وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ثورة تونس الثانية “كادت” تطرق الأبواب

Tunisia Revolutions wounded protesting Jan 2016 Fanack Corbis

تونسيون اُصيبو العام 2010 في الإحتجاجات التي اندلعت ضد الحكومة، يحيون الذكرى السنوية الخامسة للثورة في شارع الحبيب بو رقيبة في تونس. 14 يناير 2016، تونس العاصمة، تونس. Photo Chedly Ben Ibrahim/Corbis.

في مطلع يناير 2016، احتفلت تونس بالذكرى السنوية الخامسة على إنطلاق شرارة ثورتها الناجحة، ومع نهاية الشهر، كانت البلاد على شفا ثورة ثانية. وعلى الرغم من أنّ الأوضاع قد هدأت منذ ذلك الوقت، إلا أن الأسباب الجذرية لم تتلاشى بعد ولا يزال الخطر يحدق بالبلاد.

قد تأخذ الثورات في بعض الأحيان طابعاً عاطفياً، باستخدام شعاراتٍ مثل “سُلطة الشعب،” و”نداء من أجل الحرية،” ولكن الثورات الشعبية غالباً ما تتمحور بشكلٍ أكبر حول الاحتياجات اليومية، وعلى رأسها الاقتصادية. لذا، عندما خرج الشعب التونسي إلى الشوارع، محتشدين ضد الديكتاتور الذي جلس على عرشه لفترةٍ طويلة، كانوا بالتأكيد يدعون إلى الحرية، إلا أنهم كانوا يأملون، قبل كل شيء، تحسّن الظروف الاقتصادية، بما في ذلك الحصول على فرصٍ أفضل للعمل.

كانت غالبية المتظاهرين من فئة الشباب، ومعظمهم من طلاب الجامعات أو خريجيها، الذين سئموا من الوضع الاقتصادي غير القادر على تلبية تطلعاتهم. وقبل عام 2010، أنفق أمثال هؤلاء الشباب جميع مدخراتهم على القوارب الصغيرة للعبور إلى أوروبا، وإن لم ينتهي بهم الأمر كطعامٍ للأسماك، كانوا يواجهون خطر الاعتقال والترحيل ومن ثم إلقاء القبض عليهم مجدداً عند عودتهم إلى ديارهم، وبمجرد الإفراج عنهم، كانوا يعاودون رحلتهم مراراً وتكراراً.

الربيع العربي، الذي بدأ في تونس في ديسمبر 2010، منح الشباب التونسي فرصة التعبير عن مشاعرهم، فقد تمكنوا من الإطاحة بديكتاتور وجزء من نظام يُرمز إليه بجهاز الشرطة القوي وجيلٍ أقدم من النخبة السياسية، إلا أنّ الشباب لم يتمكنوا من توفير بديل، ولم يكن النظام القديم راغباً، ببساطة، التواري خلف الأنظار. أعادت الدولة هيكلة نفسها، وعادت النخبة الحاكمة السابقة إلى الواجهة، واستأنفت الشرطة أساليبها القمعية.

وعلى مر السنين، ففي حين نُظمت الانتخابات الديمقراطية وتم استبدال القادة سلمياً، كان الشباب منعزلين على نحوٍ متزايد عن العملية السياسية. وفي ضوء ذلك، تلاشت، تدريجياً، قوة الإندفاع الأولية للحنين الوطني والرغبة في المشاركة بالحياة العامة. فقد امتنع الشباب بأعدادٍ كبيرة عن المشاركة في الانتخابات الدستورية عام 2011، وبأعدادٍ أكبر في الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2014. فيبدو أن نجاح الربيع العربي لم يعد بالفائدة على أبطاله.

هؤلاء الشباب، الذين شعروا باستبعادهم من الحياة العامة وبانفصالهم عن الدولة التي لطالما ساووها بالنظام الفاسد والوحشي، واصلوا محاولاتهم الوصول إلى أوروبا. وآخرون، اتبعوا تقليداً قديماً بالتوجه شرقاً للمشاركة في الحروب التي لا يبدو أن لها نهاية في المنطقة، ليسافروا بآلاف إلى كلٍ من سوريا والعراق للإنضمام إلى الجماعات المتطرفة التي تقاتل من أجل إقامة دولة إسلامية على أنقاض الدول القومية ما بعد الاستعمار في منطقة الشرق الأوسط.

