وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الدستور التونسي الجديد والخوف من عودة الاستبداد

الدستور التونسي الجديد
المتظاهرون التونسيون يرددون هتافات ضد الرئيس قيس سعيد والاستفتاء الدستوري المقبل المقرر إجراؤه في 25 يوليو. فتحي بلعيد / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

لن تذهب غالية بن مبارك للإدلاء بصوتها في الاستفتاء على دستور تونس الجديد المقرر إجراؤه يوم 25 يوليو 2022.

وتخشى الصحفية البالغة من العمر 27 عامًا أن يُمرّر الدستور بأغلبية ساحقة بعدما اطّلعت على مسوّدته.

وقالت: “للرئيس تأثير كبير على الناس بسبب خطابه الشعبويّ وإشارته المتكررة إلى القادة السياسيين الفَشَلة. أكثر ما يؤرقني حاليًا هو ضعف استجابة الشارع”.

وبعدما أعلن الرئيس قيس سعيّد أواخر يونيو الماضي عن موعد الاستفتاء الدستوري، خرج مئات التونسيين إلى الشوارع احتجاجًا على ما اعتبروه محاولة لتوطيد السلطة.

لكن شوارع تونس خلت من مثل هذه التحركات منذ بضعة أسابيع. وقالت بن مبارك إن المعارضة “المفككة” التي تتكون في معظمها من المجتمع المدني والنشطاء الحقوقيين والصحفيين والأحزاب السياسية قد أجرت بعض اللقاءات المتفرقة ودعت إلى الحشد ضد هذه التطورات السياسية الأخيرة، لكنها فشلت في جذب الرأي العام إلى صفها.

وأضافت: “تحركات المعارضة العشوائية وضعف منطقها وتواصلها مع الشارع خلق حاجزًا  بينها وبين عامة الناس، فانصرفوا عن خطاباتها وتراجعت ثقتهم  بمواقفها”.

ونتيجةً لذلك، بادر سعيّد باقتراح دستور جديد يمنحه سلطات واسعة ويضعف سلطة رئيس الوزراء، ويحدّ من صلاحيات البرلمان. ويرى محللون اجتماعيون ومتابعو الشأن التونسي أنّ مثل ذلك النظام يُعزز الاستبداد ويقوض مكاسب الربيع العربي.

شرارة الربيع العربي

أشعلت تونس شرارة الربيع العربي بعد الاحتجاجات الشعبية المتلاحقة عام 2011.

وقد بدأت الاحتجاجات بعدما أشعل البائع الجائل الشاب محمد بوعزيزي النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في وسط تونس في 17 ديسمبر عام 2010، وقد أقدم على ذلك احتجاجًا على ما تعرّض له من مضايقات وترهيب من الشرطة.

وقد أدت وفاة  بوعزيزي في 4 يناير 2011 إلى اندلاع تحركّات واسعة في البلاد احتجاجًا على الوضع الاقتصادي المتردي، وطغيان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وأفضى ذلك إلى إنهاء حكمه الذي دام 23 عامًا  في 10 أيام فقط.

ورغم فشل ثورات عديدة في المنطقة وعجزها عن تحقيق الديمقراطية في بلاد ذات أنظمة راسخة وقوية لا تتردد في استخدام القمع الوحشي ضد المحتجين، احتفى الناس بتونس باعتبارها التجربة الناجحة الوحيدة.

وقد شهد العقد التالي انتخابات أكثر عدلًا، وسُمح بحرية التعبير، وأُقرّ دستور جديد. لكن ذلك كله لم يلبِّ تطلعات الناس ورغبتهم في إصلاحات سياسية واقتصادية كانت هي بالأساس سبب احتجاجات عام 2011.

وقالت بن مبارك: “لا أرى أن تونس قد صارت دولة ديمقراطية. فما زال السعي إلى ذلك الهدف مستمرًا منذ 2011. وصحيح أن الشعب التونسي اكتسب حرية عظيمة كانت بعيدة المنال عنه فيما مضى، لكن الرحلة ما تزال طويلة”.

وبعد عامين من أول انتخابات رئاسية نزيهة في البلاد عام 2013، كان 71% من التونسيين يرون أن “الديمقراطية أفضل نظام سياسي”. وفي غضون خمس سنوات، انخفضت هذه النسبة إلى 46%.

وقد انقلب تفاؤل المواطنين بالحكومة المنتخبة ديمقراطيًا إلى شك كبير بسبب انتشار الفساد وارتفاع معدلات البطالة والفقر.

وصول قيس سعيّد

وصل الأكاديميّ المتقاعد قيس سعيّد، البالغ من العمر 61 عامًا،  إلى السلطة عام 2019 بعد فوز ساحق في الانتخابات الرئاسية بنسبة 73% من الأصوات.

وذكر تقرير لرويترز في ذلك الحين أن الناخبين أُعجبوا بسمعة سعيّد ورأوا أنه “بعيد عن الفساد”.

وقالت بن مبارك: “خاب أمل الناس بعد الثورة في السياسيين الديمقراطيين وقدرتهم على حلّ مشكلات البلاد. ثمّ ظهر سعيّد غريبًا عن المشهد السياسي، بلا ماضٍ يشوبه الفساد، وبدا قادرًا على تقديم بدائل”.

ولم يفِ الرئيس السابق، الباجي قائد السبسي، بوعود الثورة الإقتصادية بعدما تولى منصبه عام 2014.

ويذكر مقال نُشر في نيويورك تايمز أن التطورات السياسية بعد الثورة تمخضت عن مأزق في النظام البرلماني، إذ كانت تتغير الحكومات كل عام حتى إنها تغيرت ثلاث مرات في الأشهر الاثني عشر الماضية. ولم تحظ الأحزاب السياسية التي يقودها نخب من رجال الأعمال بقبول الشعب ورضاه.

