وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إتفاقية سايكس بيكو

Sykes-Picot mapخلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وفي أوج قوتها في ظل حكم سليمان القانوني، كانت الإمبراطورية العثمانية متعددة الجنسيات، ومتعددة اللغات، وسيطرت على جزءٍ كبير من جنوب شرق أوروبا، وأجزاء من وسط أوروبا وغرب آسيا والقوقاز وشمال أفريقيا والقرن الإفريقي. ومع ذلك، بدأت في القرن التاسع عشر القوة، التي كان يخشاها الجميع، تنهار. ثلاثة أحداث منفصلة أدت إلى إنهيارها في نهاية المطاف، حيث أدت الاضطرابات اللاحقة في بلاد الشام إلى وضع أُسس ما بات يُعرف باتفاقية سايكس بيكو.

فقد كان الحدث الأول الحكم الذاتي المصري في عهد محمد علي؛ زعيمٌ عثمانيّ قوي تمتع بقوةٍ عسكرية مكنته من تهديد عرش السلطان العثماني. ففي عام 1840، نصّب السلطان محمد علي حاكماً على مصر مدى الحياة، مقابل بقاء مصر ضمن الإمبراطورية العثمانية.

أما الحدث الثاني فكان نضال صربيا من أجل الاستقلال. استمر هذا لمدة قرنٍ تقريباً، بدءاً من الإنتفاضة الأولى عام 1804، تبعها الإنتفاضة الثانية عام 1814، وأخيراً الحرب مع تركيا من عام 1876 إلى عام 1878. تخطى الصراع حدود صربيا الوطنية وأسفر عن استقلالٍ كامل، والذي أقرّ في مؤتمر برلين في عام 1878.

في حين تمثل الحدث الثالث في حركة الاستقلال اليونانية، التي بدأت عام 1821 بعد محاولة عائلة يبسيلانتي– جزءٌ من الطبقة الأرستقراطية اليونانية التي دعت للتمرد- الفاشلة لهزيمة الأتراك بالقرب من بوخارست. أدى هذا إلى اندلاع انتفاضات مفاجئة في جميع أنحاء اليونان حوالي 25 مارس (الذي أصبح فيما بعد يوم الاستقلال). ومع ذلك، تحالفت الجيوش العثمانية مع القوات المصرية التابعة لمحمد علي، التي قمعت التمرد بوحشية. جذب القمع الجيل الأول من الدول الأوروبية الديمقراطية. وفي 6 يوليو 1827، وقعت بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا معاهدة لندن، والتي سمحت لهم بالتدخل معاً نيابة عن اليونانيين.

وفي معركة نافارين البحرية، هزمت الأساطيل المتحالفة، على نحوٍ حاسم، العثمانيين والمصريين، وأوقعت أعداداً كبيرة من الضحايا في صفوف من وصفتهم بـ” القوى الإسلامية.” أصبحت المعركة نقطة تحولٍ في استقلال اليونان عام 1832، مع التوقيع على معاهدة القسطنطينية. أجبرت المعاهدة الأتراك على التخلي عن بيلوبونيز، وأعلنت حد آرتا- فولوس الفاصل حدودها الشمالية.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، دفع الفساد والمحسوبية بالحكومة العثمانية إلى حافة الإفلاس. ومع إنتشار الفساد، ضعفت الإمبراطورية، وبدأت بالتقلص على جميع الحدود.

وفي عام 1860، اندلعت ثورةٌ في لبنان عندما حمل المسيحيون الموارنة السلاح في وجه أسيادهم الدروز. تم كبح التمرد بعنفٍ في مرحلةٍ مبكرة. ففي The Encyclopedia of Conflicts Since World War II، يُقدر جيمس سيمنت ذبح 11 ألف ماروني. فشلت الإمبراطورية العثمانية في وقف العنف، كما يقول البعض بكل صراحة، مما قاد فرنسا إلى التدخل تحت مظلة الدور الذي نصبته لنفسها كـ”حامية للمسيحيين في بلاد الشام.” وبعد مرور عام، أجبر الفرنسيون السلطان العثماني على تشكيل حكومة محلية مسيحية مستقلة في لبنان. سحبوا قواتهم، إلا أنّ القلق كان يعتريهم بشأن ما قد يحدث في المنطقة إذا ما انهارت الإمبراطورية العثمانية بشكلٍ كامل.

رأى الفرنسيون خطرين محدقين؛ الأول كان في تشكيل مجموعة من الدول الصغيرة متبادلة العداء والدول القبلية، والذي من شأنه أيضاً التأثير على المصالح التجارية الفرنسية. أما الثاني فقد كان الخوف من الاستيلاء الانتهازي على منطقةٍ مرغوبٍ فيها للغاية من قِبل القوى العظمى الأخرى، مثل روسيا أو بريطانيا العظمى، ويرجع ذلك إلى الفراغ في السُلطة الذي قد يسببه إنهيار الإمبراطورية. ومع الأخذ بهذا بعين الاعتبار، بدأ الفرنسيون بوضع خطط طوارىء سرية لمنطقة الشرق الأوسط. أبلغوا روسيا وبريطانيا العظمى باهتمامهم بالمنطقة، والتي كانت تعتبر ضمن دائرة نفوذهما، وبالتالي لا يتم الاستيلاء على هذه الدول على حين غرة عندما تحركت فرنسا مطالبةً بالسيطرة عليها.

