وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الأزمة السودانية: مصالح وأجندات أجنبية

الأزمة السودانية
صورة تم التقاطها يوم ٦ ديسمبر ٢٠٢١ لطفل سوداني أثناء جلوسه ليتم الرسم على وجهه في أحد التظاهرات التي شهدتها منطقة الخرطوم بحري احتجاجاً على صفقة شهدت حينها عودة رئيس الوزراء المستقيل إلى منصبة بعد انقلابٍ عسكري شهدته البلاد في أكتوبر من العام نفسه. المصدر: AFP.

أكد الأعضاء الخمسة عشر في مجلس الأمن الدولي، خلال اجتماع تشاوري مغلق حول الأوضاع في السودان الأسبوع الماضي، عن دعمهم للجهود التي تبذلها بعثة الأمم المتّحدة في السودان لإجراء مفاوضات غير مباشرة بين المكوّنين المدني والعسكري في البلد الغارق في أزمة سياسية حادّة منذ الانقلاب العسكري الذي نفذه الفريق عبد الفتاح البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي.

مبادرة بيرتس

وكان الألماني فولكر بيرتس Volker Perthes المثل الخاص للأمين العام ورئيس بعثة الأمم المتّحدة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان (UNITAMS) قد أعلن عن مبادرة تهدف إلى بدء مشاورات بشأن الانتقال السياسي في السودان، للخروج من الأزمة السياسية الحالية والتوصل لاتفاق على مسار مستدام للتقدم نحو الديمقراطية والسلام. وقال بيرتس في مؤتمر صحفي بمقر بعثة يونيتامس بالخرطوم الأسبوع الماضي إن الأمم المتحدة تطرح عملية (Process) وليس مسودة أو مشروعا للحل في السودان وأن دور البعثة الأممية يقتصر فقط على تسهيل عملية الحوار ومرافقة الشعب السوداني بمختلف مكوناته للخروج من هذه الأزمة. وقال إنه سيستمع بداية لكل طرف “اصحاب المصلحة” على حده وتوقع بيرتس أن تقود المبادرة إلى بناء الثقة بين الأطراف السودانية والحد من أعمال العنف.

تراوحت ردود الفعل على المبادرة الأممية في الخرطوم بين القبول الصريح والترحاب مثلما فعل المجلس السيادي الحاكم برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان وبعض الأحزاب مثل حزب الأمة، فيما فيما أبدت قوى سياسية أخرى فتوراً، وحالة من التحفظ إزاء الدعوة، إذ قال جعفر حسن المتحدث باسم الفصيل الرئيسي في “قوى الحرية والتغيير في تصريحات نقلتها وكالة “فرانس برس”: “نحن على استعداد للمشاركة في المحادثات بشرط أن يكون الهدف منها استئناف التحول الديمقراطي، وتصفية نظام الانقلاب، ولكننا ضد هذه المبادرة إذا كانت تستهدف إضفاء الشرعية على نظام الانقلاب”. وأعلن الحزب الشيوعي والحركة الإسلامية (الإخوان المسلمون) المستبعدة من المشاركة السياسية، عن رفضهما الصريح لمبادرة بيرتس واتخذت لجان المقاومة التي تقود المظاهرات في الشارع موقفا يتسم بالغموض.

ويستعيد بعض السودانيين بقلق الدور الذي لعبه بيرتس في سوريا عندما كان مساعدا للمبعوث الدولي إليها دي ميستورا ومبادرة الوفاق التي انتهت لاتفاق جنيف في 2012 والتي أدت لبقاء بشار الأسد في السلطة حتى اليوم.

مقابل هذه المواقف السودانية المتفاوتة، اتسمت غالبية ردود الأفعال الإقليمية والدولية بمساندة قوية للمبادرة الأممية في السودان، تكمن خلفها مصالح ومخاوف وأجندات متباينة بل ومتناقضة في الكثير من تجلياتها في مآلات الصراع المحتدم بين المدنيين المتطلعين لتحول ديموقراطي مدني والعسكريين المتشبثين بالسلطة في الخرطوم.

