وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حقيقة المفاوضات “السرية” بين حماس واسرائيل وسبب جمودها

أنصار حركة حماس يرددون شعارات خلال مسيرة جابت شوارع غزة، 12 سبتمبر 2015
أنصار حركة حماس يرددون شعارات خلال مسيرة جابت شوارع غزة، 12 سبتمبر 2015 Photo Corbis

يمكن أن نستلخص العديد من العبر من الحرب الاخيرة على غزة في صيف عام 2014 والتي إستمرت ما يقارب 51 يوما. ولعل أهم تلك العبر هي أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس مكتوباً له أن يُحل عن طريق القوة. فقد فشلت الحروب الثلاث الاخيرة التي شنت على قطاع غزة خلال ستة سنوات في تحقيق أهداف واضحة المعالم تدفع أحد طرفي الصراع إلى رفع الراية البيضاء وإعلان الإستسلام. وفي النصف الأول من عام 2015 كثر الحديث عن وجود مفاوضات غير مباشرة بين كل من الحكومة الإسرائيلية وحركة المقاومة الإسلامية حماس. هذا الأمر ليس بالمستغرب لأنه من البديهي أن يتم السلام بين الأعداء لا الأصدقاء. ولكن في نفس الوقت من المبكر الحديث عن سلام وخاصة أن الحديث كان ينصب على تحقيق هدنة تستمر لغاية عشر سنوات لعلها تكون كافية لتمهد الطريق إلى الوصول إلى حل طويل الأمد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي والمستمر منذ 68 عاماً. كما أن التنبؤ باندلاع انتفاضة ثالثة قد يجبر حركة حماس على التريث والانتظار.

أسئلة كثيرة طرحت في الأونة الاخيرة عن طبيعة الأدوار المختلفة التي تلعبها الأطراف المعنية وعن مدى جدية المحادثات المزعومة بين الطرفين، والتي تولى التوسط فيها مبعوث الرباعية السابق توني بلير. فما هو فحوى تلك المفاوضات وإلى ماذا أفضت؟ ولماذا لم تسفر عن نتائج ملموسة على الأرض؟ في شهر مارس من العام 2015 تحدث القيادي في حركة حماس د. أحمد يوسف عن وجود مفاوضات غير مباشرة وصفها “بالدردشات”. في حينها لم يُشر القيادي في حركة حماس بأن الممثل السابق للرباعية الدولية توني بلير هو الشخصية التي تعمل على الوساطة بين الطرفين. وعلى أثر تصريحات يوسف، برزت العديد من المواقف المؤيدة وأخرى المعارضة لتلك المفاوضات غير المباشرة. ففي حين تبنت السلطة الوطنية الفلسطينية موقفا معارضا جداً لتلك المحادثات ووصفتها بالمشبوهة وتهدف الى إقامة إمارة في غزة، كانت هناك بعض المواقف الدولية والإقليمية الفاعلة التي أيدت بشكل مؤقت المفاوضات من وراء الستار. فما حقيقة تلك المفاوضات وما هي الأسباب التي أدت إلى فشلها أو تجميدها؟

لعل أهم نتائج الحرب الأخيرة على القطاع هو أنها أنتهت بعدم قدرة الحكومة الإسرائيلية على القضاء على حركة حماس أو إزاحتها عن الحكم في غزة من ناحية، كما فشلت المقاومة الفلسطينية المسلحة بقيادة حماس في إحداث أي تغيير ملموس لميزان القوى على الأرض من ناحية أخرى. هاتان النتيجتان كانتا العاملين الأساسيين في التفكير في تغيير نهج لكلٌ منهما والتوجه نحو صيغة سياسية من خلال محادثات غير مباشرة لتحقيق أهداف كل منهما. حماس خرجت منهكة من الحرب مع وجود خسائر كبيرة في الأفراد والممتلكات في غزة، كما خرجت إسرائيل من الحرب بسمعة سيئة أمام المجتمع الدولي. وقد سعت حماس جاهدة إلى رفع الحصار المفروض على قطاع غزة منذ ثماني سنوات بشتى الوسائل، في حين تريد إسرائيل تحقيق الأمن في المنطقة الجنوبية بشتى الوسائل.

