بعد سقوط الأسد، فإن فعالية الحكومة الجديدة في إدارة التحديات الداخلية والعلاقات الخارجية سوف تحدد مستقبل سوريا والمسار الأوسع للشرق الأوسط.
علي نور الدين
أحدث سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأوّل 2024 زلزالًا سياسيًا على مستوى الشرق الأوسط، حيث تتابع المنطقة حتّى اللّحظة بتلمّس شكل التغيّرات التي ستتطرأ على توازنات القوّة، بين مختلف الأطراف الإقليميّة.
ومن الواضح جدًا أن ارتدادات هذا الحدث لن تقتصر على الساحة السوريّة فقط، بل ستمتد لتطال المشهد الإقليمي بأسره.
ما يمكن إدراكه بسهولة اليوم، هو حجم النفوذ الكبير الذي ستحصّله مستقبلًا تركيا بالدرجة الأولى، ومن بعدها قطر، بعدما نجح الرهان التاريخي للدولتين الحليفتين على المعارضة السوريّة.
أمّا إيران والجماعات المسلّحة الحليفة لها، فباتت عسكريًا خارج المشهد السوري تمامًا، وهو ما يثير الشك بقدرتها على إحياء خطوط إمداد السلاح باتجاه لبنان.
وبينما انكفأ الحضور العسكري الروسي نحو الساحل السوري، لا تزال دول الخليج التي طبّعت وتصالحت مع نظام الأسد –وخصوصًا السعوديّة والإمارات– متريّثة، بانتظار تبلور المشهد السياسي بشكلٍ واضح.
مستقبل نفوذ تركيا
عند مقاربة الأحداث الأخيرة في سوريا، لا يمكن تجاهل الدور الحاسم الذي لعبته تركيا منذ سنوات طويلة، الذي دعم المعارضة السوريّة المسلّحة وسمح لها بالاحتفاظ برقعة سيطرتها في شمال سوريا.
أي بعبارة أوضح، لم يكن بإمكان المعارضة المسلّحة التحضير لعمليّتها الأخيرة، وإسقاط نظام الأسد، لولا امتلاكها القوّة العسكريّة التي بنتها في إدلب وريف حلب، بتدريب وتسليح من الجيش التركي نفسه. وبقاء المعارضة المسلّحة في تلك المناطق أصلًا، كان بفضل الخطوط الحمر التي رسمتها تركيا منذ زمن طويل، التي منعت سيطرة النظام السوري وحلفائه على تلك المناطق.
بدأت تركيا بدعم تشكيل ما يُعرف بالجيش الوطني السوري في ريف حلب منذ العام 2017، بالتوازي مع توسّع الرقعة التي سيطر عليها الجيش التركي في شمال سوريا. وفي إدلب وريفها، ساهم الجيش التركي في جمع فصائل المعارضة المتناحرة تحت سقف “الجبهة الوطنيّة للتحرير” منذ العام 2018، بينما احتفظت المخابرات التركيّة بعلاقة خاصّة مع “هيئة تحرير الشام” التي تمركزت في إدلب أيضًا.
في كل تلك الأحداث، كان ثمّة دور خاص لشخصيّة تركيّة مثيرة للجدل، هي هاكان فيدان. فيدان كان، ولغاية العام 2023، مدير المخابرات العامّة التركيّة. ومن خلال هذا الدور، أشرف فيدان على ربط المؤسّسات المدنيّة في شمال سوريا بمثيلتها في تركيا، وعلى تنسيق علاقة بلاده مع الجماعات المسلّحة السوريّة المُعارضة.
ومنذ العام 2023، بات فيدان وزير خارجيّة بلاده، ومن هذا الموقع تولّى التفاوض مع المجتمع الدولي على مستقبل العمليّة السياسيّة في سوريا.
في هذه المرحلة، ما زال فيدان نفسه يمسك بالملف السوري، داخل حكومة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، مستفيدًا من علاقاته المتشعّبة داخل سوريا، ومن خبرته في التعامل مع الإشكاليّات المحليّة هناك.