السعودية والإمارات .. الأيادي الطويلة

الأزمة السودانية
صورة تم التقاطها في جولة نظمها القوات اليمنية الموالية والمدعومة من قبل السعودية والإمارات يوم ٢ يونيو ٢٠١٨. ويظهر في الصورة مقاتلون سودانيون يقاتلون إلى جانب القوات الموالية للحكومة اليمنية والمدعومة من قبل السعودية في مواجهة المتمردين الحوثيين بمحافظة الحديدة، وذلك على بعد ٦٠ كيلومتراً عن خطوط القتال بالقرب من مدينة الحديدة التي سيطر عليها الحوثيون المدعومون من قبل إيران في عام ٢٠١٤. المصدر: Saleh Al-OBEIDI / AFP.

أهم هذه القوى الإقليمية تأثيرا على السودان في الظرف الراهن هو الحلف السعودي الإماراتي الذي يميل لترجيح كفة العسكريين والحفاظ على تأثيرهم ونفوذهم في السودان. السبب البادي للعيان هو حرص البلدان النفطيان الغنيان على استمرار مشاركة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التابعة لنائب رئيس مجلس السيادة في السودان محمد حمدان دقلو في حرب “عاصفة الحزم” ضد الحوثيين ومن خلفهم إيران في اليمن.

إضافة لنفورهم التلقائي التاريخي من النخب المدنية الديموقراطية في المنطقة، تخشى السعودية والإمارات أن تقدم أية حكومة مدنية متحررة من نفوذ العسكريين في الخرطوم على مراجعة مشاركة السودان في الحرب اليمنية، التي سقط فيها مئات الجنود السودانيين منذ عام 2015، الأمر الذي يمكن أن يسبب نكسة مقدرة لمجهودهم الحربي في ذلك البلد الفقير الممزق مثل السودان.

ويقاوم البرهان ودقلو فكرة سحب القوات السودانية، التي تقدر بثمانية آلاف جندي في اليمن، ولا يسمحان بمناقشتها أصلا لأنها توفر لهم مصدرا بالغ الاهمية للعملات الأجنبية التي تفتقر إليها البلاد بشدة علاوة على الدعم السياسي السعودي الإماراتي المقدر.

كما تستخدم السعودية والإمارات، وخاصة الأخيرة، علاقاتها السودانية لتعزيز طموحاتها ومصالحها ومغامراتها الإقليمية حيث دفعت الإمارات بالجنود المرتزقة السودانيين في الحرب الأهلية الليبية للقتال في صف اللواء خليفة حفتر خاصة من قوات “حركة تحرير السودان” الدارفورية بقيادة اركو منيي مناوي المتحالف حاليا مع الفريق البرهان في الخرطوم.

كما يخشى حلف بن سلمان وبن زايد من أن يؤدي أى تطور مدني ديموقراطي في السودان إلى عودة نفوذ جماعات الإسلاميين في السودان التي يناصبونها العداء بالرغم من التفاهمات الاضطرارية التي حافظوا عليها مع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير.

وتستخدم الدولتان مواردهما المالية الضخمة وعلاقاتهما الدولية الواسعة للتأثير على القرار السياسي في الخرطوم وإخضاعه لمصالحهما، إضافة لتاريخ من الرشاوي وغير المباشرة للقادة السياسيين والعسكريين وقد ضجت صحف الخرطوم الأسبوع الماضي بتقرير بتقديم عشرات المنح الدراسية الجامعية لأبناء ضباط القوات المسلحة من رتب فريق ولواء وعميد فقط.

مصر .. الأفضلية للعسكر

الأزمة السودانية
صورة تم التقاطها يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢١ للجنرال السوداني عبد الفتاح البرهان وهو يتحدث أثناء حضوره لاختتام مناورة عسكرية تم إجراؤها في منطقة المعقل شمال ولاية نهر النيل. المصدر: Ebrahim HAMID / AFP.