ويُضاف إلى ذلك أن قوى المعارضة المؤثرة، مثل حزب النهضة الإسلامي الذي حصل على الغالبية  في البرلمان عام 2021، قد فقد كثيرًا من شعبيته مع مرور الوقت. وترتب على ذلك أنْ قلّت ثقة الناس “بالمعارضة الديمقراطية”.

وبلغ رفض الناس الحكومة ذروته أثناء انتشار فيروس كورونا، خلال الصيف الماضي، عندما اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين الذين أضرموا النار في مقر حركة النهضة وطالبوا الحكومة بالتنحي.

وأعقبت ذلك اعتقالات تعسفية بحقّ خصوم سعيّد، وأُجريت محاكمات المدنيين أمام المحاكم العسكرية.

نظرة إلى الماضي

لم يتفاجأ المحللون السياسيون بتعديل سعيّد الدستور، فقد كشف الرئيس التونسي عن المسودة الأولى بعد عام من إقالته الحكومة وتعليق عمل البرلمان.

رأى الرئيس أن تلك الخطوة ضرورية “لإنقاذ البلاد”. ولكن المخاوف قد تزايدت من العودة إلى الاستبداد.

وقال الصادق بلعيد، الخبير القانوني ورئيس لجنة صياغة الدستور الجديد، إن النص المنشور “لا علاقة له بالنص الذي صاغته اللجنة وقدّمته إلى الرئيس”.

وجدير بالذكر أن المسودة الجديدة لا تضمن استقلال القضاء، وأنها ألغت المواد التي تحدد الآليات الضرورية لمحاسبة السلطات. كما أُلغيت المادة 96 التي تحمي حقوق الإنسان في ظل حالة الطوارئ. كما نصت المادة الخامسة على أن “تونس جزء من الأمّة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل، في ظلّ نظام ديمقراطي، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية”.

وقالت سارة يركيس، الزميلة في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط، في حديثها إلى فنك إن سعيّد استغل الانهيار الاقتصادي في البلاد لتوطيد سلطته وتشكيل واقع سياسي يتناسب مع أفكاره، وانشغل عن إنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي.

وأضافت: “لم يكن سعيّد قط من الشخصيات الثورية التي دعت إلى المظاهرات عام 2011، وهو يؤمن بنظام الحكم الفردي ليكون هو وحده المتحكم في السلطة. ولذلك، ربما تكون حرية الصحافة والتعبير عن الرأي التي وُلدت مع الثورة في خطر عقب تمرير الدستور الجديد”.

وقد دعت جبهة الخلاص الوطني المؤلّفة من خمسة أحزاب سياسية منها حركة النهضة إلى مقاطعة الاستفتاء. وترى يركيس أن تلك الجهود لن يكون لها تأثير كبير على النتائج المحتملة.

مستقبل مجهول

ويرى المحللون أن دعم الرئيس التونسي شعبيًا في تراجع منذ أن استبد بالحكم، ما قد يؤدي إلى ردّة فعل إنتقامية من قبله.

وترى انتصار فقير، كبيرة الباحثين ومديرة برنامج شمال إفريقيا والساحل في معهد الشرق الأوسط، أن مخاوف الناس من تحولات النظام السياسي الجديد قد تراجعت بسبب انشغالهم بأحوال الاقتصاد وخيبة أملهم من تجربة البرلمان السابقة.

وقالت فقير: “لا أستبعد الآثار المحتملة لاحتشاد الناس ضد تطورات المشهد السياسي، ولكني لا أعرف مدى إمكانية تحقيق ذلك وحجم أثره”.

وحددت فقير ثلاثة عوامل قادرة أن تتحكم في نتيجة استفتاء 25 يوليو القادم؛ وهي الجماعات التي تخطط للحشد ودرجة تأثيرها، ودعوات المقاطعة التي قد تطعن في شرعية الاستفتاء، في حال أقبل أنصار سعيّد وحدهم على الاستفتاء، بالإضافة إلى الشكوك في نزاهة عملية الاقتراع نفسها.

وترى فقير أن وضع البلاد الحالي يُشبه ما كانت عليه الأمور أيام الثورة.

وأضافت فقير: “التونسيون محبطون ويبدو أنهم يئسوا من تحقيق نتائج ملموسة تُصحح أخطاء العقد الماضي. ولذلك، فإن استيعاب وفهم رهان سعيّد الخطير لا يُقلل من خطورة شعور التونسيين بالإحباط ويأسهم من التغيير”.

وعن التداعيات الإقليمية، ترى يركيس أن تراجع الديمقراطية يؤزم العلاقات مع المجتمع الدولي الذي قد يتردد في مساعدة تونس.

ترى فقير أن خطاب سعيّد الإسلامي ليس إلا محاولة شعبوية لإضفاء الشرعية على آرائه في الدستور ونظرته المستقبلية له.

وتتفق الباحثتان على أن وضع الديمقراطية التونسية حاليًا يمثل تراجعًا خطيرًا في رحلة تونس إلى التغيير، لكنه ليس نهاية المطاف.

وأضافت يركيس: “يدرك التونسيون ما يجري، وهم قادرون على التعبير عن مطالبهم. وأرى أن كثيرًا من الناس يسعون إلى الديمقراطية ولن يتنازلوا عنها. لن نعرف ما الذي سيحدث في المستقبل، لكن التونسيين لديهم القدرة على تغيير المشهد السياسي”.