وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

دول الخليج العربية ومشاريع ما بعد الحرب

حسابات ومشاريع ثلاث دول خليجيّة عربيّة ستتعارض بشكلٍ كبيرٍ في كل ما يخص الملفّات الداخليّة الفلسطينيّة، وخصوصًا على مستوى مستقبل السلطة الفلسطينيّة، وطبيعة الدور الذي ستلعبه حركة حماس في المرحلة المقبلة.

دول الخليج العربية
أشخاص يسيرون بالقرب من الأنقاض والمباني المتضررة في منطقة التفاح شرق مدينة غزة في 8 يوليو 2024. Omar AL-QATTAA / AFP

علي نور الدين

منذ بداية الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، بدأت جميع القوى الإقليميّة المؤثّرة بتلمّس تداعيات هذه التطوّرات على مصالحها وحساباتها، وخصوصًا بعدما اتسعت رقعة الأحداث لتشمل العديد من الجبهات الأخرى.

وبشكلٍ متدرّج، بدأت تظهر ملامح مشاريع ما بعد الحرب، التي حضّرها كل طرف بالشكل الذي يتناسب مع دوره وتطلّعاته وتحالفاته السابقة.

وعلى مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، كان من الواضح أن هناك ثلاث دول تمتلك مشاريع متباينة –وربما متناقضة- للمرحلة المقبلة، وهي تحديدًا المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة وقطر.

الإمارات والعلاقة المتوتّرة مع السلطة الفلسطينيّة

خلال حزيران/يونيو 2024، سرّب موقع “أكسيوس” الأميركي تفاصيل اجتماعٍ حضره وزير الخارجيّة الأميركيّة أنتوني بلينكن، بالإضافة إلى وزراء خارجيّة السعوديّة ومصر والأردن وقطر والكويت والإمارات. كما حضر الاجتماع، الذي عُقد في أواخر نيسان/أبريل 2024 في الرياض، أمين سرّ اللّجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير حسين الشيخ، الذي يُعتبر أحد أقرب الشّخصيّات إلى رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس.

تلك التسريبات، التي استندت إلى أكثر من خمسة مصادر مختلفة، كشفت أن الاجتماع شهدَ تراشقًا كلاميًا حادًا بين الشيخ من جهة، ووزير الخارجيّة الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان من جهة أخرى. وخلال هذا الحادثة، اتهم بن زايد السلطة الفلسطينيّة بالفساد والتقاعس عن إجراء الإصلاحات المطلوبة، كما وصف مسؤولي السلطة بـ “عديمي الفائدة”، معتبرًا أنّ استبدال أحدهم بالآخر لن يؤدّي إلى تغيير النتائج الموجودة حاليًا. هكذا، ختم بن زايد هجومه بالسؤال –أمام بلينكن- عن جدوى تقديم الإمارات الدعم المالي للسلطة الفلسطينيّة، في ظل الظروف القائمة حاليًا.

كان هناك العديد من العوامل التي تضفي حساسيّة خاصّة على هذا الحدث، الذي أكّد حصوله الجانب الإماراتي، ورفض الشيخ التعليق عليه. إذ سلّط هذا السجال الضوء مجددًا على انعدام الثقّة الذي يحكم علاقة المسؤولين الإماراتيين بالسلطة الفلسطينيّة القائمة، وعلى رغبتهم الدفينة بتقليص صلاحيّة ونفوذ رئيس السلطة الحالي محمود عبّاس. مع الإشارة إلى أنّ هدف الاجتماع، الذي شهد السجال، لم يكن سوى البحث في خطّة مشتركة لإدارة قطاع غزّة، بعد انتهاء الحرب.

البديل الإماراتي المطروح: محمد دحلان

أما البديل الذي تعمل عليه الإمارات منذ سنوات، فهو القيادي الفلسطيني محمد دحلان، المفصول من حركة فتح منذ العام 2011، والذي تولّى سابقًا –قبل العام 2007- مهام التنسيق الأمني بإسم السلطة الفلسطينيّة في قطاع غزّة.

بعد سيطرة حركة حماس على غزّة وخروجه منها، ومن ثم فصله من حركة فتح، انتقل دحلان للعمل كمستشار لدى أسرة “آل نهيان” الحاكمة في أبوظبي، كما تحوّل إلى الواجهة التي تشرف على مشاريع الإمارات المرتبطة بالملف الفلسطيني. وفي العام 2023، زعم دحلان أنّه وجّه أكثر من 50 مليون دولار من المساعدات الإماراتيّة إلى قطاع غزّة.

