بعد قتالها في أحياء الموصل الشرقية في عام 2016، شنت القوات المسلحة العراقية هجوماً ثانٍ لاستعادة غرب الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية المتطرف “داعش” في فبراير الماضي. وقال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادى، الذى أعلن إنطلاق العملية العسكرية، أن “مهمتنا ستكون تحرير الشعب قبل تحرير الأرض.” بيد أنه فى الشهر الأول من العملية لقي حوالي 4 آلاف مدني مصرعهم ونزح 500 ألف شخص، وفقاً لما جاء فى تقريرٍ صادرٍ عن المرصد العراقي لحقوق الانسان الذي يستند إلى شهاداتٍ جمعها الناجون والفارين من أقارب الضحايا.
وقد أضافت الشوارع الضيقة في غرب الموصل والأحياء المكتظة بالسكان تحدياً إضافياً أمام القوات الحكومية التي تحاول التقدم. وفي الوقت نفسه، واصل التحالف الدولي لمكافحة “داعش،” وهو تحالفٌ تقوده الولايات المتحدة تشكل في سبتمبر 2014 تحت قيادة الرئيس باراك أوباما، شن ضرباتٍ جوية على غرب الموصل، ليستمر عدد القتلى المدنيين في الارتفاع. ووفقاً لدوناتيلا روفيرا، كبيرة مستشاري برنامج الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية، تشير الأدلة التي تم جمعها على الأرض في شرق الموصل إلى “نمط مثير للانزعاج” من الضربات الجوية للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، والتي دمرت منازل كاملة وبداخلها عائلات بأكملها.
كما قالت أن “عدد القتلى المدنيين الكبير يشير إلى أن قوات التحالف التي تقود الهجوم في الموصل فشلت في اتخاذ الاحتياطات الكافية لمنع وفيات المدنيين، في انتهاكٍ صارخ للقانون الإنساني الدولي”. مضيفةً “إن حقيقة أن السلطات العراقية نصحت، مراراً وتكراراً، المدنيين بالبقاء في منازلهم عوضاً عن الفرار من المنطقة، يُشير إلى أن قوات التحالف كان ينبغي لها أن تدرك أن هذه الضربات من المرجح أن تؤدي إلى أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين.”
فقد اشتد القتال بين 17 و25 مارس، عندما نفذت قوات التحالف سلسلة من الغارات الجوية. ولا يزال العدد الدقيق للضحايا المدنيين موضع نزاع. ومع ذلك، تُشير جميع الأرقام الصادرة إلى أن عشرات، إن لم يكن مئات، قضوا نحبهم. ففي غارةٍ واحدة، هدمت عدة منازل في حي الجديدة. وقد أصدر النقيب العراقي ليث ستار، من فريق الدفاع المدني الأول، الذي تم استدعاؤه إلى مكان الحادث بياناً قال فيه “أن عدد الضحايا بلغ 511 حتى الآن، ولا نعلم أين سنجد ضحايا آخرين، فبعضهم ألقاه عصف القصف على بعد مئات الأمتار، وبعضهم تناثر إلى أشلاء،” مضيفاً أن 187 طفلاً دون الخامسة عشرة من بين القتلى. وكان مسؤولون عراقيون أعلنوا في وقتٍ لاحق ان إجمالي عدد القتلى في صفوف المدنيين بلغ 300 قتيل.
ومباشرةً تقريباً، بدأت الأطراف المعنية تنأى بنفسها عن الفظائع والاتهامات المتداولة على من تقع المسؤولية. فقد أكدت القوات الأمريكية أنهم كانوا في المنطقة وقت وقوع الحادث ووعدوا بالتحقيق. وفى بيانٍ صوتي موجز من بغداد إلى البنتاغون قال الجنرال ستيفن تاونسند، القائد الأعلى للولايات المتحدة فى العراق، للصحفيين ان هناك “على الأقل احتمالاً ما” بأن لضربات التحالف الجوية دورٌ فى هذه الوفيات. وعليه، صدرت عدة بياناتٍ لتبرير الضرابات، فقد قالت قوات التحالف أنها هاجمت شاحنة تابعة لتنظيم “داعش” وأن الشاحنة كانت محملة بالمتفجرات. كما اتهمت السلطات العراقية “داعش” بتفخيخ المنطقة المستهدفة بالمتفجرات وتفجيرها، بعد إرغام السكان على البقاء في منازلهم.