 

تتسم تصريحات مصر الرسمية تجاه قضايا السودان بالحذر الشديد والحساسية والقلق، ومع ذلك يمكن القول بأن استفراد الجيش بالسلطة في الخرطوم بعد انقلاب البرهان قد قوبل بارتياح في القاهرة.

يربط مصر والسودان علاقات سياسية واقتصادية وتاريخية وشيجة وحساسيات لا حصر لها، لكن هم مصر الإسترتيجي الأول يبقى في مياه النيل، الذي يجري ثلثاه في السودان. لم تكن الحكومة المصرية سعيدة دائما بمواقف حكومة عبد الله حمدوك تجاه مفاوضات سد النهضة الأثيوبي المتعثرة منذ سنوات وترى في الموقف السوداني المستقل غير المتطابق مع المصالح المصرية والأثيوبية على حد سواء، خذلانا للتضامن المفترض بين البلدين الشقيقين. وكانت مصر تتوجس من توجهات رئيس وزراء السودان المستقيل عبد الله حمدوك ووزيره للرى والموارد المالية البروفسيور ياسر عباس الذين عملا سويا لسنوات في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في المنظمات الإقليمية الإفريقية.

في نفس الوقت عززت مصر تفاهماتها مع المكون العسكري في السودان بمساعدات عسكرية مقدرة قدمت للجيش السوداني أثناء النزاع الحدودي بين السودان وأثوبيا العام الماضي إضافة إلى إجراء مناورات عسكرية مشتركة وتوقيع اتفاق تعاون عسكري بين البلدين اعتُبرت رسالة لأثوبيا أثناء أزمة سد النهضة.

وأشارت العديد من المصادر الصحفية السودانية والأجنبية مثل وول ستريت جورنال الأمريكية إلى أن مدير جهاز المخابرات المصري اللواء عباس كامل تردد على الخرطوم كثيرا قبل وبعد انقلاب الفريق البرهان.

وثم قناعة شبه إجماعية في السودان بأن مصر تفضل وتعمل على أن يحكم السودان نظام عسكري لسهولة التعاون والتفاهم معها بعكس الحكومات المدنية الديموقراطية التي تمثل وجهات نظر متباينة في غالب الأحيان.

وعلى أية حال، فقد أعلنت الخارجية المصرية دعمها للتحرك الأممي الهادف لتحقيق الاستقرار في السودان، وذلك من خلال تفعيل الحوار بين الأطراف وتجاوز الأزمة الراهنة، والحيلولة دون الانزلاق إلى دائرة الفوضى. وناشدت الخارجية المصرية “كافة الأطراف للعمل على اختيار رئيس وزراء انتقالي توافقي جديد، وتشكيل حكومة في أقرب وقت ممكن”.

أمريكا .. ضد الانقلاب بحزم

الأزمة السودانية
صورة تم التقاطها لأمريكيين من أصول سودانية وهم يتظاهرون أمام البيت الأبيض في العاصمة الأمريكية واشنطن احتجاجاً على الانقلاب العسكري الذي شهدته السودان في الشهر الماضي. وانتقدت الولايات المتحدة “الخطوة الأحادية” الأخيرة التي قام بها الجيش، في حين قالت الدول الغربية أن الانقلاب “يعقد من الجهود الرامية لإعادة مرحلة الانتقال الديمقراطي في السودان إلى مسارها”. ويصر البرهان على أن خطوة التي قام بها الجيش يوم ٢٥ أكتوبر “ليست بالانقلاب” ولكنها دفعة من أجل “تصحيح مسار العملية الانتقالية”. المصدر: Nicholas Kamm / AFP.

أما الدول العظمى فتتعامل مع الأوضاع في بلد منهك وممزق وفق مصالحها الإستراتيجية، وفي هذا الإطار تبدي الولايات المتحدة الأمريكية اهتماما واضحا بالوضع في السودان. ومن الواضح أن إدارة الرئيس بايدن تتخلى تدريجيا عن السياسات الانعزالية لسلفه ترامب والذي كان قد أطلق يد حلفائه الإقليميين الأقوياء خاصة السعودية والإمارات وترك لهما أمر التعامل مع الأوضاع في السودان والقرن الإفريقي إلى حد كبير.

