وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ترمب وتركيا والأكراد: أصدقاء مقربون وألدّ الأعداء

Specials- Manbij
مركبات عسكرية أمريكية تعبر حاجزاً لقوات الأمن الداخلي في منبج أثناء توجهها إلى قاعدتها على مشارف المدينة السورية الشمالية في 30 ديسمبر 2018. Photo AFP

بواحدةٍ من تغريداته التي أساءت لسمعة إدارته، أعاد الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، إشعال التوترات في الشرق الأوسط وأعاد تصدر العلاقات الأمريكية الكردية لعناوين الأخبار الدولية.

فقد أعلن ترمب، عبر تغريدةٍ وفيديو نُشر في ديسمبر 2018، إنسحاب القوات الأمريكية من سوريا، مُنهياً إنتشاراً يدعم القوات التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بقيادة الأكراد. فقد زودت الولايات المتحدة الأمريكية قوات سوريا الديمقراطية بميزاتٍ مهمة، بما في ذلك الضربات الجوية والقوات الخاصة والمدفعية. ولم تساعد هذه الميزات قوات سوريا الديمقراطية في إبعاد داعش فحسب، بل ساهمت أيضاً بحمايتها من اعتداءات القوات السورية والروسية والتركية. ومع قرار ترمب، يبدو أن السياسة الأمريكية-السورية باتت في مهب الريح، ومعها ومستقبل الأكراد. وعلى نحوٍ مفهوم، لم يتقبل الأكراد في شمال سوريا هذا الإعلان.

أسبابهم وجيه لتساورهم الشكوك، فمنذ عقودٍ مضت، وضع المجتمع الكردي (لا سيما أكراد العراق)، ثقتهم، مراراً وتكراراً، بالصداقة والمُحاباة الأمريكية ليتم في النهاية تبديد آمالهم بمجرد ما أن أصبحت مصالحهم تخالف مصالح واشنطن. فبدايةً، شجع الرئيس جورج بوش الأكراد على الإنتفاض ضد صدام حسين، ليتركهم دون حمايةٍ من القوة العسكرية في بغداد. وبعد سنوات، أي في عام 2017، بعد قتال داعش بدعمٍ جوي أمريكي، رفضت الولايات المتحدة دعم الاستفتاء الكردي للإستقلال عن بغداد. بل إن أي انسحابٍ فوري للولايات المتحدة من سوريا سيشكل بالتأكيد خيانةً أخرى للأكراد.

لم يخفِ ترمب رغبته في سحب القوات الأمريكية من الصراعات في الخارج، ولا تُشكل رغبته في الوفاء بوعود حملته أي مفاجأة، فأسلوبه العدواني، الذي لا يُعبر عن أي ندمٍ في الحكم، يُماثل أسلوب نظيره التركي رجب طيب أردوغان، الذي لربما لعب دوراً في هذا القرار.

الأكراد: بيادق الشطرنج؟

في السنوات الأخيرة، عانت الولايات المتحدة من علاقةٍ ذات طابعٍ سيء مع تركيا، مع توتراتٍ نابعة من مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان في أعقاب محاولة الانقلاب في عام 2016 منذ حقبة أوباما، والاستبداد المتنامي لأردوغان، والاحتجاز الذي يبدو أن لا أساس له من الصحة لمواطنٍ أمريكي وعدة أشخاص آخرين من أصولٍ تركية، واحتجاز موظفين من القنصلية الأمريكية، ووجود المتهم الأول بالانقلاب الفاشل، فتح الله غولن، في الولايات المتحدة، ومحاكمة الرئيس التنفيذي لبنك خلق في نيويورك بتهمٍ تتعلق بتهربٍ تركي بملايين الدولارات من العقوبات الأمريكية على إيران.