كلٌ من الطرفين يعرف تماماً ما يحتاجة الطرف الأخر، وكلٌ من الطرفين يعرف أنه سوف يدفع ثمنا مقابل تحقيق أهدافه. ولعل التحولات الإقليمية ومنها موقف حماس السياسي المساند للسعودية فيما يتعلق بالحرب على اليمن وإتفاق إيران النووي وتوتر العلاقة بين حركة حماس وإيران قد ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تسريع إمكانية عقد صفقة باتت تُعرف فيما بعد بإسم “التنمية مقابل التهدئة”. هذه الصفقة لو كتب لها النجاح فإنه لا يمكن وصفها بالصفقة “السياسية”، وإنما هي أقرب ما تكون إلى الصفقة “الانسانية” بين الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس بوساطة من توني بلير، الذي قابل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل أربع الى خمس مرات إبتداءاً من شهر فبراير ولغاية شهر أغسطس من عام 2015. ومما لا شك فيه أنه على الرغم من نفي مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتاياهو لهذه المفاوضات إلا أن إسرائيل كانت حريصة على عقد مثل تلك الصفقة، لذا لم يكن من المستغرب أن يتم الإعلان عن تلك المحادثات غير المباشرة أول ذي بدء عن طريق صحيفة هآرتس الإسرائيلية وذلك بهدف تحضير الرأي العام الإسرائيلي لتلك الصفقة المتوقعة أصلا. وعلى الرغم من وجود بعض الإختلافات في بنود الصفقة كما أوردتها وسائل الاعلام المختلفة، إلا أن غالبية وسائل الاعلام العربية والإسرائيلية قد أجمعت على النقاط التالية:

  • موافقة إسرائيل على إنشاء منفذ بحري تحت مراقبتها لتسهيل حركة أبناء القطاع

  • رفع الحصار بشكل كامل عن قطاع غزة

  • السماح لآلاف العمال بالتنقل بين قطاع غزة وإسرائيل

  • توقف حماس عن حفر الأنفاق على الحدود ومنعها لإطلاق الصواريخ

  • قبول تهدئة بين الجانبين تمتد إلى ثماني سنوات على الأقل

الصفقة بالتأكيد لم تتضمن تلك البنود فحسب، فالمراقب للأمر يعلم بأن الحكومة الإسرائيلية أثارت في شهر يوليو من العام 2015 قضية الافراج عن أسيرين تدعي إسرائيل إنهما دخلا الحدود في قطاع غزة بالخطأ، في حين تتكم حركة حماس عن مصيرهما، هذا بالإضافة إلى جثتين لجنديين إسرائيليين تحتجزهما حماس منذ الحرب الاخيرة صيف عام 2014. وفي المقابل سعت حماس للإفراج عن أكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال منذ سنوات طويلة على غرار ما عرف بإسم صفقة شاليط. فمنذ زيارة وزير الخارجة الألمانية، فرانك شتياينماير في الأول من شهر يونيو من العام 2015 الى غزة، زادت وتيرة الشائعات التي تتحدث عن وساطة ألمانية في هذا الموضوع. يذكر أن وزير الخارجية الألماني هو أول من استخدم مصطلح “التنمية مقابل التهدئة”.

على الرغم من تناول الموضوع بوفرة من قبل وسائل الاعلام إلا انه لم يكن هناك ما يؤكد بأن صفقة التهدئة كانت على وشك الإعلان بشكل رسمي. وكانت هناك الكثير من الدلالات التي تشير الى أن تطوراً مهماً قد حدث، خاصة بعد اللقاءات المستمرة مع السيد طوني بلير مبعوث الرباعية السابق، والذي قدم إستقالته بعد فترة وجيزة من زيارته التي وصفت بالمفاجئة لقطاع غزة بتاريخ 17 فبراير 2015. وتحدث بلير بشكل واضح عما ينتظره من حركة حماس لكي يُسمح بإندماجها في المنظومة السياسية الفلسطينية ويتم التعامل معها بشكل رسمي دولياً، كما طالب المبعوث الدولي بمجموعة من الشروط، منها أن تقبل حركة حماس بـحل الدولتين، والحصول على تأكيد من قبل حركة حماس بأنها حركة فلسطينية خالصة وليست جزءا من حركة إسلامية ذات أبعاد إقليمية. ولعل المطلب الثاني لم يكن إسرائيليا بحتا،ً وإنما طلبا مصريا سعوديا بإمتياز. والمتابع للشأن الفلسطيني يستنبط بأن هناك موافقة سرية من قبل حركة حماس على بعض مطالب طوني بلير بما في ذلك المطلب الثاني، وإلا لما كان بالإمكان أن يلتقى وفد من حركة حماس برئاسة خالد مشعل ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز صبيحة يوم عيد الفطر، ولما كان بالإمكان كذلك أن تسمح الحكومة المصرية بفتح معبر رفح عدة إسابيع متواصلة في تلك الفترة قبل إغلاقه مرة أخرى. حركة حماس دفعت ثمنا باهضا تمثل في صمتها المطبق تجاه ما يجرى من أحكام قضائية ضد حركة الإخوان المسلمين في مصر، حيث تم تبرير ذلك الصمت بأنه شأن مصري داخلي لا يجوز التحدث عنه. التقارب الحمساوي السعودي أرفقه تباعد حمساوي إيراني، وهو تماما ما طلبته السعودية بشكل مباشر من قيادة حركة حماس. فلقد زاد تردي العلاقة بين إيران وحماس وكانت هناك بعض المواقف المتشددة من قبل صناع القرار الإيراني تجاه حماس. أثار ذلك كله حفيظة نائب رئيس المكتب السياسي موسى أبو مرزوق الذي بدوره إنتقد إيران لأول مرة وبشكل ملفت للنظر، وبالتالي قطع الطريق أمام بعض قيادات الداخل الحمساوية وخاصة العسكرية منها التي تسعى لتحسين العلاقة مع إيران على حساب العلاقة مع السعودية.

