وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط: متشعب النشاطات

US military
جنود من الولايات المتحدة والكويت ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى يشاركون في التمرين العسكري الختامي للتدريبات العسكرية واسعة النطاق “إيجل ريسولف 2017” في ميناء الشويخ، غرب مدينة الكويت في 6 أبريل 2017. Photo: Yasser Al-Zayyat / AFP

في 8 يناير 2020، تساقطت مجموعة من صواريخ كروز الإيرانية على القسم الأمريكي من قاعدة عين الأسد العسكرية في العراق. فبعد أسابيع من التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة وإيران، كانت الضربات حتى الآن ذروة العنف في هذه الجولة الأخيرة من الاشتباكات بين البلدين. ومع ذلك، مع تصويت البرلمان العراقي على إخراج القوات الأمريكية من البلاد في أعقاب المناوشات الأخيرة، تحول الانتباه إلى البصمة العسكرية الأمريكية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وحول العالم.

تدير الولايات المتحدة ما لا يقل عن 30 قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط، تتراوح ما بين المواقع الصغيرة في سوريا والمواقع العسكرية المشتركة مع الدول المضيفة، إلى القواعد الجوية الخاضعة للسيطرة الأمريكية الكاملة. بعضها كبير وظاهرٌ للعيان في حين يلُف البعض الآخر سريةً كاملة، ويُحتمل أنها تُدار من قِبل مجموعةٍ من أفراد القوات الأمريكية الخاصة أو وكالة المخابرات المركزية (سي أي إيه). وتتراوح هذه بين مختبر الأبحاث الطبية الذي تديره البحرية الأمريكية في مصر والقواعد البحرية والجوية في قطر (الأكبر في المنطقة) والإمارات العربية المتحدة إلى المواقع النائية في المناطق الصحراوية المتنازع عليها في سوريا.

امتدادٌ عسكري ونفوذٌ دبلوماسي

يمثل أرخبيل الولايات المتحدة من القواعد العسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط أولاً وقبل كل شيء طموح القوات المسلحة الأمريكية وتوّسعها. إن القدرة على حماية القوات داخل أو بالقرب من الدول التي قد يُطلب منهم القتال فيها، تمنح الولايات المتحدة أفضليةً مباشرة في الفترة التي تسبق أي نزاعٍ مسلح. وبنفس القدر من الأهمية، يمنح الولايات المتحدة أيضاً نقاط انطلاقٍ هامة حول العالم حيث يمكنهم تجميع القوات والإمدادات بشكل قانوني قبل أي قتال ذي أهمية. تاريخياً، كانت اتفاقيات إنشاء قواعد عسكرية مع الدول المُضيفة فضفاضة نسبياً، حيث سمحت للولايات المتحدة باستخدام هذه المرافق اليوم للنقل والاحتجاز في برنامج “الموقع الأسود” السيىء السمعة الذي وضعته وكالة الاستخبارات المركزية. لكن من بين الأغراض الأقل شراسة استخدام قاعدة إنجرليك الجوية في تركيا للقيام بعملياتٍ إنسانية وعسكرية في أفغانستان أو زيادة القوات الأمريكية في المملكة العربية السعودية قبل غزو العراق عام 2003.

بالنسبة لدولٍ مثل تركيا، فإن استضافة الأصول العسكرية الأمريكية يمثل أيضاً نجاح الدبلوماسية والتحالفات الأمريكية. تضم القاعدتان الجويتان في إنجرليك وبالقرب من إزمير بعضاً من أهم الأصول الجوية التي تم نشرها في الولايات المتحدة، بدءاً من طائرة المراقبة U-2 وحتى نشر الأسلحة النووية. وفي عصر العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وتركيا، يعد هذا النشر علامة على مواطن القوة الثابتة لهذا التحالف وكذلك على أهمية تركيا بالنسبة للبصمة العسكرية لحلف الناتو. كما أنّ هذه القواعد أيضاً هي مخلفاتٌ من الحرب الباردة، عندما وجد الجيش الأمريكي نفسه يؤمن معظم أجزاء أوروبا والشرق الأقصى وصولاً لتركيا من الغزو السوفيتي المحتمل.

