وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تحقيقات انفجار مرفأ بيروت بين التلكؤ السياسي واليأس الشعبي

تحقيقات انفجار مرفأ بيروت
يُظهر هذا المنظر الجوي الدخان يتصاعد من الصوامع التي تضررت بشدة في ميناء بيروت المنكوبة، في 29 يوليو / تموز 2022 ، قبل أيام من الذكرى السنوية الثانية لانفجار 4 أغسطس / آب 2020 الذي هز العاصمة، وأسفر عن مقتل 200 شخص على الأقل. وكالة فرانس برس

دانا حوراني

في لبنان تقف صوامع مرفأ بيروت مدمرة، محترقة، مهملة وهي تشهدُ على الانفجار الضخم الذي وقع في الرابع من أغسطس 2020، وأسفر عن مقتل أكثر من 200 شخصٍ وإصابة ما يزيد عن سبعة آلاف جريح.

وما تزال صدمة الانفجار حاضرةً في حياة الناس بعد مرور عامين من وقوعه. فقد اندلع حريق في بداية يوليو الماضي في الصوامع ولم تقُم السلطات بشيءٍ يُذكر ولم يصدر عنها أيّ تفسير لما حدث. ويُعزى سبب الحريق إلى مخلفات القمح التي بقيت في الصوامع وبدأت تتخمر تحت أشعة شمس يوليو الحارقة.

ولم تنجح جهود رجال الإطفاء ومتطوعي الدفاع المدني في إخماد الحريق. وفي يوم الأحد، أي قبل يومين من الذكرى الثانية لكارثة انفجار المرفأ، انهار جزء من الصوامع.

وأطلقت السلطات بيانات تحذيرية للسكان المحيطين بالمرفأ، وطالبتهم بارتداء الكمامات وإغلاق النوافذ. وأكد وزير البيئة ناصر ياسين على هذه التحذيرات. كما يخشى المسؤولون من احتمال انهيار أجزاء أخرى من الصوامع، أما الأجزاء الجنوبية منها فهي في مأمن وفقًا لما ذكرته رويترز.

وقد تعلّق مصير الصوامع بين رغبة الحكومة في إجراء إصلاحات بالموقع ثم إعادة بنائه لاحقًا، وتصميم أسر الضحايا على تخليد ذكرى أحبابهم الذين قضوا في الانفجار.

وما يزال المرفأ رغم كل الجهود المبذولة يُذكر بفشل الحكومة في تحقيق العدالة.

ويمثل غياب المحاسبة أحد أعراض ثقافة الإفلات من العقاب الراسخة في لبنان، وهو أمر وثيق الصلة يتزايد مع اليأس الشعبي، والعجز عن تحقيق نتائج مرضية، بحسب محللين سياسيين وقانونيين.

ماذا حدث في تحقيقات الرابع من أغسطس؟

وكان الميناء الذي أُسس منذ خمسين عامًا يحتوي على 2750 طنًا من نترات الأمونيوم التي خُزّنت بطريقة خاطئة، واشتعلت فيها النار لتتسبب في واحد من أكبر الانفجارات غير النووية في العالم في أغسطس 2020.

وتعهدت الحكومة اللّبنانية بفتح تحقيق بعد أيّام من الانفجار واعدة بأن تظهر نتائجه بعد خمسة أيّام، لكنّ التحقيق بقي طي الكتمان على مدار العامين الماضيين.

وكُلف في البداية القاضي فادي صوان البالغ من العمر 60 عامًا بالقضية، ثم نحّته المحكمة العليا في فبراير 2021. وقد شرعت المحكمة في قرار تنحيته بسبب تدمير منزله في الانفجار وهو ما قد يؤثر على حياده في مجرى التحقيق.

وقد اتهم صوان قبل تنحيته وزيرين لبنانيين سابقين هما غازي زعيتر وعلي حسن خليل، بالإضافة إلى رئيس الوزراء حسان دياب، والوزير السابق يوسف فنيانوس بتهمة “الإهمال الجنائي الذي تسبب في مقتل وإصابة المئات”.

إلا أن زعيتر وخليل رفضا المثول أمام قاضي التحقيق اللّبناني في إطار الإجراءات الجنائية، وقدّما طلبًا للمحكمة العليا لاستبعاد صوان بسبب “شكوك مشروعة” تتعلق بحياده.

وأُعيد انتخاب الوزيرين السابقين المدعومين من حركة أمل في انتخابات مايو 2022، وأصبحا عضوين في البرلمان وعادت لهما الحصانة السياسية. وفي 7 يونيو، انتخبا في لجنة الإدارة والعدل البرلمانية.

واستمر زعيتر وخليل في رفض حضور جلسات الاستجواب، ورفعا -شأنهما شأن بقية المتهمين- دعاوى قضائية ضد قاضي التحقيق طارق بيطار.

وقد عُلقت التحقيقات منذ ديسمبر 2021. ولا يمكن للقاضي بيطار استئناف عمله دون توقيع وزير المالية يوسف خليل التابع لحركة أمل لمرسوم تعيين ستة رؤساء غرف في محكمة التمييز، والذين يشكلون الهيئة العامة للمحكمة.