وعلى الرغم من أن التوترات أخذت طابعاً أكثر صمتاً منذ إطلاق سراح أندرو برونسون، أحد المعتقلين الأمريكيين، إلا أنه لا تزال هناك مخاوف من أنّ سياسة أنقرة في سوريا وإصرار تركيا على شراء النظام الصاروخي الروسي من طراز إس 400، يعدّ انتهاكاً لاتفاقات حلف شمال الأطلسي (الناتو). لذا، كان من المفاجىء، بعض الشيء، لمراقبي تركيا أن يسمعوا أن قرار ترمب بالإنسحاب من سوريا جاء على ما يبدو خلال مكالمةٍ هاتفية مع أردوغان. عندما ضغط أردوغان على ترمب حول سياسة الولايات المتحدة في سوريا، ورد أن ترامب شكك في سبب بقاء القوات الأمريكية هناك على أي حال، حيث عرض على تركيا حكماً مجانياً في سوريا (وذلك ظاهرياً لإنهاء سيطرة داعش) كورقة مساومة – الذي يعدّ فوزاً كبيراً لأنقرة. من جهته، يشكل هذا الانسحاب منعطفاً للممارسات الأمريكية المتبعة في سوريا، وبالتحديد دعم الشركاء الأجانب لسحق داعش.

Syria US Military Zone AR3000
المصادر: Wikipedia, southfront.org, The Washington Institute for Near East Policy and The Middle East Eye. إضغط للتكبير. @Fanack ©Fanack CC BY 4.0

حربٌ كلامية

دون أدنى شك، أثلج قرار ترمب قلوب الإدارة التركية، حيث رحب أردوغان بهذه الخطوة وعرض السيطرة على الأمن في منبج، إحدى المدن الرئيسية في سوريا التي يسيطر عليها الأكراد. وعلى نطاقٍ أوسع، وعدت تركيا منذ فترةٍ طويلة بتوسيع نطاق عملياتها ضد الجماعات الكردية في المنطقة الواقعة غرب الفرات إلى الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد شرق النهر. كانت العقبة الرئيسية أمام هذه الخطوة هي سلسلة المواقع الأمامية الأمريكية في المناطق الكردية، مما حدد خطوطاُ حمر أمام تركيا. وحتى إن أصبح التعاون التركي-الأمريكي أكثر وديةً في الأشهر الأخيرة، حتى مع خروج دورياتٍ مشتركة تجوب أطراف المناطق الكردية، فإن الحكومة التركية لا تزال تتطلع بشدة إلى فرصةٍ لتحييد التهديد الكردي على طول حدودها الجنوبية. فتركيا تعتبر ميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية- السورية كياناً تابعاً لحزب العمال الكردستاني، المتمردون الأكراد الذين يشنون حرب عصاباتٍ ضعيفة نوعاً ما في تركيا منذ عقود.

ونتيجةً لذلك، رد ترمب على أنقرة، ووعد “بتدمير” اقتصاد تركيا إذا ما قامت بمهاجمة الأكراد السوريين. وعلى نحوٍ مفهوم، انفجر الأتراك غضباً، حيث اتهم زعيم المعارضة التركية الولايات المتحدة بالتصرف كأولاد المدارس “المتنمرين.” واعتباراً من أوائل عام 2019، لم يتحرك الأتراك مرةً أخرى داخل الشمال السوري، ولا شك أنهم ينتظرون معرفة متى أو ما إذا كان انسحاب الولايات المتحدة سيتم. ومع ذلك، من سخرية القدر، وفي نفس تغريدة تهديده بالدمار الاقتصادي لتركيا، أشار ترمب، على نحوٍ غامض، إلى “منطقة آمنة لمسافة 20 ميل” التي اقترحتها أنقرة لسنوات والتي دفع أردوغان مرةً أخرى لفرضها في يناير.