وبعد أن صارت دمشق تحت سيطرة المُعارضة السوريّة المتحالفة مع أنقرة، أصبح فيدان يتحدّث بثقةٍ أكبر عن أولويّات بلاده داخل سوريا، على رأسها التخلّص من نفوذ “قوّات سوريا الديمقراطيّة” –ذات الأغلبيّة الكرديّة- في شرق سوريا.
حضور متوقّع لقطر والولايات المتحدة
في واقع الأمر، كان من المتوقّع أن تُظهر تركيا اعتدادها بالنفس بعد التطوّرات الأخيرة، طالما أنّ السلطات الجديدة في دمشق باتت تعتمد على مساعدة أنقرة لإعادة تشكيل مؤسّسات الدولة السوريّة، كما أشار أردوغان نفسه.
غير أن تركيا لن تكون مطلقة اليدين بشكلٍ كامل، في التخلّص من قوّات سوريا الديمقراطيّة، كما يطمح هاكان. فهذا المسار، سيحتاج إلى تفاهمات خاصّة مع الولايات المتحدة الأميركيّة، التي تحتفظ بتواجد عسكري مباشر في شرق سوريا، وذلك بهدف دعم قوّات سوريا الديمقراطيّة بالذات.
إلى جانب تركيا، يمكن اعتبار قطر أحد أبرز المستفيدين من سقوط نظام الأسد وسيطرة المعارضة المسلّحة على دمشق. فطوال السنوات الماضية، كانت قطر الدولة الخليجيّة الوحيدة التي رفضت تطبيع علاقتها مع نظام الأسد، نظرًا لعدم جديّة النظام في السّعي لحل سياسي ينهي الأزمة السوريّة.
وخلال الفترة السابقة أيضًا، حافظت الدوحة على علاقة مباشرة وإيجابيّة مع المعارضة السوريّة، بل ودعمتها من خلال الاستثمارات القطريّة في مناطق الشمال السوري.
لكل هذه الأسباب، ترجّح الكثير من التحليلات أن يكون للدول الثلاث، أي تركيا وقطر والولايات المتحدة، النفوذ الأكبر في الداخل السوري، مع دور تركي متقدّم على ما سواه.
وبينما تحتفظ قطر بقدرة استثنائيّة على دعم الفترة الانتقاليّة بالاستثمارات والتمويل المباشر، تمتلك تركيا طموحاتها الاقتصاديّة الخاصّة في شمال سوريا، وخصوصًا على مستوى التكامل التجاري والصناعي بين حلب وجنوب تركيا.
إيران وروسيا أبرز الخاسرين
منذ العام 2013 على أقل تقدير، كانت إيران حاضرة عسكريًا في سوريا، إمّا عبر عناصر الحرس الثوري الإيراني نفسه، أو عبر الجماعات المُسلّحة الشيعيّة الحليفة لها، الآتية من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان.
وطوال تلك السنوات، تمكّنت إيران من تحصيل مكاسب استثماريّة في سوريا، في قطاعات الطاقة واستخراج المعادن والصناعة، في مقابل الدعم العسكري الذي قدّمته طهران لنظام الأسد. ولولا هذا الدعم العسكري الإيراني المباشر، كان من المستبعد أن يصمد نظام الأسد أمام معارضيه على مدى تلك السنوات.
في بدايات الهجوم الذي قادته المعارضة السوريّة المسلّحة، الذي أسقط نظام الأسد، أدركت طهران أنّ الجيش السوري النظامي يعاني من ترهّل وضعف شديدين، في مقابل الإعداد الجيّد الذي أظهرته جماعة “هيئة تحرير الشام” المُعارضة.
على هذا الأساس، لم تجد طهران جدوى من بذل تضحيات كبيرة لإسناد جيش الأسد، كما أشار المرشد الأعلى للنظام الإيراني علي الخامنئي بشكلٍ صريح للغاية. وعلى ما يبدو، كان جيش الأسد قد تأثّر طوال الأعوام الماضية بالظروف الاقتصاديّة والماليّة، وهو ما أفقد جنوده الحافز القتالي المطلوب.