وعلى مدى السنوات السابقة، عمل دحلان بهدوء للعودة إلى الساحة السياسيّة الفلسطينيّة. رمّم علاقته –بشكل براغماتي- مع حركة حماس عام 2017، وذلك على الرغم من التاريخ الدموي بين الطرفين، الذي سبق سقوط حكم السلطة الفلسطينيّة في قطاع غزّة عام 2007. ومن خلال تلك المصالحة، أراد دحلان العمل داخل القطاع من خلال جمعيّاته ومؤسساته الإعلاميّة، بينما أرادت حركة حماس تسهيل دخول المساعدات والمشاريع الإماراتيّة لتخفيف أثر الحصار الإسرائيلي. وبهذا الشكل، خرج دحلان من عزلته بشكلٍ تدريجي.

وبعد بداية الحرب على قطاع غزّة، كثّف دحلان طلّاته الإعلاميّة، التي تحدّث خلالها كلاعب مؤثّر في المشهد السياسي الفلسطيني، طارحًا العديد من الخطط المتعلّقة بمستقبل الحُكم في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ومنها إنشاء حكومة تكنوقراط.

وداخل القطاع، عمل دحلان بنشاط على توزيع المعونات الإغاثيّة خلال الحرب، مستفيدًا من شبكة الجمعيّات والمجموعات المدعومة من قبله، ومن امتلاكه الدعم المالي الإماراتي. كما يشير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجيّة إلى استفادة دحلان من دعم بعض الجماعات المسلّحة المموّلة منه، والمنتشرة في عدّة مخيّمات للاجئين في الضفّة الغربيّة.

والإمارات اليوم تراهن على امتلاك دحلان العديد من المقوّمات التي تجعله يلعب دورًا سياسيًا مهمًا في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة. حيث يمتلك دحلان علاقة ممتازة بالنظام المصري، الممسك بحدود قطاع غزّة الجنوبيّة. بل إنّ دحلان نفسه لعب دورًا في تقريب وجهات النظر بين نظام السيسي وحركة حماس عام 2017، وهو ما أثار حفيظة حركة فتح يومها. وفي الوقت عينيه، يتمتّع دحلان بقبول إسرائيلي وأميركي، لكونه أشرف قبل العام 2007 على التنسيق الأمني الإسرائيلي الفلسطيني في قطاع غزّة، كما لعب دورًا كبيرًا في إنضاج صفقة التطبيع الإماراتيّة الإسرائيليّة.

على مستوى قطاع غزّة بوجهٍ خاص، يمتلك دحلان علاقات وخطوط تواصل مع فصائل المقاومة الفلسطينيّة، التي لم تعارض –لا قبل الحرب ولا خلالها- استفادة الفلسطينيين من مساعدته. غير أنّ مشكلة دحلان تبقى غياب الثقة الشّعبيّة به، بالنظر إلى تاريخه وسمعته المثيرين للجدل، وخصوصًا على مستوى العلاقة بالإمارات وإسرائيل.

كما من المستبعد أن تمنحه حركة حماس هامشًا يسمح له بلعب دور في إدارة قطاع غزّة بعد الحرب، على نحوٍ يتجاوز حدود توزيع المساعدات أو التوسّط مع مصر، بالنظر إلى ارتباطاته وطموحاته الشخصيّة التي لا تريح الحركة.

السعوديّة تنتظر صفقة التطبيع

بخلاف الإمارات، لا يبدو أن السعوديّة تجهد لتحضير بديل خاص بها داخل الساحة الفلسطينيّة، أو لاستبدال السلطة الفلسطينيّة القائمة بوجوه جديدة ذات طموح شخصي.

وعلى العكس تمامًا، تمسّك المسؤولون السعوديون في جميع الاجتماعات التي جرى عقدها في الرياض بفكرة دعم وتمكين السلطة الفلسطينيّة القائمة، مع إخضاعها لعمليّة “إصلاح” تمكّنها من فرض سيطرتها في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة على حدٍ سواء.

على هذا الأساس، تتركّز هذه الرؤية على إحلال السلطة الفلسطينيّة مكان حركة حماس في قطاع غزّة بعد الحرب، وهو ما يرفضه بشكل صارم رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو حتّى الآن.

حتّى اللّحظة، مازالت السعوديّة تربط صفقة التطبيع مع إسرائيل باتخاذ خطوات تمهّد لقيام الدولة الفلسطينيّة في المستقبل، وإن لم يتم قيام هذه الدولة بكامل عناصرها في الوقت الراهن. بهذا المعنى، ما تطلبه السعوديّة –مقابل التطبيع- هو اعتراف إسرائيلي بدور السلطة الفلسطينيّة، وتمكينها من ممارسة بعض الصلاحيّات على نطاق أوسع.

أمّا الانسحاب الإسرائيلي من الضفّة وتفكيك المستوطنات، فيمكن تركه لمرحلة لاحقة. وبطبيعة الحال، لن تحقّق هذه الخطوات المحدودة السيادة الفلسطينيّة على كامل الأراضي الفلسطينيّة بحسب حدود العام 1967، إلا أنّها ستسمح بالرهان على تنفيذ “إصلاحات” داخل السلطة الفلسطينيّة بمجرّد إعطائها المزيد من الصلاحيّات.

