وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تركيا: عودة الحرب مع الأكراد

demonstration in Ankara against suicide bombing in Suruc
الشرطة التركية تدفع متظاهرين خرجوا لإدانة التفجير الانتحاري الذي ادعى “تنظيم الدولة” المسؤولية عنه في سروج, أنقرة, تركيا, 20 يولبو 2015. Photo Corbis

انتهت عملية السلام بين حزب العمال الكردستاني المسلح (PKK) والدولة التركية، بما في ذلك وقف إطلاق النار الذي استمر لمدة عامين ونصف العام.

بدأ الأمر برمته بتفجير انتحاري في بلدة سروج يوم 20 يوليو 2015، والذي أسفر عن مقتل 32 من الناشطين الأكراد والأتراك الذين كانوا يرغبون في المساعدة لإعادة بناء مدينة كوباني السورية التي تقع في المنطقة الحدودية مع تركيا. مما دفع حزب العمال الكردستاني إلى الرد باغتيال اثنين من رجال الشرطة، فكيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟

منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا في مارس 2011، كانت الحكومة التركية منفتحة حول أهداف السياسة السورية: لا بد من إبعاد الرئيس بشار الأسد عن السلطة، ومنع الأكراد السوريين من التمتع بحكم ذاتي.

وهذه هي أسباب مشاركة تركيا الفاترة في التحالف الدولي (الذي تعدّ عضواً فيه) ضد المتطرفين السُنة التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش.” وبالتالي، تعتبر القوات الكردية التابعة لأكراد سوريا، وحدات حماية الشعب (YPG)، والتي كانت تسعى لتأسيس حكم ذاتي والتي تخشاها تركيا منذ انسحاب قوات الأسد من المناطق ذات الأغلبية الكردية للتركيز على الصراعات في أماكن أخرى في البلاد صيف عام 2012، القوات البرية الأكثر فعالية في محاربة تنظيم الدولة: كلما حاربت تركيا بقوة تنظيم الدولة، كلما اشتد عود الأكراد.

وبالنسبة للحكومة التركية، تردت الأوضاع في منتصف الطريق في يونيو 2015، عندما استعادت وحدات حماية الشعب السيطرة على بلدة تل أبيض الحدودية من قبضة “داعش.” وبهذا النصر، تمكن الأكراد من ربط مقاطعتين كرديتين، مقاطعة الجزيرة على الحدود مع كردستان العراق، وبلدة كوباني والمناطق المحيطة بها التي نجحت في الدفاع عن مواطنيها ضد حصار “داعش” بداية عام 2015. وتتمثل أكبر مخاوف تركيا بتمكن وحدات حماية الشعب الكردية من ربط المقاطعة الكردية الثالثة، عفرين غرباً إلى مقاطعة الجزيرة وكوباني. وهذا يعني أنّ المنطقة بأكملها، أي شمال سوريا على الحدود مع تركيا ستصبح في أيدي الحكم الذاتي الكردي.

لماذا تنظر تركيا إلى جارتها وحدات حماية الشعب الكردية باعتبارها تهديداً أكبر من وجود “داعش” على حدودها؟ تتبع وحدات حماية الشعب الكردية بشكلٍ مباشر حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي يخوض حرباً مع الدولة التركية منذ عام 1984. وفي أواخر عام 2012، تم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي. وكان من المفترض أن يؤدي وقف إطلاق النار إلى عملية ديمقراطية لحل القضية الكردية في تركيا، ولكن لم يتم تحقيق سوى القليل: فعلى سبيل المثال، لم تسفر وعود الدستور الجديد عن أي شيء. وعلى الرغم من امتناع الدولة عن قتل مقاتلي حزب العمال الكردستاني، إلا أن عشرات المدنيين قد قتلوا على أيدي الجيش والشرطة العسكرية والمدنية خلال عدة مظاهرات واشتباكات.

