وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

صفقةٌ تجاوزت الحد المقبول: تداعي العلاقات التركية الأمريكية بسبب الصواريخ الروسية

Turkey- S-400 missile
طائرة شحن عسكرية روسية من طراز أنتونوف، تحمل على متنها منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400، تفرغ شحنتها بعد هبوطها في قاعدة مرتد الجوية العسكرية في أنقرة في 12 يوليو 2019. Photo: STRINGER / AFP

بعد سنواتٍ من تدهور العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، لربما يُمثل وصول النظام الصاروخي المضاد للطائرات، الروسي الصنع، من طراز إس- 400 إلى تركيا ذروة هذه التوترات.

فقد تم لأول مرة الإعلان عن احتمال شراء تركيا لأنظمة صواريخٍ روسية بقيمة 2,5 مليار دولار في أغسطس 2016، وذلك في ظل توتر العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بسبب سنواتٍ من العودة التدريجية نحو الحكم الاستبدادي التركي وعمليات التطهير الفورية التي أعقبت الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016. وفي أعقاب التغيير في السياسات الذي اتبعته إدارة أوباما، منذ عام 2016، اتخذت الولايات المتحدة نهجاً متفائلاً تجاه الرئيس أردوغان. وفي حين أن الرئيس ترمب عمد إلى استخدام خطابٍ أكثر لطفاً من سلفه، إلا أن المحاكم الأمريكية لا زالت تخوض في قضيةٍ شديدة الإرباك ضد المصرفيين الأتراك بتهمة التهرب من العقوبات، بالإضافة إلى انتقاده أنقرة بسبب استبدادها المتزايد. وفي خضم هذه الأحداث، ساهمت قصة بيع نظام إس 400 الصاروخي لتركيا في تفاقم سوء العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا.

لعبة دبلوماسية “من يجبُن أولاً”

منذ البداية، اتخذت واشنطن موقفاً جاداً لما اعتبرته خدعةً تركية لمواجهة الضغط الدبلوماسي والاقتصادي الأمريكي. فتركيا عضوٌ منذ فترةٍ طويلة في حلف الناتو وكانت حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة في الكثير من مشاركتها التاريخية داخل الشرق الأوسط. مكّن هذا الوضع تركيا من الانضمام إلى القائمة الحصرية للدول القادرة على شراء سلسلة الطائرات إف-35 أمريكية الصنع، التي تعتبر على نطاقٍ واسع أكثر الطائرات تطوراً في جيلها. لا يوجد حتى الآن أي طائرةٍ أخرى متعددة الأدوار تتمتع بقدراتٍ مماثلة على المراقبة والتخفي. وعليه، استخدمت الولايات المتحدة طائرات إف-35 كأداة ضغطٍ رئيسية لمنع الصفقة التركية الروسية. وبينما استمر تدريب الطيارين المستقبلين الأتراك لطائرات إف-35 في الولايات المتحدة مع استمرار المفاوضات، علّق تسليم الصواريخ الروسية المحادثات وتم سحب تركيا من برنامج طائرات إف-35. إن حقيقة تجديد الرئيس أردوغان لوعوده برؤية إتمام الصفقة الروسية من دون تأثيرٍ يذكر على سياسة الولايات المتحدة بشأن البرنامج، يدل على المدى الذي تعتبر فيه الجغرافيا السياسية اليوم مجرد حركاتٍ مسرحية. تم إبقاء حقيقة المواقف التفاوضية خلف أبوابٍ مغلقة، وحتى الزيارات رفيعة المستوى التي قام بها المسؤولون الأمريكيون لم تكن كافية لتحيد تركيا عن مسارها.

وفي حين كانت الولايات المتحدة حريصةً بشكلٍ واضح على منع أحد الحلفاء الرئيسيين من شراء مخزون عسكري من أحد خصومها الرئيسيين (لا سيما عندما كان بإمكان تركيا شراء نظام صواريخ باتريوت الأمريكي الأغلى ثمناً)، قدمت واشنطن عذراً مُجدياً وغير سياسي لمنع بيع طائرات إف-35. ربما يعتبر نظام الصواريخ إس-400 الأفضل من نوعه في العالم: فهو قادر على التعامل مع مجموعة متنوعة من التهديدات على مسافاتٍ طويلة. ومع ذلك، بمجرد أن يصبح جزءاً من الدفاعات الجوية التركية، فمن الممكن أن يتمتع النظام بفرصة واسعة لاستطلاع قدرات طائرات إف-35 أمريكية الصنع، أي الخصم الأكثر تبججاً في وجه النظام الصاروخي. إن المواصفات الدقيقة للطائرات مثل إف-35 هي أسرارٌ محمية بشكلٍ مريب، وبالتالي، لم تستبعد السلطات الأمريكية إمكانية قيام النظام الروسي بالتجسس على هذا الكنز الأمريكي الثمين، الذي كان قاب قوسين أو أدنى بأيدي الأتراك. ومن المثير للاهتمام أيضاً أنه يبدو أن المسؤولين الإسرائيليين مارسوا ضغوطاً على واشنطن لمنع الاستحواذ التركي على طائرات إف-35 بهدف الحفاظ على هيمنتهم الجوية الإقليمية.