US military
المصدر: ‘US forces in the Middle East and Afghanistan, January 2020’ Al Jazeera, ‘US forces in the Middle East’ BBC, ‘Middle East military bases used by US forces’ middleeasteye.net. @Fanack

هذا لا يعني أن هذه القواعد لم تعانِ من تدهور العلاقات بين البلدين، فقد هددت أنقرة عدة مراتٍ باستخدام إنجرليك كورقةٍ مساومة في معركتها المستمرة للإرادة مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة حول كل شيء من حقوق الإنسان إلى سوريا. وعلى الرغم من أن هذه القواعد ليست رمزية كحال السفارات، إلا أنها تمثل بالفعل القوة العسكرية للولايات المتحدة، وبالرغم من اعتمادها على سيادة الأراضي للبلد المُضيف، بيد أن وضعها القانوني يجعلها عرضةً للهجوم الخطابي والمشاحنات الدبلوماسية عندما يشعر هؤلاء الحلفاء الأمريكيون السابقون بالمرارة من سياسات واشنطن.

إرثٌ للتعاون أم غنيمة معركة؟

هناك قواعد أخرى تم كسبُها بالوسائل العسكرية وليس الدبلوماسية، ففي أعقاب الحرب في العراق، وحتى بعد الإعلان عن نهاية العمليات القتالية الكبرى وانسحاب الغالبية العظمى من القوات الأمريكية في عام 2011، احتفظت الولايات المتحدة بعدة قواعد عسكرية في البلاد. تشتمل هذه على جزءٍ من قاعدة عين الأسد الجوية المترامية الأطراف في الغرب، بالإضافة إلى منشآت في بغداد والشمال الكردي. منذ نهاية الحرب الأمريكية الرسمية في العراق، وكحال المطارات والمنشآت الأمريكية الكبيرة في أفغانستان، كانت هذه القواعد مركزاً رئيسياً لغارات العمليات الخاصة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بالتنسيق مع القوات المحلية التي تقاتل داعش بالإضافة إلى التدريب المستمر والمهني للقوات العسكرية العراقية والأفغانية. وفي حين أن هذا قد يخدم ظاهرياً مصالح عراقية بحتة، إلا أن “أمركة” الجيش العراقي – من اختياره للأسلحة التي اشترتها الولايات المتحدة إلى العلاقات الشخصية بين القيادة العسكرية للبلدين – تجذب مركزاً رئيسياً للقوة في العراق نحو مجال النفوذ الأمريكي والابتعاد عن إيران. ومن الصعب تحديد مدى فعالية مثل هذا الهدف الثانوي – الهدف الأساسي هو تزويد الدولة العراقية بمقاومةٍ فعّالة ضد الجماعات المتمردة. ومع ذلك، فإن وحدات النخبة التي أنفقت عليها الولايات المتحدة معظم وقتها ومواردها (لا سيما القوة الذهبية في القوات العراقية الخاصة) استحوذت على نصيب الأسد في القتال الدموي ضد داعش في الموصل وظلت واحدة من المؤسسات غير الطائفية الأكثر إثارة للإعجاب في العراق.

وإلى أن غيّرت بغداد مواقفها مؤخراً، بقيت القوات الأمريكية في العراق، تقنياً، بناءً على دعوةٍ من الحكومة العراقية (وضعٌ قانوني مكّن أيضاً حربها الجوية ضد داعش في البلاد). وعلى النقيض من ذلك، فإن القواعد الأمريكية والقواعد الأمامية الصغيرة في سوريا قائمةٌ بالرغم من عدم رغبة الحكومة (التي ما زالت معترف بها دولياً) في دمشق. ففي سوريا، يعد الوجود الأمريكي إرثاً من الدعم الأمريكي لوكيله الكردي في الحرب ضد داعش ودعمه غير الناجح إلى حدٍ كبير لجماعات المتمردين في الصحراء الجنوبية. فقد سمح هذا الوجود لواشنطن بإملاء اتجاه الصراع جزئياً، ووفقاً للرئيس دونالد ترمب، فقد أمّن موارد نفطية قيمة للولايات المتحدة وحلفائها.