ومع ذلك، دقت الأحداث المتلاحقة في مصر ناقوس الخطر بالنسبة للفرنسيين. في ذلك الوقت، كانت مصر لا تزال إقليماً مستقلاً ضمن الإمبراطورية العثمانية. وبحلول أواخر العقد 1870، غرقت الحكومة المصرية بديون ضخمة بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة، وانهيار سوق القطن العالمي. أنشأت مجموعة من الدول الأوروبية وكالةً لسداد الديون، أسمتها Caisse de la Dette، مع ضباط بريطانيين وفرنسيين لمراقبة إيرادات ونفقات الحكومة المصرية. فاقم هذا مشاعر الاستياء بين أبناء الشعب المصري، مما أشعل فتيل الانقلاب العكسري بقيادة أحمد عرابي. أرسلت بريطانيا العظمى قواتٍ إلى مصر لقمع الاضطرابات وإسقاط المجلس العسكري واستعادة الحكومة السابقة. وبعد أن أصبحت مصر، بشكلٍ فعال، تحت السيطرة البريطانية، رأى الفرنسيون تهديداً حقيقياً لطموحاتهم في الشرق الأوسط.

وفي بدايات الحرب العالمية الأولى، انحازت الإمبراطورية العثمانية ضد دول الحلفاء، حيث شنت هجوماً مباغتاً على ساحل البحر الأسود الروسي وعلى الموانىء في 29 أكتوبر 1914. ردت روسيا وفرنسا وبريطانيا العظمى بإعلان الحرب على الإمبراطورية العثمانية في الأول من نوفمبر 1914. وبما أنّ إنهيار الإمبراطورية أصبح أمراً وشيكاً على نحوٍ متزايد، نشأ تضاربٌ في المصالح بين بريطانيا العظمى وفرنسا. وبما أنّ البريطانيين كانوا على استعدادٍ للاعتراف باهتمام فرنسا ببلاد الشام، كانوا أيضاً قلقين من منح فرنسا السيطرة على مساحة شاسعة، الأمر الذي قد يهدد سيطرة بريطانيا على كلٍ من قناة السويس والهند البريطانية (طرق التجارة)، نظراً لأن حدود المنطقة لم يتم ترسيمها بعد.

وفيما بات يُعرب بمراسلات حسين-مكماهون، وهي مجموعة رسائل متبادلة بين الشريف حسين بن علي، أمير مكة المكرمة، مع المندوب السامي البريطاني في مصر، السير آرثر هنري مكماهون، في الفترة ما بين 14 يوليو 1915 و30 يناير 1916، بدى أن البريطانيين قد أيدوا العرب في رغبتهم المتزايدة للإنفصال على الامبراطورية العثمانية للحصول على الاستقلال حتى وإن كان ذلك من خلال الثورة. وفي المقابل، حصولهم على الاعتراف بالاستقلال العربي بعد الحرب العالمية الأولى “في جميع المناطق الواقعة داخل الحدود المقترحة من قِبل شريف مكة.” ومع ذلك، تعارضت الوعود فيما بعد مع وعد بلفور، وهي رسالة مؤرخة في الثاني من نوفمبر 1917 والتي أكدت من خلالها بريطانيا العظمى دعمها لإنشاء وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، الذي حصل عليه نزاعٌ في وقتٍ لاحق من قِبل الحكومة البريطانية، وخاصة في حالة فلسطين، التي فهم الشريف أنها ستُمنح للفلسطينيين.

وفي مارس 1915، تم التوصل إلى اتفاق القسطنطينية السري بين الوفاق الثلاثي (والتي تعني بالفرنسية الصداقة أو التفاهم أو الاتفاق). وفي حالة الانتصار على الإمبراطورية العثمانية وشبه جزيرة غاليبولي، وعدت بريطانيا العظمى وفرنسا الروس بالظفر بمضيقيّ القسطنطينية والدردنيل (المضيق الهام الذي يربط البحر الأسود مع البحر الأبيض المتوسط). وفي المقابل، تُسّهل روسيا مطالبات بريطانيا بالمناطق الأخرى المتبقية من الإمبراطورية العثمانية، بما في ذلك بلاد ما بين النهرين الغنية بالنفط. ومع ذلك، أدى فشل حملة الدردنيل، والتهديد الذي رأته بريطانيا في التوسع الروسي، والثورة البلشفية اللاحقة، إلى عدم تنفيذ الاتفاقية.