العوامل السياسية والطائفية تشكل عقبة في طريق المحاسبة

ومن جهتها قالت غيدة فرنجية، -المحامية في “المفكرة القانونية” وهي منظمة غير ربحية للأبحاث والمناصرة في بيروت تتابع التحقيق عن كثب-، في حديثها إلى فنك، إن الحكومة والمسؤولين الكبار المشتبه بهم خصوصًا يستخدمون استراتيجيات عدّة حتى لا يتم محاسبة أي مسؤول عن الكارثة.

كما قالت إن أحدى الوسائل الرئيسة لتأليب الرأي العام على القاضي بيطار هي التشويش عليه والإساءة له بالطعن في نزاهة عمله، وتُكال له الاتهامات من قبيل التسييس والطائفية واتباع أهوائه.

وأضافت فرنجية قائلةً: “روّج زعيتر وخليل صورة لهما تدّعي التعرض للظلم بسبب انتمائهما إلى حركة أمل. وبالمثل ادعى حسان دياب أن سنّية منصب رئيس الوزراء هي هدف ما يتعرض له، لكن ثمة أدلة دامغة ضدهم وضد جميع المتهمين على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والسياسية”.

ورغم أن التحقيق لم يوجه أي اتهام لأيّ من أعضاء حزب الله، أكبر حزب شيعي في لبنان، إلا أنَّ الأمين العام السيد حسن نصر الله اتهم قاضي التحقيق بأن لديه دوافع سياسية “وأنه لا يريد الكشف عن الحقيقة“.

وتربط حزب الله وحركة أمل علاقات وثيقة، وقد أوردت وسائل إعلامية محلية أن وفيق صفا مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله بعث رسالة تهديد للقاضي بيطار قال فيها: “واصلة معنا منك للمنخار، رح نمشي معك للآخر بالمسار القانوني وإذا ما مشي الحال رح نقبعك (نزيحك)”.

ما العمل؟

بعد أسابيع قليلة من هذه الاتهامات، وبعد يومين فقط من مقاطعة وزراء حزب الله جلسات مجلس الوزراء، اندلعت اشتباكات في حي الطيونة في بيروت بين المسيحيين من أنصار حزب القوات اللّبنانية، والشيعة من أنصار حزب الله وحركة أمل، وهو ما أعاد للأذهان ذكريات الحرب الأهلية اللّبنانية.

وتقرّ فرنجية بأن الطريق نحو تحقيق العدالة عسير، وأن ثقافة الإفلات من العقاب هي العقبة الرئيسة منذ عقود طويلة، وأضافت: “نحن نؤسس ثقافة جديدة لم تكن موجودة من قبل وهي ترتكز على المحاسبة. ويجب علينا حاليًا مواصلة الضغط على الحكومة من أجل تعيين قضاة محكمة التمييز، وإجراء إصلاحات تشريعية تحول دون استغلال السياسيين لامتيازاتهم”.

وترى فرنجية أن هذه الإصلاحات ستحد من عدد الدعاوى القضائية التي يحق لكل سياسي رفعها، وتقيّد قدرته على تعليق التحقيق. كما ستُلزم المحاكم بمواعيد محددة لإنهاء أعمالها، ودعت فرنجية إلى تطبيق إصلاحات أخرى تضمن استقلال القضاء، وتحمي القضاة من التدخلات والضغوط السياسية.

ورغم تنظيم عائلات الضحايا مسيرة في الرابع من كل شهر، فإنهم يشعرون بالوحدة بسبب انخفاض قلة مشاركة النشطاء في مثل هذه الفعاليات.

وقالت ترايسي نجار، وهي والدة الطفلة ألكسندرا نجار ذات الأعوام الثلاثة وإحدى ضحايا الانفجار، في مقابلة مع الجزيرة: “نحن عائلات الضحايا نشعر بالوحدة… ونعلم أننا لن نجد العدالة في لبنان، فذلك في حكم المستحيل”.

لكن فرنجية ترى أنه ما دامت القضية حية في المشهد السياسي، إلى جانب نشر معلومات دقيقة عن عملية المحاسبة، فسوف يساهم ذلك حتمًا في منع أي محاولات سياسية لإجهاضها.

وقالت عن القضية إنها: “أزمة وطنية تحولت إلى أزمة سياسية وطائفية. ولا بد أن ينطبع في ذاكرتنا الجمعية أن الانفجار لم يُفرّق بين الضحايا”.

مجتمع مخذول

قال كريم صفي الدين، الناشط السياسي وعضو شبكة مدى السياسية، في حديثه إلى فنك إن إبقاء جذوة المظاهرات في الشوارع بات صعبًا بسبب تزايد الشعور بالخذلان بين الناس.

وأضاف: “ليست القضية في قلة اهتمام الناس بانفجار يوم 4 أغسطس، ولكن في زيادة شعورهم باليأس من الأدوات التي بين أيديهم. ومن جانب آخر يلجأ الناس إلى أدوات أخرى مثل التصويت وحشد جماعات الضغط”.

ويرى صفي الدين أن الشعور باليأس الجاسم على نفوس الناس قد دفع البعض إلى الاحتماء بجماعتهم الطائفية. فقد فضل المناهضون لحزب الله حزب القوات اللبنانية المسيحي على سبيل المثال من بين الجماعات المعارضة، خوفاً من تمدد هيمنة حزب الله.

وأردف: “نحن بحاجة إلى خلق حركات وكيانات سياسية جديدة تقدم للناس حلولًا وخيارات واقعية تبعث فيهم الأمل وتبقيه بعيدًا عن ألاعيب الأحزاب العتيقة”.