وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هل ودّعت تونس المرحلة الانتقالية وباتت أكثر ديمقراطية؟

Presidential candidate Beji Caid Essebsi among his supporters, after casting his vote at a polling station in Tunis, 21 December 2014 Photo Eyevine/Hollandse Hoogte
مرشح للرئاسة الباجي قائد السبسي ومؤيدوه بعد أن تصوت في مكتب التصويت في العاصمة تونس, 21 كانون الأول 2014 Photo Eyevine/Hollandse Hoogte

بانتخاب رئيسٍ وبرلمانٍ جديد، تركت تونسخلفها في عام 2014 الحقبة الانتقاليةوتسيّدت المشهد الديمقراطي في العالم العربي، ولا عجب أن مجلة ذي إيكونوميستاختارت تونس عام 2014 بلد العام. ومع ذلك، لا يجب أن يمنعنا التفاؤل من استبصار الصعوبات المقبلة.

ففي الخامس من ديسمبر حصد رئيس الجمهورية التونسية الجديد، باجي قائد السبسي، ما نسبته 55,68% من الأصوات، متغلباً على الرئيس الحالي محمد منصف المرزوقي الذي حصل على 44,32%. وتعتبر هذه أول مرة في التاريخ العربي يخسر فيها رئيس منصبه في انتخابات ديمقراطية ويسلّم السلطة، عن طيب خاطر، لخصمه. كما أنّ هذه هي المرة الأولى أيضاً التي ينتخب فيها التونسيون رئيسهم في أجواء ديمقراطية ومريحة.

وتزامن يوم مراسم التسليم مع أقسى الموجات الباردة التي تضرب تونس منذ سنوات؛ إذ كانت الشوارع مقفرة ومع ذلك تسّمر مئات الآلاف من التونسيين أمام شاشات التلفاز ليشهدوا حدثاً لم يسبق له مثيلٌ في البلاد. رافق موكب الرئيس الجديد مجموعة من حرس التشريفات على ظهور أحصنتهم وصولاً إلى القصر الرئاسي، حيث تصافح السبسي والمرزوقي أمام عدسات الكاميرا ومن ثم عقدا اجتماعاً مغلقاً في المكتب الرئاسي، وأخيراً حيا كل منهما الآخر قبل أن يغادر المرزوقي قصر قرطاج. ودون أي انقلاب، أو اغتيال، أو اعتقالات، امتاز تسليم السلطة بالتحضر والأجواء السلمية. وخارج تونس أيضاً، شاهد ملايين العرب هذا المشهد الحضاري الذي أسعدهم.

الباجي قائد السبسي

يوصف قائد السبسي البالغ من العمر 88 عاماً بأنه (أبارتشيك)، وهو مصطلح روسي يُشير إلى عملاء الجهات الحكومية أو الحزبية، حيث شغل مناصب عدة طوال حقبة بورقيبة وفي السنوات الأولى لزين العابدين بن علي، وبعد هروب بن علي خارج البلاد في عام 2011، طُلب منه العودة بعد عقدين من ابتعاده عن الساحة السياسية، ليتبؤ منصب رئيس الوزراء. وفي حين يعتبر السبسي نتاج النظام القديم الذي حكم تونس بين عامي 1956 و2011، لطالما اعتبر قائد السبسي متمرداً داخل النظام حيث انسحب من السلطة عدة مرات، وخصوصاً عندما ساد الاستبداد على التعددية. وبالتالي كان تعينه في فبراير 2011 مقبولاً لدى العديد من قطاعات السكان بما في ذلك الشباب الثوري.

وعندما فاز حزب النهضة في الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2011، عيّن حكومة ورئيساً جديداً للبلاد بعيداً كل البعد عن النظام القديم. وبعد بضعة أشهر، ظهر قائد السبسي مجدداً وتخلى عن تقاعده وأنشأ حركة سرعان ما تحولت إلى حزب سياسي باسم نداء تونس. جمع الحزب حوله معظم الممتعضين من فوز النهضة بما في ذلك الشركات التابعة للنظام القديم واليساريين ونشطاء الاتحادات العمالية، والعلمانيين. ومع ذلك تمثلت القوة الأساسية لنداء تونس في قدرته على أن يطغى على “آلة” النظام القديم، بما في ذلك عاداته الزبائنية والشبكات المرتبطة به (على سبيل المثال، الشرطة، ورجال الأعمال، ووسائل الإعلام).

لذا لم يكن من المستغرب أن نسمع بعد إعلان نتائج انتخابات 2014 تعالي بعض الأصوات من المخيم المنافس التي تشجب الغش فضلاً عن التعبير عن أسفهم “بنهاية الثورة ونجاح الثورة المضادة”.

