وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

انتصار المعارضة التركية في اسطنبول، ولكن ماذا الآن؟

Turkey- Ekrem Imamoglu
أكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي، يفوز بالإنتخابات بدعمٍ من الفصائل الأخرى المناهضة لأردوغان. Photo AFP

كان إعلان فوز أكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض، بمنصب عمدة اسطنبول في 23 يونيو 2019 بمثابة صدمةٍ للكثيرين في تركيا. فقد أقصى مرشح حزب الرئيس رجب طيب أردوغان، حزب العدالة والتنمية، بن علي يلدريم ليس مرةً واحدة فقط، بل مرتين، بعد إلغاء نتائج انتخابات 31 مارس وإعادة التصويت.

تضاعفت مفاجأة فوز إمام أوغلو بأكثر من 777 ألف صوت (من 13,700 صوت فقط في الجولة الأولى) فحسب بحقيقة أنه قبل الجولة الأولى، لم يكن إمام أوغلو- عضو مجلس محلي سابق في إسطنبول- معروفاً فعلياً في عالم السياسة التركية.

وصف البعض الانتخابات باعتبارها حقبةً جديدة في السياسة التركية، ولكن مع بقاء حزب العدالة والتنمية القوة المهيمنة في البلاد، ينصح بالحذر من مثل هذه التصريحات. ومع ذلك، من المحتمل أن يكون لفوز حزب الشعب الجمهوري عواقب لسنواتٍ قادمة.

ففي المقام الأول، أظهرت الإنتخابات أنه يمكن تعرض أردوغان للهزيمة إلى حدٍ ما عبر صناديق الاقتراع. فقد كان يبدو أن أردوغان، وهو سياسيٌ بارع ومتمرسٌ بالعزف على أوتار الخوف الشعبي والولاء والحب، لا يقهر بعد الفشل واسع النطاق لكل حركة احتجاج منذ احتجاجات حديقة غيزي عام 2013. ومع ذلك، وصف اثنين من مرشحي حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات الوطنية والبلدية أنفسهم بأنهم رجال الشعب، وإلى جانب الاقتصاد المتعثر، والعلاقات الخارجية المتوترة و15 عاماً من حكم حزب العدالة والتنمية، يبدو أن هذه الجهود باتت تلقى رواجاً في صناديق الإقتراع. وعلى الرغم من كون انتخابات إسطنبول بعيدة كل البعد عن كونها نصراً وطنياً (إذ لا يزال حزب العدالة والتنمية الحاصل على أغلبية المقاعد على مستوى المحافظة في الانتخابات المحلية الأخيرة)، إلا أنه تم سحق وهم حصانة حزب العدالة والتنمية الإنتخابية.

إن حقيقية أنّ إعادة إنتخابات مارس- التي يُنظر إليها على نطاقٍ واسع بأنها صنيعة أنقرة- لم تسفر عن نصرٍ لحزب العدالة والتنمية أمرٌ بالغ الأهمية. فبعد سنواتٍ من التلاعب الانتخابي العلني المتزايد، من رفض الأصوات وقمع الناخبين وصولاً إلى حشو صناديق الاقتراع، وقمع وسائل الإعلام وحتى سجن السياسيين المعارضين، يبدو أن هذه الانتخابات كانت القشة التي قسمت ظهر البعير، فقليلون من تخيلوا أنه إذا ما واجه أردوغان هزيمةً أو تحدياتٍ انتخابية في المستقبل، فإنه لن يفعل كل ما في وسعه لقلب الميزان لصالحه، لكن فشل جهوده هذه المرة قد يحد من مثل هذا العبث السياسي العلني في المستقبل.

لم يكن فوز حزب الشعب الجمهوري مجرد نتيجةً للعمل الشاق على أرض الواقع، فقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً غاية في الأهمية، ويرجع ذلك أساساً إلى تضييق الحكومة الخناق على وسائل الإعلام التقليدية في البلاد. ونظراً لوجود القليل من وسائل الإعلام الحرة والمستقلة في تركيا، تبنى إمام أوغلو وسائل التواصل الاجتماعي كأداةٍ قوية لإيصال رسالته، بل وصل به الحد إلى بثه المباشر على موقع فيسبوك لوجباته الرمضانية والتي شاهدها مئات الآلاف. وبحسب ما ورد، فقد تبنت حملته أسلوب استقاء البيانات من وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهو الأسلوب الذي لعب دوراً مهماً للغاية في فوز دونالد ترمب عام 2016 وخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي في نفس العام. ولطالما دافع أردوغان عن أسلوبٌ معين في حملاته الانتخابية (والحكم)، والذي يعتمد على تجمعات الحشود المتكررة، ولكن بالنظر إلى هذه الخسارة الأخيرة، فلربما يصبح حزبه أكثر حماساً للتكنولوجيا. ومع ذلك، فإن الافتقار الواضح إلى المعرفة بالتكنولوجيا بين كبار قادة حزب العدالة والتنمية، بمن فيهم يلدريم، قد يتطلب بعض اللحاق بركب التكنولوجيا.