غير أنّ أداء إيران المنكفئ في تلك المعركة جاء مدفوعًا بعوامل أخرى. فقواعد الحرس الثوري الإيراني في سوريا تلقّت خلال الفترة الماضية ضربات قاسية من جانب إسرائيل، التي كانت تحاول عرقلة سلاسل توريد السلاح الذي يصل إلى حزب الله.
وحزب الله نفسه، كان يعاني من تبعات الحرب الإسرائيليّة على لبنان، هو ما جعله عاجزًا عن دعم نظام الأسد، بالقوّة نفسها التي أبداها في سوريا خلال العقد الماضي.
أمام كل هذه العوامل، خرجت إيران سريعًا من المعركة، وسحبت عناصرها –مع عناصر الجماعات المسلحة الحليفة لها- من سوريا، قبل أن تسقط العاصمة دمشق بيد المعارضة السوريّة المسلّحة. ومع رحيل الأسد، فقدت إيران النافذة التي دخلت منها إلى سوريا، وبات أقصى ما تنتظره اليوم هو عودة العلاقات الدبلوماسيّة مع دمشق.
أمّا الإشكاليّة الرئيسة التي يفترض أن تتعامل معها إيران حاليًا، فهي انقطاع سلاسل توريد السلاح التي كانت تربطها بحزب الله، والتي كانت تعتمد على المعابر غير النظاميّة بين لبنان وسوريا.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان بدوره منشغلًا بالاضطرارات التي فُرضت عليه مؤخرًا، في حربه على أوكرانيا. وهذا ما دفعه إلى تفادي إرسال أي قوّات عسكريّة بريّة روسيّة إضافيّة، لدعم الأسد، حين كانت المعارضة المُسلّحة تتقدّم إلى دمشق.
وفي الوقت الراهن، انكفأت القوّات الروسيّة الموجودة في سوريا إلى قاعدة الجيش الروسي الموجودة في طرطوس، بهدف إجلائها تدريجيًا عبر البحر. ويبدو أن روسيا، تمامًا كحال إيران، ستخرج عسكريًا من سوريا، بانتظار إعادة ترتيب علاقتها مع النظام الجديد في دمشق.
حذر بعض الدول العربيّة من سقوط الأسد
السعوديّة والإمارات العربيّة ومصر والأردن، بدت حذرة من مجريات الأمور في دمشق، ربما خوفًا من أن تؤدّي هذه التطوّرات إلى يقظة حركات الإسلام السياسي المُعارضة في مختلف البلدان العربيّة.
ولهذا السبب، حرصت هذه الدول على دعم حق الشعب السوري في تقرير مصيره، بعناوين فضفاضة وعموميّة، دون إبداء أي تفاؤل بسقوط نظام الأسد. مع الإشارة إلى أنّ هذه الدول كان قد سعت خلال السنوات الماضية إلى تطبيع علاقاتها بنظام الأسد، بل وإلى إعادة تمثيله في جامعة الدول العربيّة، في محاولة لاستعاب النظام ومنع انجرافه كليًا إلى المحور الذي تقوده طهران.
على هذا النحو، يبدو أنّ سقوط الأسد سيعيد ترتيب مساحات النفوذ، التي يملكها جميع اللاعبين المؤثرين في منطقة الشرق الأوسط. لكنّ جزءًا كبيرًا من تداعيات سقوط الأسد، على المستوى الإقليمي، ستحدده طبيعة المرحلة الانتقاليّة المقبلة في سوريا، ومدى قدرة السلطات الجديدة على استيعاب الوضع المستجد.
كما لم يتضّح حتّى الآن شكل السياسة الخارجيّة التي ستعتمدها السلطات الجديدة، وكيفيّة إدارتها للعلاقات مع مختلف الدول المجاورة.