وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

البدون في الكويت: أزمة عصيّة على الحل

البدون في الكويت
صورة تم التقاطها يوم 11 مارس / آذار 2011 لمئات من العرب عديمي الجنسية “البدون” وهم يتظاهرون للمطالبة بالجنسية وحقوق أخرى حيث تستخدم شرطة مكافحة الشغب الكويتية الغاز المسيل للدموع لتفريقهم في الجهراء، 50 كم غرب مدينة الكويت. YASSER AL-ZAYYAT / AFP

يوسف شرقاوي

يعاني بدون الكويت منذ عقود من التهميش والإقصاء في هذه الدولة الخليجية التي لا تعترف بهؤلاء كمواطنين وترفض منحهم الجنسية أو أية امتيازات تماثل تلك التي يحصل عليها المواطنون الكويتيون. الجدل الدائر حول هذه الأزمة عاد ليطفو على السطح مع انتشار أخبار حول حرمان وزارة الصحة الكويتية في نهاية أغسطس ٢٠٢١ لبدون الكويت من مكافآت الصفوف الأمامية لمواجهة فيروس كورونا. هذا الخبر ضجّ كما النار في الهشيم على موقع تويتر، إذ سرعان ما حصل وسم #وزارة_الصحة_تحرم_البدون على اهتمام شريحة واسعة من أبناء الكويت، وهو ما انتقل بدوره إلى أروقة مجلس الأمّة الكويتي لعرضه على النقاش.

الجدل ينتقل إلى مجلس الأمة

نقاشاتٌ متعددة شهدها مجلس الأمة الكويتي حول تمييز وزارة الصحة الكويتية بين الكويتيين والبدون. عبّر بعض النواب هناك عن استيائهم، مستغربين ما وصفوه بالعبث في المكافأة وتجاوز المستحقين. ونقلت صحيفة الراي الكويتية عن عددٍ من النواب وصفهم لتعامل وزارة الصحة بـ”الفشل الجديد” في الجانب الأخلاقي، فهذه الأخيرة حرمت منتسبيها من البدون من المكافأة، فيما صرفتها للوافدين والكويتيين.

إنها أزمة جديدة يعيشها ويعاني منها “البدون” في الكويت. وهؤلاء سكان هذا البلد منذ زمنٍ طويل ممّن لا يحملون الجنسية الكويتية. بعضهم ولد لأمهات كويتيات ولديهم أقارب من حملة الجنسية الكويتية، وينحدر معظمهم من عائلات سبق وأن استقر بها المقام في الكويت منذ سنين خلت، خصوصاً في الفترة التي سبقت إعلان استقلال الكويت عام ١٩٦١.

تعرّف اتفاقية الأمم المتّحدة لعام ١٩٥٤ الخاصة بـ”عديمي الجنسية”، الشخص عديم الجنسية (البدون)، أنه “الشخص الذي لا تعدّه أيّة دولة مواطناً فيها بمقتضى تشريعاتها”. ووفقاً لمنظمة العفو الدولية، فقد دأبت السلطات الكويتية طوال خمسين عاماً على حرمان البدون من الحصول على حقوق المواطنة في البلد الذي أبصروا النور فيه ولا يعرفون غيره، سيّما وأنها تصنّفهم إما كـ”غير كويتيين”، أو كـ”مواطنين مجهولي الهوية”. وبعد ذلك، باتت السلطات الكويتية تتعامل مع البدون كـ”مقيمين بصورة غير قانونية” على أراضيها.

وقُدِّر عددهم قبل غزو العراق للكويت عام 1990 بين 220 ألفاً و350 ألفاً، لكن هذا العدد تقلص لاحقاً (حتى عام 2010) إلى ما يتراوح بين 95 ألفاً و110 آلاف (حسب تفاوت مصادر البيانات). ويعود السبب في هذا الانخفاض إلى “سياسة الضغط والتهجير التي تتّبعها الحكومة”، حيث بات البدون يشكلون نحو 4% من سكان الكويت مقابل 40% من الكويتيين، والباقي من جنسيات مختلفة. وبحسب المعهد الديمقراطي الوطني، يعيش في الكويت نحو 100 ألف شخص من البدون نتيجة سياسات استثنائية تتّبعها الحكومة الكويتية على مستوى التجنيس، رغم استقرار القسم الأكبر من “البدون” في الكويت منذ أجيال مضت وعقودٍ كثيرة، وهم أكثر تجذراً أحياناً من المواطنين الكويتيين أنفسهم.