هذا المشهد، يشير إلى أنّ أولويّة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مازالت محصورة بإيجاد مخرج متواضع ومحدود الأفق، للمسألة الفلسطينيّة، دون المطالبة بخطوات كبيرة مثل تحقيق سيادة السلطة الفلسطينيّة على أراضيها، قبل توقيع اتفاقيّة التطبيع مع إسرائيل.

بالنسبة إلى بن سلمان، ثمّة حاجة لاتفاقيّة التطبيع –بعد الحرب- من أجل تسهيل وتسريع مسارات ومشاريع أخرى، مثل الاتفاقيّة الدفاعيّة بين السعوديّة والولايات المتحدة، وهو ما يدفع قيادة السعوديّة إلى حصر مطالبها الحاليّة المتعلّقة بالشأن الفلسطيني بالحد الأدنى.

قطر: البحث عن أدوار جديدة

منحت الحرب على غزّة السياسة الخارجيّة القطريّة أدوارًا جديدة وواسعة، من خلال علاقتها الوثيقة بقيادة حركة حماس في الدوحة. وعلى الرغم من تكرار الحديث والتسريبات –منذ بداية الحرب- عن احتمالات وخطط مغادرة المكتب السياسي للحركة الدوحة، كانت الحركة تكرّر نفيها القاطع لمثل هذه الأخبار، وهو ما أكّد عدم وجود تغيير جدّي في علاقة النظام القطري بحركة حماس.

بل ويمكن القول إن علاقة القيادة القطريّة بالحركة باتت حاجة أميركيّة وإسرائيليّة، بقدر ما كان وجود حماس في الدوحة حاجة فلسطينيّة، بالنظر إلى قناة التواصل والتفاوض التي أمنتها الدوحة للطرفين خلال هذه الحرب. وعلى هذا الأساس، من المرتقب أن تستثمر قطر سياسيًا هذا الدور الذي تمكنت من لعبه، والذي ستستمر بلعبه خلال الفترة المقبلة، من خلال فرض نفسها كشريك رئيس للولايات المتحدة في المنطقة العربيّة.

لكن هذه الحرب دفعت القيادة القطريّة للبحث عن أدوار جديدة في ساحات أخرى، ومنها على سبيل المثال لبنان. في أواخر شهر أيّار/مايو 2024، كشف وزير الاقتصاد والتجارة اللّبناني أمين سلام عن وجود عرض قطري لبناء معمل لإنتاج الطاقة بقدرة 450 ميغاواط.

وهذا ما أكّده لاحقًا وزير الطاقة والمياه وليد فيّاض، الذي أشار إلى حاجة البلاد لتشريع من المجلس النيابي ليدخل العرض حيّز التنفيذ. وجاء هذا الاهتمام القطري ليتبع خطوات سابقة جرى اتخاذها في القطاع عينيه، مثل دخول قطر كشريك ثالث في أعمال التنقيب عن الغاز في البلوكين 4 و9 اللّبنانيين، في شهر كانون الثاني/يناير 2023.

بالتوازي مع هذه المشاريع الاستثماريّة، كان الدور القطري يزداد فعاليّة على مستوى التوسّط لحل الخلافات السياسيّة الداخليّة، ومنها ملف الانتخابات الرئاسيّة. ومن المعلوم أن قطر تمتلك علاقات مميّزة مع أحد أبرز المرشّحين لمنصب رئاسة الجمهوريّة، أي قائد الجيش جوزيف عون، الذي تمكّن –وبشكل متكرّر- من الاستحصال على مساعدات ماليّة قطريّة، لتجاوز تداعيات الأزمة الاقتصاديّة على المؤسسة العسكريّة.

وعلى هذا النحو، كانت قطر توازي ما بين توسّع الأدوار التي تلعبها في الداخل اللّبناني، وتحسّن علاقتها بالمحور الذي ينتمي إليه حزب الله، أي أكثر الأحزاب اللّبنانيّة تأثيرًا ونفوذًا في الحياة السياسيّة المحليّة.

في النتيجة، تتنوّع الحسابات والمشاريع التي تحرص عليها كل من الدول الخليجيّة العربيّة الثلاث. ومن الواضح أنّ طموحات هذه الدول ستتعارض بشكلٍ كبيرٍ في كل ما يخص الملفّات الداخليّة الفلسطينيّة، وخصوصًا على مستوى مستقبل السلطة الفلسطينيّة، وطبيعة الدور الذي ستلعبه حركة حماس في المرحلة المقبلة. وهذا ما يطرح السؤال عن إمكانيّة تجدد الخلافات الحادّة داخل مجلس التعاون الخليجي، تمامًا كما جرى في مراحل سابقة، بسبب تعارض السياسات الخارجيّة للدول الأعضاء في المجلس.