وعلى مدار العام التالي، فاوض ممثلين عن فرنسا وبريطانيا ما أصبح يُعرف باتفاقية سايكس بيكو، وهو اتفاقٌ مبدئي على تقسيم مناطق النفوذ في أراضي الإمبراطورية العثمانية المفككة. سُميت الاتفاقية تيمناً باسم المفاوضين الرئيسيين، الدبلوماسيين السير مارك سايكس من بريطانيا، وفرانسوا جورج بيكو من فرنسا.

تم إبرام الإتفاق في نهاية المطاف في 19 مايو 1916. عنت مناطق النفوذ هذه أن كل بلدٍ من شأنه، ضمن النطاق المحدد له، التمتع بالسلطة لإنشاء إدارةٍ أو سيطرةٍ مباشرة أو غير مباشرة كما يرغبون أو يرونه مناسباً للترتيب مع الدول العربية أو اتحاد الدول العربية. قسّمت أقلام الدبلوماسيين خريطة المنطقة إلى دولٍ تخترق الطوائف العرقية والدينية. ويعتقد المؤرخ اللبناني البارز كمال صليبي، أن الاعتبارات الرئيسية التي تم أخذها بعين الاعتبار بذلك الوقت لها علاقة بطرق النفط والنقل. وبعد قرنٍ من الزمان، لا يزال العرب يلقون باللوم في موجات العنف المتلاحقة في الشرق الأوسط، من احتلال فلسطين إلى صعود تنظيم الدولة الإسلامية، على هذا الإتفاق.

ووفقاً لذلك، مُنحت بريطانيا العظمى السيطرة المباشرة على وسط وجنوب بلاد ما بين النهرين، حول محافظات بغداد والبصرة، في حين حصلت فرنسا على الساحل السوري ومساحات شاسعة مما يُعرف بالعصر الحديث بلبنان.

معاهدة سيفر عام 1920. أنقر للتكبير ©Fanack

ووفقاً لذلك، مُنحت بريطانيا العظمى السيطرة المباشرة على وسط وجنوب بلاد ما بين النهرين، حول محافظات بغداد والبصرة، في حين حصلت فرنسا على الساحل السوري ومساحات شاسعة مما يُعرف بالعصر الحديث بلبنان.

ومع ذلك، وفي ضوء الأهمية الدينية والحساسة لفلسطين، ومع صياغة وعد بلفور وراء الأبواب الموصدة، رفض البريطانيون فكرة إدارة دولةٍ واحدة تُهيمن على أرضٍ مقدسةٍ لليهود والمسيحيين والمسلمين. أدت هذه المخاوف في النهاية إلى وضع فلسطين تحت إدارةٍ دولية.

كما تم الإتفاق على أن ما تبقى من الأراضي، والتي شملت مساحة ضخمة من سوريا الحديثة، والموصل في شمال العراق والأردن، سيكون لها رؤساء عرب محليين تحت إشرافٍ فرنسي في الشمال وبريطاني في الجنوب. وعلاوة على ذلك، تحتفظ كل من فرنسا وبريطانيا بحرية المرور والتجارة في منطقة النفوذ الأخرى

تحققت هذه الاتفاقيات من خلال سلسلةٍ من المعاهدات التي أعقبت إنتهاء الحرب. كانت معاهدة سيفر الأولى، فقد كانت المعاهدة التي وقعت في 10 أغسطس 1920، بدايةً لتقسيم الإمبراطورية العثمانية وفنائها بشكلٍ نهائي. تضمنت الشروط نبذ جميع الأراضي غير التركية التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، والتنازل لإدارة الحلفاء. والجدير بالذكر أنّ التنازل عن شرق البحر المتوسط، سمح بإنشاء، من بين أمورٍ أخرى، الإنتداب البريطاني على فلسطين، والإنتداب البريطاني على العراق، والإنتداب الفرنسي على سوريا ولبنان.

وبعد أن رفض الأتراك القوميون، غير الراضين عن خسارة الأراضي، معاهدة سيفر، تمت صياغة معاهدة لوزان التي وقعت يوم 24 يوليو 1923. ووفقاً لأحكام هذه المعاهدة، تخلت تركيا عن جميع المطالبات بما تبقى من الإمبراطورية العثمانية وفي المقابل اعترف الحلفاء بالسيادة التركية داخل حدودها المرسمّة حديثاً.

معاهدة لوزان عام 1923. أنقر للتكبير. ©Fanack

وأخيراً، مع تجزأة الإمبراطورية العثمانية، قسمّت إتفاقية سايكس بيكو الولايات العربية العثمانية خارج شبه الجزيرة العربية إلى مناطق سيطرةٍ ونفوذ بريطانية وفرنسية. سيطر البريطانيون على فلسطين عام 1920، وحكموها من عام 1923 وحتى عام 1948. كما حكموا العراق إبان الإنتداب البريطاني من عام 1920 وحتى عام 1932. في حين استمر الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان من عام 1923 وحتى عام 1946.

Advertisement
Fanack Water Palestine