عينت أمريكا مبعوثا جديدا للقرن الإفريقي هو ديفيد ساترفيلد، سفير واشنطن لدى تركيا المنتهية ولايته، لمعالجة الأوضاع المتأزمة في السودان وأثوبيا. وفي الوقت الذي تعمل فيه على دعم المبادرة الأممية التي يقودها بيرتس في السودان، وأدانت الولايات المتحدة بلهجة قوية وحازمة استمرار حكومة الخرطوم في قتل المتظاهرين السلميين، حيث لقى أكثر من سبعين متظاهرا مصرعة برصاص القوات الأمنية في الخرطوم منذ انقلاب البرهان حتى منتصف يناير.

علقت أمريكا مساعدات اقتصادية بقيمة 700 مليون دولار أمريكي كان من المقرر أن يتسلمها السودان في نوفمبر الماضي فور وقوع انقلاب البرهان، كما علق البنك وصندوق النقد الدوليين مساعدات اقتصادية مهمة للسودان لذات السبب.

ويعتزم وفد أمريكي رفيع المستوى، يضم مساعدة وزيرة الخارجية للشؤون الإفريقية مولي فيي، والمبعوث الخاص الجديد للقرن الإفريقي ديفيد ساترفيلد، زيارة العاصمة السودانية الخرطوم، هذا الأسبوع، بالتزامن مع حالة الانسداد السياسي وتصاعد الاحتجاجات في الشارع السوداني.

ويتخذ الاتحاد الأوروبي موقفا مماثلا  للموقف الأمريكي بل وبلهجة أكثر قسوة وتتجه لتجميد مشروع لإسقاط بعض ديون السودان كانت قد توصلت إليه العام الماضي. لكن للأوروبيين مخاوفهم من المضي قدما في اتخاذ إجراءات ضد انقلابيي السودان الذي يعتبر مصدر ومعبرا لآلاف من المهاجرين الأفارقة الذين يتجهون منها إلي ليبيا المضطربة ثم يركبون البحر لأوربا.

وكان الاتحاد الأوروبي قد وقع اتفاقا مع السلطات السودانية منذ عهد البشير للتعاون في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية. وتعرض الاتحاد الأوربي لانتقادات مريرة بسبب مزاعم عن استفادة مليشيات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو من أموال دفعتها أوروبا لحكومة السودان لمكافحة تسلل المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا.

روسيا لاضعاف النفوذ الغربي

رفضت روسيا بوضوح اتخاذ أي موقف دولي موحد ضد الانقلاب في السودان وشددت على أن ما يحدث في السودان شأن داخلي لا يجب التدخل فيه، أثناء مداولات مجلس الأمن الدولي.

إضافة لمصالحها الجيوستراتيجية، لدى روسيا مكاسب مباشرة في السودان حيث تنشط لكثير من الشركات الروسية في التنقيب عن الذهب في السودان، كما تعمل في السودان شركة فاغنر الأمنية الروسية التي تتهم بمساعدة مليشيات الدعم السريع ذات السمعة السيئة.

كما وقعت روسيا اتفاقا مع حكومة الرئيس السابق البشير لإقامة قاعدة عسكرية في ميناء بورسودان على البحر الأحمر في السودان، يتلكأ الفريق البرهان في تنفيذه خوفا من الضغوط الأجنبية لكنه يلوح بها في نفس الوقت لإثارة مخاوف الغرب. لكن روسيا على أية حال، ترى أن حكم العسكر في السودان يضعف النفوذ الغربي فيها ويسمح لها بلعب دور ما.

وسط هذا الموج المتلاطم من الضغوط والمصالح الأجنبية القريبة والبعيدة يتطلع السودانيون لوضع نهاية للحكم العسكري وإقامة سلطة مدنية تنتشل البلاد من من فقرها وحروبها تضمن لها قدرا من الاستقرار.