافية والسياسية. وساهمت بقوّة في ذلك نقابة الفنانين السوريين التي قامت بطرد الفنانين المعارضين من عضويتها، وهاجمتهم بين وقت وآخر، خاصة على لسان زهير رمضان، نقيب الفنانين الذي غيبه الموت مؤخراً، وكان قد عرف بمواقف عدائية واضحة ضد زملائه في الخارج.

ما الذي اختلف اليوم؟

تصف بعض القنوات الإعلامية التصريحات التي تخرج عن بعض نجوم الدراما السورية المقيمين داخل البلاد اليوم، بأنها انقلاب في مواقفهم السابقة. بيد أن الواقع لا يشير إلى ذلك، فتصاعد الخطاب المضاد للفساد، والتململ من الظروف المعيشية، لم يغيّب أبداً موقفهم السياسي الأساسي الداعم للجيش السوري. ولعلّ ما حدث مؤخراً مع عباس النوري بأن خرج على الملأ واعتذر عما قال، ما هو إلا دليل على عدم إمكانية التراجع عن المواقف السابقة، وأن النقد الذي يحق للفنان توجيهه للسلطات في بلاده، يقف عند خط أحمر عريض عنوانه الجيش وشخص الرئيس.

ولم تسجّل السنوات السابقة حتى اليوم أي تبدّل جذري في موقف أي فنان سوري، حيث بقي الفنانون المؤيدون للنظام السوري في 2011 مؤيدين له في 2022، يعيشون في سوريا أو في دول الجوار، ويقدرون على زيارة بلادهم متى شاؤوا. وبصورةٍ مماثلة، بقي المعارضون على مواقفهم، دون أن يكون بمقدورهم زيارة البلاد بلا شك، لأن كلاً منهم يعرف أن مصيره قد لا يكون أفضل من مصير الفنان زكي كورديلو المعتقل منذ 2012 ومجهول المصير اليوم، وغيره الآلاف من أولئك الذين دفعوا ثمن مواقفهم السياسية غالياً.