ومع ذلك كان الوجود الأمريكي متقلباً، فعلى الرغم من سحب ترمب المُرتجل لمعظم القوات الأمريكية في أكتوبر 2019، لا يزال هناك البعض منهم بأعداد صغيرة، مما يدعم الوضع الراهن الهشّ بين القوات الكردية والقوات التركية، والحفاظ ظاهرياً على عدم عودة ظهور داعش. في الوقت الذي يرحب فيه الأكراد الذين يعملون معهم بتواجدهم، حيث توفر القوات الأمريكية قوة ردعٍ كبيرة من أي هجومٍ خارجي، فإن وضعهم القانوني المشكوك فيه في البلاد يمثل على نحوٍ أكبر غنيمة معركة من كونه إرثاً من سنواتٍ من التعاون.

قوات للتأجير

في حين أن القدرة على توطين أفراد وعتادٍ عسكري في بلدانٍ بعيدة عن الوطن هي بلا شك نعمةٌ بالنسبة للولايات المتحدة، إلا أن بعض الدول المضيفة ترى الكثير من الفوائد التي تعود عليها في مثل هذه الاتفاقات لدرجة أنهم على استعدادٍ لدفع الأموال للولايات المتحدة مقابل امتياز استضافة القوات. في الواقع، تمثلت سياسة البيت الأبيض في عهد ترمب بالمطالبة بدفع الأموال مقابل الحراسة من قِبل القوات الأمريكية، وبالتالي، تحوّل الجيش الأمريكي إلى مرتزقة.

تصل التقديرات حول تكلفة الحروب الأمريكية والعمل العسكري في الشرق الأوسط لدافع الضرائب الأمريكي منذ 11 سبتمبر، إلى 6,5 تريليون دولار. ومنذ توليه منصبه، حصل ترمب، حسب روايته، على ضماناتٍ بمليارات الدولارات من مبيعات الأسلحة أو مدفوعاتها لتأمين وجود القوات في أماكن مثل المملكة العربية السعودية، حيث قامت واشنطن بإرسال قواتٍ وسحبها باستمرار قبل حرب الخليج. وفي ظل وجود المنشآت العسكرية في جميع أنحاء البلاد، فلا بد أن هذا يمنح راحة البال للقيادة السعودية، بالرغم من التشكيك المتواصل بإلتزام البيت الأبيض في ظل عهد ترمب بعلاقاتٍ طويلة الأمد.

واليوم، تتمركز المئات من القوات في المملكة العربية السعودية، التي شكلت في بعض الأحيان قضيةً خلافية لكثيرٍ من المسلمين، بالنظر إلى قرب هذه القوات من اثنين من أكثر الأماكن المقدسة في الإسلام (النقطة التي استفادت منها بالكامل شخصياتٌ مثل زعيم القاعدة أسامة بن لادن). وفي ضوء التوترات والهجمات التي تشنها إيران أو القوات التابعة لها على الأراضي السعودية أحياناً، فإن نشر القوات الأمريكية على الأرض يُشكل رادعاً قوياً ضد الغزو – رغم أنه ليس هجوماً واضحاً – ومن وجهة نظر الرياض، تُلزم واشنطن بالدفاع الجماعي عن حلفائها في الخليج. وبالنظر إلى مطالبته الدائمة بالدفع مقابل الخدمات المقدمة، فمن غير الواضح ما إذا كانت وجهة نظر ترمب بشأن إرسال مزيدٍ من القوات الأمريكية للدفاع عن السعودية أكيدٌ أيضاً. وبصرف النظر عن ذلك، فإن وجود القوات (وأعدادها) يُسلط الضوء على قوة التحالف الأمريكي السعودي.

لطالما ثمنّت الولايات المتحدة دورها في الشرق الأوسط، سواء عن طريق القوة العسكرية أو النفوذ الدبلوماسي، فقد ساعد كلاهما في ضمان وجود القوات الأمريكية في أرخبيلٍ من القواعد والمواقع العسكرية الأمامية بطريقةٍ لا مثيل لها من قبل أي دولة أخرى باستثناء إيران. ومع تمتعها بكلمةٍ يُسمع صداها فيما يتعلق باستقرار المنطقة بفضل الوعود بالأمن للحلفاء والتهديد (وتلطيف الأجواء تارةً) بشن هجومٍ عسكري ضد الخصوم بأن مثل هذه البنية التحتية تدعمها الولايات المتحدة، فإن إنتشار القوات الأمريكية على الأرض سيظل ركيزةً أساسية لواشنطن في الشرق الأوسط لسنوات قادمة.

Advertisement
Fanack Water Palestine