السؤال الحقيقي

إلا أن السؤال الحقيقي المطروح هو، ماذا سيفعل الأكراد؟ بدايةً، وبعد تغريدة ترمب بالإنسحاب الأمريكي، بدا أن تحالف قوات سوريا الديمقراطية مع نظام بشار الأسد وروسيا أمراً مرجحاً. فقد كانت هناك مؤشراتٌ مبكرة على تواصل قوات سوريا الديمقراطية مع كلا الطرفين والاحتجاج على الخطوة الأمريكية. وفي غضون أيام، كانت القوات الموالية للأسد تتحرك باتجاه مناطق كانت تهيمن عليها قوات سوريا الديمقراطية. ومن الجدير بالذكر أنه سبق وتحالف الأكراد مع الأسد، فخلال معركة تحرير وحصار حلب، احتفظ الأكراد بالسيطرة على حي مركزي في المدينة، وعندما سقطت المدينة أخيراً، سُمح لقوات الأسد بالمرور عبر المناطق الكردية لمهاجمة المتمردين السوريين من الخلف. وعلى نحوٍ مماثل، وخلال العديد من مراحل الحرب، عاشت القوات الكردية والموالية للأسد جنباً إلى جنب في محافظة الحسكة. ويبدو أن الأسد قد سمح بهذا الحكم الذاتي الكردي كوسيلةٍ لتجنب إضافة جماعةٍ أخرى إلى القائمة الطويلة من معارضي النظام.

إنقطاع الأخبار مبشرٌ بالخير؟

ومع ذلك، وبمجرد إنطلاق صافرة الإنذار في أرجاء الطيف السياسي الأمريكي في أعقاب قرار ترمب، وتخفيف حدة ما بدا في بادىء الأمر انسحابٌ فوري، يبدو أنه تم تعليق النأي الكردي بالنفس عن أمريكا. ومع ذلك، تشبث ترمب برأيه، بالرغم من استقالة وزير دفاعه، الجنرال السابق جيم ماتيس.

ولأسباب واضحة، يُفضل الأكراد المحاباة الأمريكية على الروسية أو السورية. فقد رأى الأكراد في سوريا بالفعل كيف أن أكراد العراق يلوذون بالحكم الذاتي ويستفيدون من الاستقلال، على أرض الواقع، عن طريق استخدام القوة العسكرية الأمريكية (والغربية) لحماية أنفسهم من انتهاكات عهد صدام، وكذلك لعزل أنفسهم عن سيادة بغداد. وفي حين أن الولايات المتحدة قد رفضت أو لم تتمكن من تنفيذ منطقة حظر الطيران كما فعلت في العراق في التسعينيات، فإن وجود القوات الأمريكية شرقي الفرات أوقف حتى الآن القوات السورية أو الروسية من استعادة المنطقة في أيدي دمشق. ونتيجةً لذلك، تمكنت القوات الكردية من تحقيق منطقة حكمٍ ذاتي، تزخر بشكلٍ خاصٍ بالحكم، وبعلمها وباسمها.

إن الإنحياز إلى روسيا بشكلٍ وثيق الصلة يعني الإنحياز إلى الأسد، مما يستبعد على الأرجح إمكانية الحكم الذاتي في المستقبل. وعلاوةً على ذلك، أظهرت القوات الروسية استعداداً مباشراً لتحدي السيطرة الكردية على المناطق الغنية بالنفط في شمال شرق سوريا، الذي أوقفته فحسب قوة النيران الأمريكية. وفي الوقت الذي لا توجد فيه أي إشارةٌ إلى أن دمشق تضغط من أجل السيطرة على هذه المناطق التي يديرها الأكراد حتى الآن، فبمجرد أن يقوم الأسد (أو إذا ما نجح) بسحق المتمردين في إدلب، المعقل الرئيسي للمناهضين العرب للأسد، فمن المرجح أن يوجه اهتمامه نحو المناطق الكردية.

وعلاوةً على ذلك، أعاد مقتل أربعة جنودٍ أمريكيين في يناير الجاري بسبب هجومٍ انتحاري في منبج، الذي قامت به داعش على ما يبدو، تركيز اهتمام الولايات المتحدة على مهمتها في سوريا. وعلى الرغم من أن إعلان ترمب عن الاتجاه المستقبلي للسياسة الأمريكية في سوريا قد ألقي بظلالٍ جديدة من عدم اليقين على شمال البلاد، إلا أن الانسحاب كان حتى الآن، وإلى حدٍ كبير، مجرد حبرٍ على ورق.

وإلى حين اختفاء القوات من الميدان، قد لا يعني هذا “الإنسحاب” سوى تعقيداً آخر للحرب في سوريا.