خسارة مُكلفة

تعتبر اسطنبول مركز تركيا الاقتصادي، كما يتضح من ميزانية البلدية. ومع وصوله إلى حوالي 4 مليارات دولار، فإن الحزب الذي يتحكم بالمنصب يتمتع بالقدرة على تشكيل الإنفاق لصالح مصالحه الانتخابية. ونتيجةً لذلك، كانت إسطنبول قلب الاستثمارات الضخمة لحزب العدالة والتنمية، مستقطبةً الناخبين في المدينة بمشاريع البناء والوظائف والبنية التحتية. والآن، وبعد أن سيطر حزب الشعب الجمهوري على خزائن البلدية، يمكن أن يتغير المشهد الانتخابي في تركيا بشكلٍ كبير إذا ما استخدم إمام أوغلو الأموال بطريقة تُماثل رؤساء البلديات السابقين. ومع ذلك، بما أن العمل جارٍ على مشاريع البنية التحتية بالفعل، واقتران ذلك باهتمامٍ ضئيل من المستثمرين الأجانب، سيكون من الصعب تكرار هذا النموذج.

وعلى الرغم من ذلك، لربما يمكن تفسير إمكانيات المحسوبية التي تقدمها اسطنبول بالحدّ الذي وصل إليه حزب العدالة والتنمية للاحتفاظ بها، إذ أنه حتى بعد إلغاء التصويت الأول والدعوة لانتخاباتٍ ثانية، ووفقاً لإمام أوغلو، قامت إدارة حزب العدالة والتنمية، التي عادت بعد إقالته من منصبه، بإنفاق جزءٍ كبير من ميزانية يوليو في أسبوعٍ واحد فقط، إذ أن ذلك، على الأرجح، تم لاستفادة حزب العدالة والتنمية القصوى من الأموال في حال خسارتهم.

إن يأس حزب العدالة والتنمية المتنامي شهد أيضاً تحوله إلى أشكال أكثر صراحة من المحسوبية. فقبل التصويت في 23 يونيو، ظهرت ملصقاتٌ لحزب العدالة والتنمية في جميع أنحاء إسطنبول تعد بكل ما يتخيله المرء بدءاً من حزم الهاتف المجانية إلى شطب ديون الزواج. وقبل الانتخابات المحلية والجولة الأولى للانتخابات البلدية في مارس، أنشأ أردوغان أكشاكاً مدعومة للخضروات لمواجهة التضخم المتزايد؛ الأمر الذي اعتبره كثيرون حيلةً فجة لكسب الناخبين.

وعندما لم يحقق حزب العدالة والتنمية فوزاً كاسحاً في مارس، سرعان ما اختفت الأكشاك، وعلى الرغم من المزيد من الوعود، خسر حزب العدالة والتنمية إعادة الإنتخابات. وما لم يتعلم حزب العدالة والتنمية من هذه الخسائر، فلربما لن تشهد الإنتخابات المستقبلية عودة مثل هذه التكتيكات.

اختبار القوة

إلى جانب منصب عمدة أنقرة، تعدّ هذه أول قبضة حقيقية على السُلطة يتمتع بها حزب الشعب الجمهوري منذ سنوات. وفي حين أن الحزب لطالما كان خيار المؤسسة الحاكمة، إلا أنه يعتبر اليوم بشدة ضمن قائمة المعارضة، ويفتقر هذا الجيل من الحزب إلى الخبرة الحاكمة وسجلٍ له في السلطة. إن فوز إمام أوغلو، الذي أسر الناخبين في جميع أنحاء البلاد، يمنح حزب الشعب الجمهوري الفرصة لاستعراض قدراته في الحكم والمزايا التي يمكن أن يحققها للشعب التركي. ومع شهرته المكتشفة حديثاً وفوزه مرتين على مرشح أردوغان، سينظر الكثيرون إلى إمام أوغلو باعتباره منافساً مستقبلياً على كرسي الرئاسة. وحتى الآن، كان رده على سؤال ما إذا كان سيترشح للانتخابات الرئاسية: “الله أعلم.”

ومع ذلك، لن يجعل أردوغان مهمته سهلة، فقد قام بالفعل بتقليص سلطته، كما أن إمام أوغلو يواجه حكومةً مركزية قوية لا تخشى الانحناء أو كسر القواعد أو حتى تشويه المشهد السياسي لضمان بقائها. وعلاوةً على ذلك، وقع إمام أوغلو بالفعل في فخ الخلافات مع أحد عمدة حزب العدالة والتنمية، إذ يقال إن الرجلين دخلا في جدالٍ علني مما دفع أردوغان إلى مطالبة إمام أوغلو بالإعتذار عنه. إن مثل هذه الحوادث تعطي أنقرة مزيداً من العتاد لملاحقة عمدة إسطنبول إذا ما رغبوا في ذلك. وعليه، لربما يحتاج إمام أوغلو إلى مزيدٍ من الحلفاء للبقاء على قيد الحياة دون أن يمسه أي أذى.

بشكلٍ عام، يمثل فوز إمام وغلو ضربةً قوية للهيمنة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية في تركيا. ومع ذلك، لا ينبغي للمراقبين أن يخلطوا الحابل بالنابل باعتبارها ضربةً قاضية، إذ لا يزال الحزب يتمتع بدعمٍ قوي في جميع أنحاء البلاد، حتى وإن خسر أكبر مدينتين. وعلى الرغم من أن الشقوق الأولى لربما قد بدأت تظهر في قاعدة أردوغان السياسية، إلا أنه ينبغي الإنتظار إلى حين إجراء الإنتخابات العامة عام 2023- التي تصادف الذكرى المئوية للجمهورية التركية- لتصبح النتيجة الأكثر أهمية لهذه الإنتخابات واضحة: انتصار حزب الشعب الجمهوري على المستوى الوطني.