وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العلاقات التركية الاسرائيلية: لمَ العداء ليس خياراً

Erdogan-shake-hands-with-Israeli-Ambassador-Eitan-Naeh
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يصافح السفير الإسرائيلي الجديد إيتان نائية بعد ان قدم له أوراق اعتماده، أنقرة، تركيا، الإثنين 5 ديسمبر 2016. Photo AP

شهدت السنوات الخمس عشرة الماضية عدداً من الإضطرابات في توازن السُلطة الدقيق الذي يقود الشرق الأوسط. فقد حظيت الحرب في سوريا والربيع العربي والتنافس السعودي الإيراني بحصة الأسد من الاهتمام الدولي. ومع ذلك، لعبت أيضاً العلاقات المتزعزعة بين تركيا وإسرائيل، التي تضررت إلى حدٍ لا يمكن تصوره قبل 20 عاماً، دوراً هاماً ولكن خفياً في تشكيل الجغرافية السياسية الإقليمية.

ففي ديسمبر 2016، تبادلت أنقرة وتل أبيب السفراء، لتعود العلاقات إلى طبيعتها بعد خمس سنواتٍ من العداء الدبلوماسي. ولكن، ما الأمر الذي كان وراء هذا التعطيل والتقارب اللاحق بين الدولتين؟ وما الذي يعكسه هذا عن الشرق الأوسط اليوم؟

لطالما تمتعت تركيا بعلاقاتٍ طيبة مع إسرائيل خلافاً لأي دولةٍ بأغلبيةٍ مسلمة. تمتد جذور هذه الروابط، إلى حدٍ كبير، إلى الحرب العالمية الثانية، عندما استقبلت تركيا المحايدة آلاف اللاجئين اليهود الفارين من الإبادة الجماعية في أوروبا قبل تأسيس دولة إسرائيل عام 1948. ومنذ ذلك الحين، جعل المذهب الجمهوري العلماني لتركيا من أنقرة حليفاً فطرياً في العقود الأولى، التي دمرتها الحرب، لوجود إسرائيل. تمتعت الدولتان بمناوراتٍ عسكرية مشتركة، وصفقات الأسلحة مقابل الماء، بل أيضاً وصلت إلى حد الإتفاق ثلاثي الأطراف مع طهران لتبادل المعلومات الاستخباراتية في خمسينيات القرن الماضي.

ولكن في عام 2010، باتت هذه العلاقات الدافئة تتجه نحو فتورٍ واضح. فمنذ انتخاب حزب العدالة والتنمية المحافظ عام 2003 في تركيا، بدى الخلاف بين إسرائيل وتركيا ممكناً. فقد شهدت رغبة رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء آنذاك، باستمالة المسلمين في داخل تركيا إلى اتخاذه موقفاً أكثر عدوانية بكثير تجاه الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية من أيٍ من أسلافه. وفي عام 2010، تم اقتحام أسطول من السفن التركية التي تحمل مساعداتٍ إلى غزة والتي كانت تعتزم كسر الحصار الإسرائيلي الجائر المفروض على قطاع غزة، من قبل القوات الخاصة الاسرائيلية في المياه الدولية. أسفرت الاشتباكات بين طاقم السفينة، مافي مرمرة، واحدة من السفن الخمس، وجنود اسرائيليين عن وفاة عشرة أتراك وأثارت غضب أنقرة، حيث وصلت العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق في أعقاب الهجوم، وتم طرد السفراء وإنهاء التعاون العسكري. طالب أردوغان إسرائيل بالإعتذار، ورفع الحصار المفروض على قطاع غزة وتعويض عائلات النشطاء الذين قتلوا في الغارة، إلا أن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، رفض ذلك.

