وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تحديات ومواجهة في السودان

تحديات ومواجهة في السودان
متظاهرون سودانيون مناهضون للانقلاب يفرون من الغاز المسيل للدموع الذي أطلقته قوات الأمن أثناء احتجاجهم في شوارع العاصمة الخرطوم ، في 5 يناير / كانون الثاني 2023. ابراهيم حامد / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

تحديات تواجه الاتفاق الإطاري في السودان

في الخامس من كانون الأوّل/ديسمبر 2022، وقّعت قوى تحالف “الحريّة والتغيير – المجلس المركزي”، مع مجموعة من القوى السياسيّة والمدنيّة الأخرى، اتفاقًا مع المكوّن العسكري في السودان، عُرف بإسم “الاتفاق الإطاري”. ومن المفترض بحسب هذا الاتفاق أن تنتقل السودان إلى الحكم الديمقراطي وتداول السلطة عبر الانتخابات، بعد المرور بمرحلة انتقاليّة مدتها 24 شهرًا، تبدأ بتعيين رئيس لمجلس الوزراء.

يراهن العديد من القوى السياسيّة السودانيّة اليوم على هذا الاتفاق، من أجل إنهاء مرحلة الحكم العسكري في البلاد، والّتي كانت قد بدأت في 25 تشرين الأوّل/أكتوبر 2021، حين نفّذ الجيش انقلابًا ضد السلطة المدنيّة واعتقل كبار القياديّين السّياسيّين في البلاد.

ومنذ ذلك الوقت، تفاقمت أزمات البلد الاقتصاديّة والسياسيّة، وسط عزلة دوليّة عانت منها سلطات الانقلاب. مع الإشارة إلى أنّ الدول الغربيّة والمؤسسات الدوليّة جمّدت الغالبيّة الساحقة من المساعدات والقروض الممنوحة للسودان، جرّاء حصول الانقلاب العسكري فيها.

رغم التفاؤل الذي أحاط بتوقيع “الاتفاق الإطاري” في البداية، بدأت تظهر مؤخّرًا جملة من التحديات التي تطرح تساؤلات عن إمكانيّة تنفيذه. وهذه التحديات تتنوّع ما بين العوامل المتصلة بالتوازنات العسكريّة والسياسيّة داخل السودان نفسه، وتلك المتصلة بالتدخلات الإقليميّة والدوليّة، وتأثيرها على العمليّة السياسيّة التي ينص عليها الاتفاق.

لهذه الأسباب، وبعد أسابيع من توقيع هذا الاتفاق، يشكك كثيرون اليوم في واقعيّة بنوده وخارطة الطريق التي ينص عليها.

ضغوط دوليّة لتوقيع الاتفاق: سياسة العصا والجزرة

قبل شرح بنود الاتفاق، والتحديات الّتي تحيط به، من المهم أوّلًا شرح المسار الذي فرض توقيعه، وخصوصًا على مستوى الضغوط الدوليّة والتوازنات الإقليميّة. فبعد أن نفّذ قائد الجيش عبد الفتاح البرهان انقلابه في 25 تشرين الأوّل/أكتوبر 2021، حددت قوى تحالف الحريّة والتغيير ثلاثة مسارات متلازمة لمواجهة هذا الانقلاب، وهي الثورة الجماهيريّة الشعبيّة والاحتجاجات في الشارع، ومحاولة استقطاب الدعم الدولي والتضامن الإقليمي، وتسليم المدنيّين السلطة من خلال مسار ديمقراطي جديد.

على المستوى الدولي، تشكّلت سريعًا مجموعة “الرباعيّة الدوليّة من أجل السودان”، من قبل الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة.

ومنذ البداية، استهدفت هذه المجموعة تنسيق الضغط باتجاه إعادة السلطة للمدنيين وإنهاء حالة الطوارئ، والتفاوض مع الجيش للتراجع عن الإجراءات الاستثنائيّة التي فرضها بعد الإنقلاب. وللضغط على سلطات الانقلاب، قادت الولايات المتحدة بالتحديد حملة دوليّة لعزل الإنقلابيين والحؤول دون الاعتراف بتوليهم قيادة البلاد، بما شمل تجميد جميع المساعدات والقروض التي كانت تستفيد منها السودان في السابق.

سرعان ما بدأت السلطات الانقلابيّة تستشعر آثار الضغط الدولي، الذي فاقم من وطأته الوضع الاقتصادي الحرج الذي عانت منه البلاد بعد الإنقلاب، وتصاعد الرفض الشّعبي في وجه الانقلابيين في الشارع. ولهذا السبب، اضطرّت السلطات الانقلابيّة إلى التجاوب مع مبادرة قادها فريق وساطة، تشكّل من رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان فولكر بيرتس، ومبعوث الاتحاد الأفريقي محمد بلعيش، ورئيس بعثة الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد” في السودان إسماعيل وايس.