 

حياة صعبة

يعيش “بدون” الكويت حياةً صعبة. وبحسب منظمة العفو الدولية، فإن هؤلاء يضطرون جراء ما يتعرضون له من تمييز إلى القبول بالعمل ضمن شروط سيئة، ولقاء أجور أقل من تلك التي يحصل عليها المواطنون الكويتيون. وغالباً ما يدفع “البدون” رسوماً أعلى من المواطنين بدل الحصول على الرعاية الطبية، نظراً لعدم تمكنهم من الاستفادة من مرافق الدولة في هذا القطاع. ويضطر بعض أولياء الأمور من “البدون” إلى إرسال أطفالهم للالتحاق بمدارس غير مجانية، نظراً لحرمانهم من إمكانية الاستفادة من مدارس القطاع العام المتاحة بالمجان للمواطنين، على الرغم من وجود صندوق ترعاه الدولة لتمويل الاحتياجات التعليمية يمكن لعائلات “البدون” الاستفادة منه.

كما أنّ بعض “البدون” اضطروا، يائسين، إلى شراء جوازات سفر أجنبية مزورة بغية تسوية أوضاع إقامتهم في الكويت. وأدّت عدم قدرتهم على تجديد الجوازات إلى مزيدٍ من التهميش والحرمان في حقهم، وغالباً ما قوبلت احتجاجاتهم بالعنف والقمع والاعتقال.

ومنذ عام 1986، جردت الحكومة “البدون” من حقهم في التمتع بجميع الخدمات العامة، بما في ذلك التعليم المجاني والسكن والرعاية الصحية، وحصرها بالمواطنين الكويتيين. كما أن هؤلاء يقطنون أحياء رثة ومهملة على مشارف مدينة الكويت، مما يتناقض مع المنازل الفاخرة التي اعتاد عليها الكويتيون. إلى جانب ذلك، لا يمكن نسيان حالات الانتحار التي بلغ عددها تسع حالات حتى ٢٠٢٠، من “البدون”، بينهم طفل، بسبب الظروف الحياتية الصعبة، والأحلام المهدورة.

أزمة ولاء؟

البدون في الكويت
صورة تم التقاطها يوم ٤ أكتوبر ٢٠٠٠ لعشرات العرب عديمي الجنسية المعروفين بالبدون وهم يتظاهرون على الحدود الكويتية العراقية للمطالبة بدخول الإمارة الخليجية الغنية بالنفط، مهددين باستخدام السلاح. في المقابل، فضّت الكويت التظاهرة واعتبرتها مؤامرة دعائية. وزعم المنظمون العراقيون أن عدد المتظاهرين وصل ألف شخص وأنّ القوات والشرطة الكويتية المتواجدة في المنطقة كانت في حالة تأهّب قصوى. ويقول الكويت إنّ ١٠٢ ألفاً من البدون يعيشون في الإمارة، مقارنةً مع ٢٢٥ ألف قبيل الغزو العراقي في عام ١٩٩٠. المصدر: KARIM SAHIB / AFP.

يعتبر البعض أنّ أحد العوامل التي أدّت إلى صعوبة موقف البدون في الكويت هو توجيه اتهامات لهم “بعدم الولاء” بسبب مساندة بعضهم للعراق خلال الغزو العراقي للكويت عام 1990، في حين فضّل البعض الآخر البقاء للدفاع عن الكويت أو مغادرتها والتوجه إلى السعودية، فهل هي مسألة ولاء إذن؟

ووفقاً للجزيرة، فقد تمتّع “البدون” بالمساواة مع الكويتيين منذ استقلال البلاد عام 1961 وحتى 1991، وشغل معظمهم وظائف في الجيش والشرطة الكويتية قبل الاجتياح العراقي للكويت عام 1990. لكن هؤلاء فقدوا تلك الوظائف بعد إخراج القوات العراقية في فبراير من عام 1991.

وتقول الحكومة إن معظم “البدون” يخفون وثائق بلدانهم الأصلية من أجل الحصول على الجنسية الكويتية للتمتع بمزايا لا تمنح إلا للمواطنين، مستدلة بتقديم آلاف منهم لوثائق هويات دول مجاورة حصلوا بها على حق الإقامة في الكويت أو على الجنسية. ويضاف إلى هذا الجانب ما يعتري الحكومة من مخاوف ترتبط بإخلال عملية التجنيس بالتركيبة العرقية والطائفية بالبلاد. كما تتذرع الحكومة بأن مساحة البلاد وعدد سكانها وظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تسمح بالتجنيس الواسع النطاق لكل من يرغب في ذلك، وهو ما يستوجب أن يكون منح الجنسية الكويتية وفق “جرعات مدروسة تكفل انسجام المجتمع والحفاظ على مقوماته”. إلى جانب ذلك، فقد استغلت الحكومة الناحية الطائفية للتهرب من حل المشكلة. وبحسب المجلس الدولي لدعم المحاكمة العادلة وحقوق الإنسان، فإن الحكومة أوهمت النواب من المذهب السني أنّ أغلب “البدون” من المذهب الشيعي وإذا تم تجنيسهم سوف تعلو أصوات الشيعة في الكويت.