كانت تركيا تتوقع انتهاء الهدنة، التي كانت هشة منذ شهور. تخيلوا وجود منطقة حكم ذاتي كردي تغطي المنطقة الحدودية التركية برمتها على الجانب السوري، محمية عسكرياً من قِبل القوات التابعة لحزب العمال الكردستاني: كابوس بالنسبة لتركيا، التي ستتوقع هجمات ليس فقط من جبال قنديل في إقليم كردستان العراق، حيث مقدسات حزب العمال الكردستاني، ولكن أيضاً من الكيان الكردي السوري.

البعض، بما في ذلك صالح مسلم، القيادي في حزب الاتحاد الديمقراطي (النظير السياسي لحدات حماية الشعب الكردية)، يقول أن تركيا ليس لديها ما تخشاه من الاكراد في كردستان السورية (غرب كردستان)، في زمن السلم أو في زمن الحرب. فالأكراد في سوريا مشغولون بتأسيس استقلاليتهم مما سيعرقل الجهود التي يبذلونها في حال التورط المباشر في الحرب بين حزب العمال الكردستاني وتركيا. وهم مشغولون بالكامل في محاربة “داعش” في معركة لا يبدو أنها ستنتهي في القريب العاجل. وأيضاً، فإن الحدود التركية السورية، على عكس الحدود التركية مع العراق، تتكون من سهول مستوية، مما يجعل تسلل العصابات إلى تركيا أمراً غير ممكن.

وفي نهاية يونيو، عُقد مجلس الأمن القومي التركي، الذي يتكون من أعضاء من أعلى المراتب العسكرية، والرئيس أردوغان، ورئيس الوزراء داود أوغلو، وعدد من الوزراء في أنقرة. تسبب هذا بتكهنات انتشرت كالنار في الهشيم في وسائل الإعلام التركية بشأن هجوم مرتقب للجيش التركي في سوريا. ففي نهاية المطاف، استيلاء وحدات حماية الشعب الكردية على تل أبيض يعارض مصالح تركيا، كما أن أنقرة كانت تواصل مناشداتها للمجتمع الدولي، التي بدأتها منذ سنوات طويلة، لإنشاء منطقة عازلة في شمال سوريا.

ولكن ما أغفلت عنه وسائل الإعلام أن مجلس الأمن القومي التركي كان يعقِد اجتماعاً اعتيادياً كما هو مقرر كل شهرين، والذي يُقام عادةً في نهاية يونيو، وليس اجتماعاً مستعجلاً. والأهم من ذلك، فشلت وسائل الإعلام في تبصّر الوضع، إذ لن يحقق الغزو، الذي من المؤكد سيتم دون موافقة الولايات المتحدة، أي مكاسب لتركيا. وستدخل تركيا في حرب لن تتمكن من تخليص نفسها منها بهذه السهولة، حيث سيعود العديد من جنودها محملين بالأكفان، تماماً كما هو حال المقاتلين الأكراد، مما سيهدد بشكلٍ أكبر علاقة البلاد بالأكراد في الداخل. فضلاً عن ذلك، سيتدفق المزيد من اللاجئين إلى تركيا التي تؤوي بالفعل نحو مليوني لاجىء، الذين لم يعودوا موضع ترحيبٍ في العديد من المدن التركية.

قتل عصفورين بحجر واحد

ومع ذلك، قامت تركيا بالفعل بنشر المزيد من القوات العسكرية على الحدود السورية، مما ضاعف حماسة الصحافة التركية. ولكن الوجود العسكري المكثف يناسب تماماً ما تريد أنقرة فعله: فقد ضغط على الولايات المتحدة والأكراد في سوريا لفعل ما لم تستطع تركيا فعله على أرض الواقع: وقف زحف وحدات حماية الشعب الكردية غرباً. وعلى الرغم من أنّ الأنباء غير مؤكدة، ولكن على ما يبدو هناك صفقة وراء الكواليس بين وحدات حماية الشعب الكردية والولايات المتحدة الأمريكية. وكما يُزعم، وعدت وحدات حماية الشعب الكردية بعدم عبور نهر الفرات، في حين يبدو أن الولايات المتحدة وافقت على وقف قصف مواقع “داعش” في المنطقة الواقعة بين مقاطعتي كوباني وعفرين، والتي بدأت حول منطقة جرابلس بعد أن نفذت “داعش” هجوماً واسع النطاق على كوباني في 25 يونيو.