تدريجيًّا، مع تقدّم المفاوضات، بدأت السلطات الإنقلابيّة بخفض سقف مطالبها، وصولًا إلى التسليم بانسحابها من المشهد السياسي بشكل تام خلال المرحلة الانتقاليّة، ووضع جميع الصلاحيّات بيد سلطات مدنيّة خلال هذه الفترة. وهذا التراجع التدريجي، يربطه كثيرون بفشل سلطات الانقلاب في إدارة شؤون الدولة التنفيذيّة لافتقارها للخبرة السياسيّة، وعدم امتلاكها دعمًا سياسيًا يعاونها في إدارة الشأن العام.

وفي النتيجة، اكتشف الإنقلابيون أن استمرارهم في الحكم بات يحمل كلفة واسعة على المستوى المعيشي والاجتماعي، نتيجة تدهور أداء الإدارات العامّة وعدم قدرتهم على إدارة الوضع المالي، ما قد يطيح بهم في الشارع لاحقًا. وهذا تحديدًا ما يفسّر تقديمهم كل هذه التنازلات خلال المفاوضات.

وخلال هذا المسار، استخدمت مجموعة “الرباعيّة الدوليّة للسودان” سياسة العصا والجزرة مع سلطات الانقلاب، بعد تشديد إجراءات العزل الدولي، عبر تقديم وعود باستئناف المساعدات والقروض والاستثمارات الأجنبيّة بمجرّد توقيع اتفاق يقضي بإعادة السلطة لحكومة مدنيّة. مع الإشارة إلى أنّ المجموعة أصدرت بيانًا مشتركًا بمجرّد توقيع “الإتفاق الإطاري”، وعد بتنسيق “دعم اقتصادي كبير” من قبل الدول الأربع، للحكومة الانتقاليّة التي ستنبثق عن المسار الذي ينص عليه الاتفاق.

تفاصيل الاتفاق الإطاري

وافق الإنقلابيون أخيرًا على “الاتفاق الإطاري”، الذي نتج عن الوساطة الدوليّة بين أطراف النزاع. وهذا الاتفاق، ينصّ على انسحاب القوى المسلّحة فورًا من السياسة وجميع الأنشطة التجاريّة والاستثماريّة والاقتصاديّة، ودمج قوّات التدخّل السريع والحركات المسلّحة الأخرى في أجهزة الجيش النظاميّة. كما ينص الاتفاق على مجموعة من الإصلاحات التي تسهم في إصلاح المؤسسة العسكريّة، بما يحوّلها إلى جيش مهني وقومي واحد، يعمل تحت سلطة المؤسسات الدستوريّة المدنيّة، لإنهاء حالة الفوضى العسكريّة القائمة حاليًّا.

أمّا أجهزة الشرطة والمخابرات، فسيتم إصلاحهما ووضعهما تحت سلطة رئيس مجلس الوزراء، على أن يتم حصر عمل المخابرات في جمع المعلومات وتحليلها، ما يجرّده من صلاحيّات الاحتجاز والإعتقال كما هو الحال الآن. وبهذا الشكل، ستكون القوّات المسلّحة قد خسرت القدرة على تقييد الحريّات العامّة والتدخّل في الأنشطة السياسيّة، باستخدام جهازي الشرطة والمخابرات.

في المقابل، ستستلم السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة خلال المرحلة الانتقاليّة، التي تمتد لنحو سنتين، شخصيّات مدنيّة دون أي تدخّل أو مشاركة من قبل القوى المسلّحة التي قامت بانقلاب 25 تشرين الأوّل/أكتوبر 2021. وستتكوّن المؤسسات الدستوريّة خلال هذه الفترة من رئيس لمجلس الوزراء، تختاره القوى المدنيّة الموقّعة على الاتفاق، بالإضافة إلى حكومة ومجلس تشريعي، ومجلس للأمن والدفاع يرأسه رئيس مجلس الوزراء. وفي نهاية المرحلة الانتقاليّة، سيتم تنظيم إنتخابات جديدة ينتج عنها سلطات جديدة تشريعيّة وتنفيذيّة، وفق دستور جديد ستتم صياغته حتّى ذلك الوقت.

بالإضافة إلى ذلك، نص الاتفاق على مجموعة من الإصلاحات المرتبطة بعمل السلطات القضائيّة، لضمان استقلاليّتها وفعاليّتها خلال المرحلة الانتقاليّة. كما نصّ على استكمال محادثات السلام مع القوى المسلّحة غير الموقّعة على الاتفاق، وتنفيذ اتفاق سلام جويّ مع تقييمه وتقويمه، ووضع الترتيبات المناسبة لضمان استقرار شرق السودان وإنهاء حالة التوتّر العسكري هناك.