لسنواتٍ بعد ذلك، شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية القليل من التحسن الملموس، على الرغم من جهود حكومة الولايات المتحدة، التي كانت حريصةً على رؤية اثنين من الحلفاء الإقليميين يصلحون العلاقات فيما بينهم. ومع ذلك، ومع اجتياح صدمة الربيع العربي للمنطقة، استدعى توازن القوى الجديد نهج إعادة النظر. وفي عام 2013، ومع تصاعد وتيرة الحرب في سوريا وتدفق ملايين اللاجئين إلى تركيا، اعتذر نتنياهو لأردوغان في مكالمةٍ هاتفية.

ومع خلاف تركيا مع إيران بسب السلوك الدموي لحليفها بشار الأسد، وقلق إسرائيل من إحتمالية إنجاز الاتفاق النووي بين طهران والقوى العالمية، بدأت الدولتان بالتقارب. وفي منتصف عام 2016، أعلنت أنقرة وتل أبيب بأنهما توصلتا أخيراً إلى اتفاقٍ لإعادة العلاقات الدبلوماسية. وافقت تركيا على إسقاط جميع الدعاوى الجنائية والمدنية ضد إسرائيل وجنودها مع حزمة تعويضات بقيمة 20 مليون دولار، في حين وافقت إسرائيل على تخفيف القيود المفروضة على دخول المساعدات إلى غزة. وعلى الرغم من أن الحصار على غزة لا يزال قائماً- نقطة الخلاف الأولى في المفاوضات- إلا أن تركيا تمكنت من إيصال حوالي 11 ألف طن من المساعدات إلى القطاع الفلسطيني عبر ميناء أشدود الإسرائيلي، ونفذت العديد من مشاريع البُنية التحتية التي تبرز الحاجة إليها، بما في ذلك بناء مشفى ومحطة لتحلية المياه. ولتيسير ذلك، تم فتح معبر ايريز لتسهيل حركة المركبات في يوليو 2016 للمرة الأولى منذ تسع سنوات. وبحلول نهاية العام، تم تعيين سفيرين جديدين، وعودة العلاقات الدبلوماسية إلى التحسن، وحتى وإن لم تصل بعد إلى مستوى العلاقات الدافئة.

وعلى ما يبدو فإنّ الرشوة من وراء الكواليس، والتي سهلت مرور الصفقة، تمثلت في طرد العديد من قادة حماس من تركيا، بما فيهم صالح العاروري، القيادي المؤسس للجناح العسكري للجماعة. وفي حين أن التزام تركيا تجاه القضية الفلسطينية لا يزال حازماً، إلا أن رغبة تركيا في دعم موقفها الإقليمي استلزم مثل هذه التنازلات الواقعية.

وكما هو حال العديد من العلاقات في الشرق الأوسط، تلقي سياسات النفط والغاز بظلالها. فلسنوات، كانت إسرائيل تحاول استكشاف حقول الغاز الطبيعي غير المستغلة قبالة ساحلها على البحر المتوسط. وفي الوقت نفسه، كانت علاقات تركيا مع موردها الرئيسي للغاز، روسيا، مضطربة منذ تدخل موسكو في سوريا. فقد جُمّد مشروع خط الأنابيب المقترح بين روسيا وتركيا في أعقاب تداعيات إسقاط تركيا لطائرةٍ حربية روسية في نوفمبر 2015، على الرغم من أن الصفقة أستأنفت منذ ذلك الوقت، حتى أن تركيا تفكر في شراء صواريخ روسية مضادة للطائرات.

ومع ذلك، وعلى الرغم من تسوية هذا التوتر، بمحض الصدفة إلى حدٍ ما، إلا أن عودة الدفء إلى العلاقات التركية الإسرائيلية يمدّ كلا البلدين بمستوىً من الضمان الاقتصادي في خضم استمرار الاضطرابات الإقليمية. فقد اشتمل جزءٌ من المفاوضات الأولية بين تركيا واسرائيل على إنشاء خط أنابيب للغاز الطبيعي في البحر المتوسط، والذي من المحتمل أنه يُعتبر مكملاً في حال الإنقطاع التام مع روسيا. ففي نهاية المطاف، الاقتصاد محرّك أساسي في هذا التقارب تماماً كحال السياسة، والعداء ترفٌ لا يمكن لكليهما تحمله.