اختار قائد السبسي لحملته الانتخابية شعار “معركة الدولة ضد الفوضى”، في حين رفع المرزوقي شعار “الثورة في مواجهة الثورة المضادة”. ومع ذلك، وبالرغم من الشعارات القوية والتهديدات التي رافقت الحملات الانتخابية، جرت الانتخابات في أجواء سلمية. وفي بعض الحالات النادرة، عندما التقى مؤيدوا الجانبيين، كانت قوات الأمن تتدخل بسرعة وغالباً ما كانت مجرد حرب كلامية بعيدة كل البعد عن المواجهة المسلحة.

جدل سياسي

ومن منظور آخر، تعتبر في الواقع “الثورة مقابل الثورة المضادة” جدلاً سياسياً نشأ بقوة مع الانتخابات الرئاسية. وحلّ محلّ قطبيّ الهوية “العلمانيين ضد الإسلاميين” التي ميزت تونس في عام 2012 وعام 2013. وهكذا تقدمت تونس خطوة بعيداً عن مستنقع سياسات الهوية الذي يمزق العراق، وسوريا، ولبنان، وإلى حدٍ ما، ليبيا ومصر.

حدث هذا التحول في الخطاب بسبب قرار النهضة عدم طرح مرشح للرئاسة، لذا كان من الصعب الحفاظ على استمرارية حوار الهويات، حيث اعلن المرزوقي على الملأ علمانيته. لقد كان بكل تأكيد المرشح المفضل لأتباع حزب النهضة، لكنه أيضاً حاز على دعم العديد من الشباب التونسيين، بما في ذلك الثوار وغالبية المواطنين المهمشين في جنوب تونس. كما كان المفضل لدى بعض الحركات المتطرفة، بما في ذلك بعض الجماعات السلفية، والرابطة الوطنية لحماية الثورة التونسية والناشطين المتطرفين على شبكة الإنترنت أمثال حركة تكريز.

ركّز منصف المرزوقي في خطاباته وخلال حملته الانتخابية على “قيم الثورة”. وصوَّر نفسه على أنه آخر الصخور في وجه الثورة المضادة العربية، وآخر رعاة معاقل الربيع العربي الصامد. وينظر غالبية أولئك الذين صوتوا للمرزوقي إلى قائد السبسي باعتباره انعكاساً لصورة بن علي ومن المتوقع أن تُمسي معارضتهم لحكمه أكثر شراسة في السنوات المقبلة.

وعندما تم الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات، عبَّر فريق المرزوقي عن عدم رضاه عن النتائج وألمح إلى حدوث الغش، ولكن انتهى الأمر في نهاية المطاف بقبول النتائج. وحذر المرزوقي في خطاب بلهجة حادة أمام الآلاف من أنصاره من عودة النظام القديم، وأعلن إطلاق حركة شعب المواطنين التي قد تُصبح حزباً سياسياً جديداً يضم أعضاء من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية المتقهقر ومختلف الحلفاء والأحزاب الصغيرة. ولا تزال خصائص حركة شعب المواطنين غير واضحة المعالم،  ولكن قد تنصّب نفسها كبديل لنداء تونس والنهضة باعتبارها “البديل الثوري”. وبالنظر إلى الفصائل التي انضمت إلى الحركة، قد تلجأ حركة الشعب المواطنين إلى العنف في المستقبل.

ومن ناحية أخرى، تعهد قائد السبسي بأنّ يكون دوماً رئيساً لكل التونيسيين من مختلف الأطياف، بالرغم من تجاهله الرئيس المنتهية ولايته، المرزوقي وأنصاره في حملته الانتخابية، في حين اعتمد حزبه استراتيجية رئيسية تقتضي معارضة النهضة و”مشروعها الظلامي”. ويؤكد الخطاب الذي استخدمه أنصار (البجبوج) اللقب الذي يُطلقه

مؤيدوا القائد السبسي عليه، على استبعاد الأحزاب الأخرى (وخاصة الإسلاميين والثوريين والراديكاليين).

ويُخشى أن يُصبح السبسي رئيساً مسبباً للشقاق، في حال تصادم أعضاء حزبه مع أنصار النهضة أو المرزوقي أو في حال لجأ إلى السياسات القمعية القديمة التي دأب على استخدامها النظام القديم. أما فيما يتعلق بعمره، فالقضية مختلفة تماماً، إذ سيبلغ عامه الثالث والتسعين مع انتهاء فترة ولايته عام 2019 (هناك أمثلة نادرة وسيئة السمعة لرؤساء دول حكموا في مثل هذه السن المتقدمة). كما تواجه تونس أيضاً مشاكل تتجاوز الأيديولوجيا والانقسامات السياسية مثل تدهور الاقتصاد، والانعدام المتزايد للأمن والحرب التي تقف على أعتابها.

وأخيراً، تجلب رئاسة باجي قائد السبسي الأمل لتونس، إلا أنّ أمامه العديد من المصاعب التي يتوجب التغلب عليها.