تحديّات قد تعيق تنفيذ الاتفاق

اليوم، وبعد مرور أسابيع على توقيع الاتفاق، تتسارع التطوّرات التي تشير إلى عقبات كبيرة قد تحول دون تطبيق الاتفاق بسلاسة كما كان متوقّعًا عند التوقيع. فبحسب عمليات تنسيق لجان المقاومة، أكبر التجمّعات الشعبيّة المناوئة لحكم العسكر والإنقلاب، مازالت حتّى اللّحظة ترفض “الإتفاق الإطاري” بشكلٍ حاسمٍ، انطلاقًا من تحفّظها على أيّ تفاوض مع السلطات الانقلابيّة.

وتطالب لجان المقاومة في الوقت الراهن بخطوات أكثر صرامة ضد السلطة الإنقلابيّة، من قبيل إلغاء منصب القائد العام للقوّات المسلّحة، وإسناد هذه الوظيفة لرئيس الوزراء المدني، لتفادي طموحات العسكريين الانقلابيّة في المستقبل. كما تطالب لجان المقاومة بسن قانون يقضي بعزل حزب المؤتمر الوطني، الذي حكم البلاد في زمن الرئيس السابق عمر البشير، على أن ينص القانون على منع قادته المعيّنين في مناصب دستوريّة من أيّ نشاط سياسي.

ومن المتوقّع أن تعيق مطالب لجان المقاومة، ورفضها هذا الاتفاق، القبول الشّعبي للمسار الديمقراطي المتفق عليه بين العسكر وتحالف الحريّة والتغيير. وبما أنّ لجان المقاومة قادت طوال الفترة الماضية الحراك الاحتجاجي في الشارع، فقد يفضي اعتراضها الراهن إلى توتّرات شعبيّة كبيرة يمكن أن تطيح بالاتفاق في المستقبل.

كما برزت اعتراضات على هذا الاتفاق من جانب الكتلة الديمقراطيّة، التي تضم حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان، والتي تملك شعبيّة واسعة في أوساط مناطق وعشائر شرق السودان. كما تقاطعت هذه المواقف مع اعتراضات أطراف أخرى على الاتفاق، كالحزب الشيوعي السوداني وبعض أطراف تجمع المهنيين السودانيين وحزب البعث السوداني.

جميع هذه القوى مجتمعة، تمتلك القدرة على عرقلة تنفيذ “الاتفاق الإطاري”، خصوصًا أن مواقفها تتقاطع مع مواقف قوى إقليميّة لا تملك المصلحة في تطبيق هذا الاتفاق، كمصر التي تمتلك تأثيرًا وازنًا على التوازنات السياسيّة في السودان.

مع الإشارة إلى أنّ مصر غابت عن مراسم تطبيق الاتفاق، في إشارة ضمنيّة إلى تحفّظها على هذا التطوّر. كما عملت مصر طوال المرحلة السابقة على دعم نشاط الكتلة الديمقراطيّة، التي تحفّظت على الاتفاق الراهن، والتي أيّدت الانقلاب العسكري منذ حصوله.

ومن المعلوم أن الجيش المصري يملك علاقات وثيقة مع جنرالات القوى المسلّحة السودانيّة، التي تنظر إلى تجربة إنقلاب السيسي كمثال يُحتذى في الاستحواذ على السلطة. ولهذا السبب، يذهب الكثير من التحليلات إلى اتهام القاهرة بلعب دور في تشجيع انقلاب 25 تشرين الأوّل/أكتوبر 2021 في السودان ودعم جنرالاته، وإلى دفع الكتلة الديمقراطيّة إلى تأييد هذا الانقلاب. ولهذا السبب، لا يبدو أن النظام المصري يملك الكثير من الحماسة للمسار الديمقراطي الجديد، الذي سيبعد حلفاءه في السودان عن الحكم.

بالنتيجة، من المفترض أن تُظهر الأسابيع المقبلة مدى استعداد الجيش السوداني للابتعاد عن السلطة كما وعد في “الاتفاق الإطاري”، ومدى قدرة القوى الإقليميّة والدوليّة التي ترعى الاتفاق على الضغط باتجاه تنفيذ مندرجاته.

أمّا التحدّي الأهم، فهو تحفّظ شرائح سياسيّة ذات تمثيل شعبي واسع على الاتفاق الراهن، وهو ما يفترض أن يسعى تحالف الحريّة والتغيير إلى معالجته، عبر فتح حوار سياسي يذلّل تحفظات القوى المعترضة.