إنّ ذرائع الحكومة كثيرة إذن، وفيها من التناقض والانتهاك لمواد من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت الكويت عليه في 1996، ما يجعلنا نقف حائرين. وفي هذا السياق، يظهر هذا التناقض بوضوح في الدستور الكويتي، إذ تشير المادة رقم 29 على سبيل المثال إلى أن: “الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين”. كما أن المادة رقم 31 تنص على أن “لا يُعرّض أي إنسان للتعذيب أو للمعاملة الحاطة بالكرامة”، لكنّ الحكومة خرقت هذا الطرح في 18 فبراير 2011 عندما أُلقي القبض على حوالي 120 من المتظاهرين السلميين، واحتاج 30 منهم للحصول على علاج طبي. وفي أيار 2012، استخدمت قوات الأمن الهراوات والعربات المصفحة لتفريق تجمع من “البدون”، وكان الناشطون الكويتيون في مجال حقوق الإنسان شهوداً على هذه الانتهاكات وحرصوا على توثيقها. ومع ذلك، السلطات استمرت في عنفها ضد المحتجين السلميين، إذ استخدمت خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والضرب، من أجل فض مظاهرات “البدون” الذين يطالبون بحقوقهم، وما تزال القضية على حالها.

محاولات لحل الأزمة

شكّلت الحكومة الكويتية بين 1993 و1996 مجموعة من اللّجان الرسمية للتعاطي مع مشكلة “البدون” وسبل حلها، منها “اللجنة التنفيذية لشؤون المقيمين بصورة غير قانونية”، بهدف اتخاذ الإجراءات التنفيذية اللازمة لمعالجة أوضاع “البدون”. وقامت اللجنة بتسجيل بيانات البدون على الحاسب الآلي، بالتزامن مع عمل قاعدة بيانات كاملة عنهم (أعدادهم – سنوات تواجدهم – جنسياتهم الأصلية – إلخ)، وذلك وفقاً لدراسة في مجلس الأمة عام 2014. كما أصدر مجلس الأمة الكويتي عام 2000 قانوناً ينص على تجنيس ألفَي شخص سنوياً من “البدون” الذين يقيمون في البلاد منذ عام 1965 على الأقل.

وتأسس “الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين غير القانونيين” عام 2010، بمرسوم أميري، مما جعله غير خاضع لسلطة رقابية وتشريعية من قبل مجلس الأمة، وهذا يسمح له باختراق الدستور والقوانين وتجاوز السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية). وطبّق هذا الجهاز سياسة “فرّق تسد”، حيث صنّف “البدون” إلى أربع فئات، تُعطى كل فئة ميزات محدودة مما أدى إلى خلق الحساسية ضمن تلك الفئات، وفي ذلك انتهاك للمادة 29 من الدستور التي ذكرناها، وما تزال المشكلة والاحتجاجات مستمرة.

الكويت رفض بصورة علنية ـ19 توصية تم تقديمها ضمن آلية الاستعراض الدوري الشامل أمام مجلس حقوق الإنسان حول قضية “البدون” بما يكفل حصولهم على حقوقهم بالكامل واستحداث آلية لمعالجة طلبات الجنسية وفقاً للمعايير الدولية. وبحسب المجلس، فإن رفض الكويت يجعل من سياسة العنصرية خطراً يشوه صورة هذه الدولة الخليجية، وهو ما ينبغي على الكويت تفاديه عبر إلغاء كامل القوانين التي تقوم على أساس التمييز العنصري ضد “البدون” ومنحهم حقوقهم والتسريع بعملية التجنيس بالنسبة للمستوفين الشروط القانونية ويُقدَّر عددهم ب 34 ألفاً. كما يرى المجلس أنّ مثل هذا الاستخفاف والمماطلة بقضية “البدون” لا يوحي بأنّ الحكومة الكويتية تأخذ القضية على محمل الجد. ووسط كل هذا المحاولات التي لم تؤت ثمارها، لا يبدو وأن أزمة البدون ستكون قابلة للحل على المدى المتوسط أو حتى البعيد، سيّما وأن الحكومة الكويتية لا تزال تضع هذا الموضوع ضمن قائمة أولوياتها.