ولم يتم تأكيد مثل هذا الاتفاق، كما أنه لن يكون ضرورياً لحماية مصالح تركيا. وفي الوقت الراهن، وصل الأكراد حدود قدراتهم العسكرية ولن يتمكنوا من ربط مقاطعة عفرين بأي من المقاطعتين الكرديتين بأي حال من الأحوال. ودون وجود القوات الكردية على الأرض، لا جدوى من قصف القوات الأمريكية لمنطقة جرابلس وغيرها من المدن في الشمال.
وبالتالي، ضربت تركيا عصفورين بحجرٍ واحد بتكثيف وجودها العسكري على الحدود، إذ يمثل هذا عامل ضغط على عدوها (وحدات حماية الشعب الكردي) وحليفهم الولايات المتحدة، فضلاً عن استعراضهم في حال توجيه انتقادات للحكومة لفشلها في أخذ تهديدات “داعش” على محمل الجد (من المفترض أن يؤمن الجيش الحدود).

كما منحت هذه التطورات تركيا الفرصة لاتخاذ اجراءات صارمة ضد حزب العمال الكردستاني. فقد ثأرت تركيا لعمليات القتل الانتقامية من قِبل حزب العمال الكردستاني بعمليات قصف ضخمة لمعسكرات حزب العمال الكردستاني شمال العراق. وبالتالي، يمكن لتركيا فعل ذلك دون أن تخشى انتقادات حلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وقد يعتبر هؤلاء الحلفاء مثل هذا التصرف ضاراً لتعاونهم مع وحدات حماية الشعب الكردية ضد “داعش،” إلا أن أيديهم مكبلة بسبب حقيقة أنّ حزب العمال الكردستاني مدرج على قائمة المنظمات الإرهابية ليس فقط من قِبل تركيا، بل أيضاً من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. إذاً، كيف لهم أن ينكروا حق تركيا في محاربة الإرهاب؟

يقول البعض أنّ مذبحة سروج كانت المحرك الرئيسي لإنضمام تركيا بجدية إلى التحالف الدولي ضد “داعش،” ولكن الحقيقة مغايرة لذلك، إذ لم تعلن تركيا الحداد الوطني، حتى ليومٍ واحد، على مواطنيها الـ32 الذين قتلوا في التفجير. بل إنّ مقتل جندي تركي ما أدى ليس فقط إلى هجمات تركيا على “داعش” بل أيضاً إلى اندلاع المزيد من أعمال العنف داخل تركيا.

ويبقى أن نرى ما إذا كان، مع الإنتخابات الجديدة التي تلوح بالأفق، سيتمكن حزب العدالة والتنمية من استعادة الأغلبية في البرلمان التي يحتاجها لتغيير الدستور وتثبيت نظام رئاسي في البلاد بوجود أردوغان رئيساً للبلاد. ويعتقد البعض أنّ هذا هو الهدف الأساسي للحكومة، زيادة العنف، وتأطير حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) الموالي للأكراد ضمن قائمة “الإرهاب،” وإجباره على العودة تحت عتبة العشرة بالمئة الانتخابية في الانتخابات المبكرة المزمع عقدها في نوفمبر 2015.

عدم مبالاة! ربما، ولكن في نهاية المطاف يمثل هذا غالباً حال السياسة التركية.

user placeholder
written by
veronica
المزيد veronica articles