وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

واقع ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الشرق الاوسط

Theresa-May-meets-Sheikh-Tamim-bin-Hamad-Al-Thani
رئيسة الوزراء تيريزا ماي تلتقي الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير قطر، خلال لقاء ثنائي في قمة مجلس التعاون الخليجي في المنامة، البحرين، 7 ديسمبر 2016. Photo CARL COURT

أعلن المذيع ديفيد ديمبلبي، وهو شاحبٌ الوجه، في الساعات الأولى من الرابع والعشرين من يونيو 2016 أنّ “الشعب البريطاني قال كلمته، لقد خرجنا.” كان مذيع البي بي سي المخضرم يُشير إلى تصويت بريطانيا للخروج من الإتحاد الأوروبي، أو ما سُمي بـ” Brexit’.” وبعد ساعاتٍ فحسب من النتيجة النهائية للاستفتاء، أعلن رئيس الوزراء ديفيد كاميرن استقالته، تاركاً بريطانيا والعالم بأسره في حالةٍ من الإرتباك لما ستؤول إليه الأمور. فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان قائماُ لا محالة، ولكن كيف ومتى وفي ظل أي ظروف، هذا ما لم يكن واضحاً.

وبعد ستة أشهر، القليل فحسب أصبح أكثر وضوحاً. فالحكومة حتى الآن لم “تتم” خروج بريطانيا رسمياً من الإتحاد الأوروبي، وبالتالي، في الوقت الحالي، لا تزال الفرضيات شائعةً حول ما سيعنيه بالضبط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وأخيراً، أوضحت، تيريزا ماي، خليفة كاميرون، في خطابٍ ألقته في 17 يناير 2017، أنّ الحكومة البريطانية تتجه نحو خروج بريطانيا “الصعب” من الإتحاد الأوروبي: ستقطع بريطانيا علاقاتها مع السوق الأوروبية الموحدة. حالياً، يوجد هناك مدرستين فكريتين عن عواقب هذا. ترى الأولى أن بريطانيا قد أضاعت بحماقة مكانتها المتراجعة بالفعل في العالم. فقد كتبت المُحاضرة في جامعة كامبريدج، كيرستي هيوز، أنّ قرار المملكة المتحدة “تهميش نفسها والتراجع إلى المذهب التجاري،” يشكل “عملاً أحمقاً.” في حين قالت ليندا كولي، أستاذ التاريخ في جامعة برنستون، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد منح “تشجيعاً متجدداً للوهم المترصد لمصير بريطانيا العالمي، الذي يخاطر بأن يتم تشتيته بشكلٍ خطير. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يهدد مرةً أخرى بتأجيل إعادة تقييمٍ خطيرة ومتأخرة بشكلٍ يرثى له لما يمكن أن تكون عليه عملياً السياسة الخارجية للمملكة المتحدة، التي باتت مكانتها أقل بكثير.”

المدرسة الفكرية الثانية، وهي الخط الحكومي الرسمي، تحمل وجهة نظرٍ معاكسة بالضبط: سيمنح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي البلاد الفرصة لإعادة مكانتها باعتبارها “بريطانيا عالمية” حقاً. فقد أكدت ماي على هذا في خطابها في يناير، بالرغم من أنها لم توضح كيف يمكن تحقيق هذا الطموح. “تتمثل الجائزة الكبرى لهذا البلد- الفرصة القادمة- باستغلال هذه اللحظة لبناء بريطانيا عالمية حقاً. بلدٌ يمد يده لأصدقائه القدامى وحلفائه الجدد على حد سواء. دولة تجارية عالمية كبرى، وواحدة من أشد المدافعين عن التجارة الحرة في أي مكان في العالم،” كما قالت. فقد تكرر مصطلحا “عالمي” و”تجارة حرة” في خطابها كثيراً، والخطابات الأخرى لكبار أعضاء مجلس الوزراء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بل اقترحوا أيضاً أن على بريطانيا العظمى أن تسعى جاهدةً لتصبح ملاذاً ضريبياً خارجياً يستثمر فيه المستثمرون الدوليون بحماس، مبالغ كبيرة من المال، مما يُعزز الاقتصاد البريطاني.

الخليج، أولولية استراتيجية

ضمن هذا الطموح الجديد، أصبح من الواضح بالفعل أن تكثيف العلاقات التجارية مع دول الخليج يتربع على قائمة الأولويات الاستراتيجية لبريطانيا. ففي سبتمبر الماضي 2016، استضافت ماي أمير قطر، في حين كان في استضافتها في شهر ديسمبر التالي 2016 ملك البحرين. فضلاً عن الزيارات رفيعة المستوى لسلطنة عُمان والإمارات العربية المتحدة، ومؤخراً، أكدّت الحكومة البريطانية التزامها ببناء قواعد عسكرية في سلطنة عُمان وفي البحرين لحاملتيّ الطائرات التي يجري العمل حالياً على بنائهما لصالح البحرية الملكية. كما يُعتبر بيع الأسلحة مصدر دخلٍ مربحٍ للغاية لمصنعيّ الأسلحة البريطانيين. فعلى سبيل المثال، منذ أن شاركت القوات المسلحة السعودية بالصراع في اليمن عام 2015، باعت المملكة المتحدة أسلحةً وطائراتٍ وذخائر بلغ إجمالي قيمتها 3,9 مليار يورو للمملكة العربية السعودية. إلا أنّ لهذه الصفقات المربحة ثمنٌ آخر، إذ أصبحت المملكة المتحدة طرفاُ في الصراعات الإقليمية، كما يحصل في اليمن، والذي تسبب بمقتل آلاف المدنيين، أو قمع المعارضة الداخلية، تماماً كما هو الحال في البحرين.