وبغض النظر عن الظروف، فإن عدد المدنيين الذين قتلوا في غارةٍ جوية واحدة هو الأعلى منذ دخول القوات الأمريكية إلى العراق في عام 2003. وقد أثارت العملية أيضاً جدلاً حول التكتيكات العسكرية الأمريكية، حيث اتهمت القوات الامريكية بتجاهل قواعد الاشتباك الصارمة التى من شأنها ان تقلل من الخسائر فى صفوف المدنيين.
وأصدرت منظمة العفو الدولية عدة تقارير تزعم ارتكاب “أعمال تعذيب وقتل للقرويين” في فبراير على أيدي قوات الشرطة الاتحادية العراقية في الأجزاء الجنوبية والجنوبية الغربية من الموصل، فضلاً عن بلدتي الشورى والقيارة المجاورتين. وقالت لين معلوف، نائبة مدير قسم البحوث في المكتب الإقليمي لمنظمة العفو الدولية في بيروت، في بيانٍ “نفذ رجال يرتدون زي الشرطة الاتحادية عمليات قتل غير مشروعة، بعد أن قبضوا على سكان قرى جنوب الموصل، وقتلوهم عمداً مع سبق الإصرار. وتعرض السكان، في بعض الحالات، للتعذيب قبل أن يتم قتلهم بما يشبه الإعدام رمياً بالرصاص”.
وقدم تقريرٍ لاحق، أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش، أدلةً على “أقذر وأشد الهجمات فتكاً” ضد المدنيين أثناء العمليات. وأفادت المنظمة بأن قوة تسمى وحدة الاستجابة للطوارئ التابعة للشرطة الاتحادية العراقية تستخدم ما يسمى بالصواريخ البدائية الحاملة للذخائر(IRAM). وعلى الرغم من أن هيومن رايتس ووتش لم تذكر إصابات المدنيين الناجمة عن استخدام هذه الصواريخ، قالت إن طبيعتها العشوائية تجعل استخدامها في المناطق المدنية المأهولة بالسكان انتهاكاً خطيراً لقوانين الحرب، بل قد تصل إلى حد جرائم الحرب. ولم تنكر الحكومة العراقية استخدام هذه الأسلحة فى القتال.
كما أن السمات المميزة لداعش كانت واضحةً أيضاً، وفقاً لتقارير مختلفة وصفت قتل وإعدام أعداد كبيرة من المدنيين في الموصل أو استخدام المدنيين كدروعٍ بشرية. وقال مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في العراق أنه في بداية العملية في أكتوبر 2016، أجبر “داعش” حوالي 550 أسرة في محيط الموصل على دخول المدينة ومركزتهم بالقرب من مقر التنظيم، مما أدى إلى تعريضهم للأذى.
وفي مقابلات مع الموقع الإخباري العراقي، بغداد بوست، وصف عددٌ من شهود العيان عمليات الإعدام العاجلة التي نفذها “داعش.” وقالوا أن “داعش” أعدم أكثر من 39 شخصاً من حي القيروان كانوا يحاولون الفرار إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات الأمن العراقية. وتم تعليق بعض جثث الضحايا في الأماكن العامة لثني الآخرين عن الفرار.
دفع المدنيون حياتهم ثمناً لاتباع النصيحة الرسمية بالبقاء في منازلهم، إلا أن الآفاق المستقبلية للناجين ليست أفضل حالاً. فمئات الآلاف من المدنيين في الموصل لا يزالون محتجزون في الأجزاء الذي التي يُسيطر عليها تنظيم “داعش،” حيث تتضاءل إمدادات الغذاء والوقود والمياه الصالحة للشرب، بينما العنف واقعٌ يومي.