ولكن معظمهم، مئات الآلاف، بقوا في تونس. فأولئك الذين يعيشون في المناطق المهمشة في الشمال الغربي والجنوب يعايشون اضطرابات مستمرة على مدى السنوات الخمس الماضية. فقد شعر أولئك الذين يشكون من انعدام التنمية والاستثمار المباشر، بأنه قد تم التخلي عنهم، وباتوا طي النسيان، وتم إهمالهم، مُطليقن على طريقة تعامل السُلطات معهم بـ”الهُجرة” (وتعني القمع). توّقع معظم الشعب أن توفر الدولة فرص العمل، فقد كان هذا الدافع وراء غالبية مظاهراتهم، إذ كانت تحركاتهم موضع إنتقاءٍ من قِبل الأحزاب السياسية التي حاولت باستمرار تحويل احباطهم من الوضع الاقتصادي إلى مطالب سياسية.

ولاية سيدي بوزيد عام 2011، وسليانة عام 2012، وقفصة عام 2013، وقابس في عام 2014- هذه ليست سوى فيضٍ من غيض. ودائماً ما كانت علامات التحذير حاضرة، وبصرف النظر عن محاولات محدودة على المدى القصير في عامي 2011 و 2012، إلا أنّ أياً من الحكومات كانت قادرة على تقديم حلول ملموسة للجماهير الغاضبة. فقد تلقى التونسيون وعوداً من سياسيين يطمحون ليتم انتخابهم فقط، إذ كان سقف توقعاتهم مرتفعاً، فضلاً عن سماعهم قصصاً عن نجاح الثورة التونسية، إلا أنهم لم يشهدوا أي تحسّن في جودة حياتهم.

وفي عام 2015، وعلى الرغم من أنّ البلاد شهدت التدشين الرسمي للديمقراطية في تونس وإنهاء حقبة الانتقال السياسي، إلا أنّ ذلك العام أيضاً توّج أقسى الأزمات الاقتصادية التي تعيشها تونس. يرتبط اقتصاد البلاد باقتصادات الإتحاد الأوروبي وليبيا، ومع تفاقم الأزمة في أوروبا، ومع إنهيار ليبيا وانخفاض انتاجها من النفط، اختنقت تونس. فقد قتل الإرهاب قطاع السياحة في تونس، الذي يمثل نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وعلاوة على ذلك، وبسبب انعدام الأمن وعدم الاستقرار في المنطقة، يُفضل المستثمرون المحليون والأجانب البحث في أي مكان آخر، بشكلٍ أساسي في المغرب والإمارات العربية المتحدة.

غضب الشباب، وسقف التوقعات المرتفع، وضعف القيادة، والأزمة الاقتصادية، شكلت جميعها مكونات إندلاع ثورة ثانية. ومع حلول فصل الشتاء، حذّر الكثيرون من أنّ الوضع قابلٌ للإنفجار، فالشتاء موسم الاضطرابات الاجتماعية في تونس، حيث تؤثر الأجواء الباردة على الأُسر الفقيرة وتؤجج إستيائهم. عندما توفي رضا يحياوي، أحد المتظاهرين الشباب في مدينة القصرين (شمال غرب تونس) خلال أعمال الشغب في حادث، وليس في هجوم للشرطة، انتشرت الثورة.

شكلت وفاة يحياوي، في 16 من يناير، بداية الاحتجاجات التي عمت أجزاء واسعة من تونس، ووصلت العاصمة أيضاً.

وقد حاولت بعض الأحزاب السياسية استغلال الوضع، إلا أنها حققت نجاحاً محدوداً، فقد شعر المتظاهرون أن السياسيين خذلوهم، ورفضوا إدراج شعارات سياسية في احتجاجاتهم. كما حاولت الجماعات المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش،” السيطرة على الحركة، إلا أنه تم تجاهلهم إلى حدٍ كبير. الاتحاد العام التونسي للتجارة، وهو اتحاد للنقابات المهنية يتمتع بقوة كبيرة، اتخذ موقفاً محايداً، مما سمح لهم بالتفاوض مع القطاعين العام والخاص.

أعلنت الحكومة عدة تدابيرعاجلة لتهدئة المحتجين، في حين لجأت الشرطة إلى الحدّ من التدابير القسرية واتجهت صوب الحوار والمفاوضات. ومن الواضح أن الدولة بدأت تُنصت إلى شعبها. كان هذا أعظم إنجاز للربيع العربي: الشعب ينطق ويُطالب بحقوقه، والمسؤولون يستجيبون. توقفت الحركة، وعادت الحياة إلى طبيعتها في معظم المدن التونسية، بصرف النظر عن بعض الأحداث المتفرقة.

لكن إلى متى سيستمر هذا الهدوء؟ ماذا سيحدث بعد الاغتيال السياسي أو الهجوم الإرهابي المُقبل؟ إلى أين تتجه تونس ما لم تتوقف الأزمة الاقتصادية؟ لا تزال هذه الأسئلة معلقة، تماماً مثل الوضع في البلاد، بعد أكثر من خمس سنوات على الربيع العربي.

user placeholder
written by
telesto
المزيد telesto articles