وفي ظل عدم استعداد أي من الطرفين للتنازل أولاً في لعبة “من يجبُن أولاً” الدبلوماسية هذه، سُمح لعواقب التوترات الأمريكية التركية المتزايدة بالنمو إلى أن نفّذ الرئيس أردوغان تهديده بقبول تسلّم نظام الصواريخ، وفي هذه المرحلة قُضيّ الأمر. والآن، يواجه الرئيس ترمب خيار فرض العقوبات التي يدعمها الكونجرس على تركيا (المصممة لإعاقة المشتريات الأجنبية من المعدات العسكرية الروسية) أو المخاطرة بفقدان أي رادعٍ للدول الأخرى التي تتبع مسار تركيا. وبعد أن تمكنوا من إبداء رأيهم، سارع أعضاء الكونجرس الأمريكي إلى إدانة تركيا بعد تلقيها النظام الصاروخي

علاقاتٌ ودية

كان التحليل المشترك هو أن الصفقة الصاروخية لطالما اعتبرت خطوة تركية لتحظى بمسارٍ أكثر استقلالية عن حلف الناتو وخاصة الشراكة الأمريكية. ومما لا شك فيه أن ذلك يغذيه طموحات أردوغان باستعادة عظمة العثمانيين بطرازٍ جديد لتركيا: فقد تم تحقيق الكثير في العقد الماضي في ظل تحرك أنقرة بعيداً عن الغرب لتنمية العلاقات مع شركاء غير تقليديين. وعليه، كانت روسيا شخصيةً رئيسية في هذه الخطوة، بصلاتها الوثيقة في قطاعات السياحة والتجارة والطاقة مع تركيا.

وفي حين أن أهداف تركيا وروسيا في سوريا قد تكون متناقضة إلى حدٍ كبير، إلا أنهما وجدتا أرضيةً مشتركة بثقلهما المتشابه في تقرير نتائج الجغرافيا السياسية الإقليمية. فقد سعى كلاهما إلى القيام بدورٍ أكثر فاعلية في الشؤون الإقليمية في السنوات الأخيرة، الأمر الذي شهد انتكاساتٍ في بعض الأحيان، مثل إسقاط طائرةٍ حربية روسية من قبل الجيش التركي على الحدود السورية التركية في يونيو 2016. ومع ذلك، يبدو أن الوضع الراهن يشهد تعاوناً عملياً عندما يناسبهما ذلك، وذلك عموماً بهدف عدم التدخل بشؤون بعضهم البعض.

هذا التقارب المتجدد يظهر أيضاً في مجالاتٍ أخرى، فقد اكتشف ثلاثة صحفيين معارضين أجروا مقابلةً مع رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو (الذي يعد اليوم من منتقدي أردوغان) في أحد البرامج على موقع يوتيوب في يوليو، فيما بعد أن برامجهم مع موقع شبكة سبوتنيك باللغة التركية والمملوكة للدولة الروسية قد ألغيّ – إشارة على تزايد دفء العلاقات بين أنقرة وموسكو بعد شراء تركيا لنظام الدفاع الجوي الروسي إس-400.

سداد الدين

منذ تسليم الصواريخ، أصبح من الواضح أن عملية الشراء كانت في الواقع جزءاً من عملية تكريمٍ لروسيا لاسترضاء الصقور الروس بعد إسقاط الطائرة الروسية على أيدي القوات التركية في عام 2015 وتدهور العلاقات بين الدولتين. وكحال تركيا، عانت روسيا اقتصادياً من العقوبات الاقتصادية الأمريكية ويوفر شراء الأجهزة العسكرية هذه تدفقاً مهماً من العملات الأجنبية.

ومن خلال اختيار معداتٍ عسكرية غير غربية، يمكن لتركيا أن تتبع موقفاً جيوسياسياً أكثر براغماتية على غرار الهند، التي تربطها علاقاتٍ بالشرق والغرب على حد سواء دون أي ارتباطٍ أيديولوجي بأي منهما. يمكّن هذا الأتراك من القيام بعمليات شراءٍ لمعداتٍ عسكرية ذات مغزى سياسي واقتصادي.

اقترح بعض المحللين أيضاً أنه على الرغم من أن الصفقة خدمت العلاقات التركية الروسية والمصالح التركية الأوسع، فقد رأى الرئيس أردوغان أيضاً أهميةً مختلفة في عملية الشراء. فمنذ محاولة الانقلاب في عام 2016، التي شهدت تعقب طائرات المتمردين لطائرته وفشلهم في محاولة إرسال فريق إعدامٍ إلى الفندق الذي كان يقضي فيه عطلته، يبدو أنه لا يزال يشعر بالريبة من احتمال حدوث انقلابٍ في المستقبل، على الرغم من عمليات التطهير واسعة النطاق للمجتمع. وأثناء محاولة الانقلاب، قصف الطيارون المارقة البرلمان وهددوا المواقع في اسطنبول، ومن شأن نظامٍ جديد مضاد للطائرات يصل لمسافاتٍ بعيدة، تسيطر عليه قواتٍ موالية له، أن يضمن بقاء الرئيس أردوغان في مأمنٍ من أي تهديد مستقبلي من الجو.

بغض النظر عن الدافع وراء شراء منظومة إس 400، إلا أن تركيا أوضحت سعيها نحو سلوك مسارٍ جديد: بعيداً عن الحلفاء الغربيين السابقين وإلى منطقةٍ غير معروفة، متحررةً من عبء التحالفات السابقة. الأمر المؤكد هو أن المسؤولين الأمريكيين أساءوا تقدير تحركات تركيا في هذه المسألة باعتبارها مجرد خدعة، عندما كان من الواضح أن البلاد، ومنذ الأيام الأولى، ملتزمة حقاً بإتمام الصفقة. ربما تكون النتيجة هي المسمار الأخير في نعش العلاقات الجيدة بين الولايات المتحدة وتركيا. وعلى الرغم من استمرار الصفقات العسكرية الأمريكية الأخرى مع تركيا، إلا أنه تم استبعاد تركيا من قائمة أبرز حلفاء الولايات المتحدة، فقد تم عزلها، بيد أنه لم يتم استبعادها بالكامل.