وفي خطابٍ ألقاه وزير الشؤون الخارجية بوريس جونسون، في ديسمبر 2016، يحدد فيه سياسة بريطانيا الخارجية في المرحلة التالية لخروجها من الاتحاد الأوروبي، أكدّ أيضاً على أن التجارة الحرة هي الفائدة الرئيسية لـ”بريطانيا العالمية.” وادعى جونسون أنّ أمن بريطانيا يعتمد على استقرار “الجوار الأكبر” في أوروبا. وذكر على وجه التحديد “المساحات غير المحكومة في الشرق الأوسط […] حيث الدولة القومية عُرضةٌ للخطر، حيث نكافح ضد كياناتٍ غير دولية الذين ينظرون إلى مفهوم النظام الليبرالي العالمي بازدراء.”

وفي خطابٍ ألقاه قائد البحرية، السير فيليب جونز، في العاصمة واشنطن في أكتوبر الماضي 2016، وهو ضابطٌ كبيرٌ في البحرية الملكية، ذكر أيضاً على وجه التحديد مصالح بريطانيا العالمية كدولةٍ تجارية، وإدعى “لا يوجد مكانٌ اليوم يعكس هذا بوضوحٍ أكبر من الخليج، حيث نعمل بشكلٍ وثيق مع الأسطول الخامس الأمريكي لتعزيز الاستقرار، ومكافحة الإرهاب، والحفاظ على ممرات الشحن مفتوحةً وآمنة أمام التجارة العالمية.” وفي محاضرةٍ في يوليو 2016، وصف جونز وجود البحرية الملكية في الخليج بأنه “التزامٌ استراتيجي لأربعين عاماً لمصالح المملكة المتحدة على المدى الطويل، التزامٌ لا يُظهر أي إشارة على تراجعه […]. كما أن افتتاح قاعدتنا البحرية الجديدة في البحرين في غضون السنوات القليلة المقبلة، سيعزز حرفياً التزام البحرية الملكية البريطانية في منطقة الخليج.” وشدد أيضاً، على وجه الخصوص، على أنّ الناقلتين الحربيتين الجديدتين (المتمركزتان في البحرين)، و”عدد معقولٌ من الطائرات،” سيكون حاسماً في تشكيل القوة العسكرية البريطانية في العالم، ويُقدم “القدرة القتالية الأقوى لحاملات الطائرات خارج الولايات المتحدة.” كل هذا بهدفٍ صريح لحماية الشركاء التجاريين لـ”بريطانيا العالمية،” في منطقة الخليج، وضمان الوصول إلى الممرات المائية الاستراتيجية مثل الخليج العربي ومضيق هرمز.

ومع ذلك، هناك عائقٌ ضخمٌ في الطريق، تجاهلته بدهاء كل من الخطب السياسية المختلفة لمايو وجونسون. فمن الواضح أن العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة أصبحت ذات ميزة استراتيجية إلى حدٍ أكبر بالنسبة للمملكة المتحدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن إدارة ترمب الجديدة تبنت لهجةً أشد مناهضةً لإيران، كما أنّ العديد من اللاعبين البارزين في الإدارة الجديدة معروفين بموقفهم الأيديولوجي والعنيف تجاه إيران والإسلام بشكلٍ عام. وفي الوقت نفسه، تحاول الحكومة البريطانية الاستفادة من الفرص التي منحها تخفيف العقوبات الغربية ضد ايران للشركات العالمية. ففي نوفمبر الماضي، كتبت وزارة التجارة البريطانية على موقعها الالكتروني: “إيران هي السوق الجديدة الأكبر التي تدخل الاقتصاد العالمي منذ أكثر من عقدٍ من الزمان، مما يوفر فرصاً كبيرة في معظم القطاعات، مع احتمالية التطور كلما توسع السوق في إيران.” قد تكون دول الخليج مهمةً لأسباب جغرافية- استراتيجية وعسكرية كسوقٍ للأسلحة، ولكن إيران، بعدد سكانها الكبير، تمثل سوقاً محتملةً غاية في الأهمية للسلع الاستهلاكية البريطانية. وبالرغم من ذلك، ينبغي على بريطانيا ما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، التنافس لمحاباة إيران أمام كتلة الاتحاد الأوروبي القوية والموحدة.

من جانبٍ آخر، هناك معارضةٌ داخلية في العديد من دول الخليج التي أصبحت من الشركاء الاستراتيجيين لبريطانيا، وذلك غالباً على خطوط المنافسة السُنية- الشيعية، مع لعب إيران دوراً حقيقاً أو تصورياً في إثارة هذه المعارضة. وباعتبارها جمهوريةً إسلامية، من الواضح أن إيران تمتلك أجندتها الخاصة في الخليج. وفي الأشهر والسنوات القادمة، قد يدفع هذا بإيران إلى صراعٍ مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية. فبريطانيا باتت مرتبطةً ارتباطاً وثيقاً بشكلٍ أكبر بالولايات المتحدة الأمريكية بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي. وبفعل هذا، قد تتعرض لخطرٍ شديد بالانجرار إلى تدخلٍ عسكري آخر في الخليج، مثل غزو العراق عام 2003؛ تدخلٌ لم تسعى إليه إلا أنه سيكون من الصعب تجنبه وسيضر بشدة طموحاتها الاقتصادية فيما يتعلق بإيران.