من ناحيتها أعربت السلطة الفلسطينية عن قلقها من التقارب الأخير بين حركة حماس والمملكة السعودية، ويتمنى مسؤولوها ألا يدفع هذا التقارب لتعزيز فكرة إقامة كيان مستقل في غزة. وفي ذات السياق، رفضت السلطة بشكل مطلق المحادثات التي تتم بين حركة حماس والحكومة الإسرائيلية برعاية بلير واعتبرت حركة فتح باسم ناطقها أحمد عساف بأن كل من يشارك فيها متآمرا على الشعب الفلسطيني وقضيته، وقال أن الشعب الفلسطيني سيسقط هذه المؤامرة كسابقاتها.

السبب الرئيسي وراء فشل أو جمود المفاوضات بين الطرفين كان موضوع إنشاء المنفذ البحري في غزة. حيث وافقت إسرائيل على إنشاء الممر المائي بشكل مبدئي على أن يكون تحت مراقبة إسرائيل. لكن هذا الأمر بسبب خصوصيته السيادية وطبيعته الدولية تم التباحث في أمره مع السلطة الوطنية الفلسطينية التي بدورها رفضت الموضوع برمته. وفي حقيقة الأمر، لم يكن بالإمكان عقد مثل تلك الاتفاقية الموقعة بين إسرائيل وحركة حماس. فلو عقدت تلك الاتفاقية لكان هناك إعتراف غير مباشر من قبل إسرائيل بحركة حماس، واعتراف من قبل حركة حماس بإسرائيل. هذا الأمر مرفوض من قبل الطرفين، على الاقل في هذه المرحلة الراهنة. وخشية السلطة الفلسطينية من استقلالية حركة حماس وإنشاء “دويلة” في قطاع غزة جعلت الأمر غير قابل للنقاش من قبل السلطة الفلسطينية. وهذا ما صرح به نبيل شعت في نهاية شهر أغسطس من العام 2015، وهو ما أكده مرة أخرى رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله في مقابلة له في صحيفة الحدث من رام الله بتاريخ 30 سبتمبر من نفس العام.

هناك بالطبع عدد من المكاسب التي ستحققها إسرائيل في حالة تم إعادة إطلاق الحوار غير المباشر لإجراء صفقة مع حماس. فالمكسب الميداني مثلا هو تعهد حركة حماس بالحفاظ على الأمن على الشريط الحدودي لمدة لا تقل عن ثماني سنوات، أما المكسب السياسي لإسرائيل فهو  ال الضفة الغربية عن قطاع غزة والعمل على تطبيق رؤية السلام الإقتصادي الذي ينادي به نتانياهو منذ سنوات. وبالنسة لحركة حماس، هناك عدة مكاسب على الأرض، لعل أهمهما هو رفع الحصار بشكل كامل عن قطاع غزة، وتَقبل المجتمع الدولي للتعامل مع الحركة خاصة بعد موافقة إسرائيل على التعامل مع حماس بشكل غير مباشر، بالإضافة إلى الحفاظ على الحكم في القطاع. وبذلك يكون قد تبلورت جهتي حكم في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. هذا الأمر لو تم ستتحق به مصالح حزبية بحتة سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، وبذلك سيتبدد هدف القضية الوطنية الفلسطينية بإنشاء دولة على حدود عام 1967 لسنوات.