وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مواجهة المعتقدات الإشكالية في التشريعات الدينية: اليهودية قد تتبع الإسلام

إشكالية التشريعات الدينية التي تقود إلى التطرّف ليست حكراً على الإسلام. فهذه الحالة الإشكالية ظاهرة في معظم الديانات، لا سيما الديانة اليهودية.

 اليهودية قد تتبع الإسلام
صورة تم التقاطها يوم 3 أكتوبر 2022 لرجال وأطفال من اليهود المتطرفين وهم يؤدون شعائر “التشليخ” في مدينة نتانيا. المصدر: JACK GUEZ / AFP.

جيمس دورسي

باحث وصحفي حائز على جوائز، وباحث أول بمعهد الشرق الأوسط التابع لجامعة سنغافورة الوطنية.

ظلّت المسيحية واليهودية والهندوسية وغيرها من الأديان بمأمن من النقد لأكثر من عقدين. فبعد أحداث 11 سبتمبر، تركّز الانتباه الدولي على ما اعتبره مشكلات الإسلام والعنف الذي يُزعم أنها توّلده.

وتساءل الجميع: “ما الذي يجعل الشباب المسلم يفجر نفسه؟ ما الذي يغذّي العنف والاستعداد للتضحية بحياة المرء وحياة غيره من الأبرياء؟ وما الذي ينتج التسلط والتعصب ورفض التعددية في الإسلام؟”

لم يكن الإحباط والحرمان من الحقوق والتهميش واليأس والغضب إلا أسباباً هامشية.

لا شكّ في أن هذه العوامل كان لها دورٌ في ذلك، وكذلك إمكانية إرجاع هذه السلوكيات إلى النصوص الدينية.

وانبرى السياسيون المسلمون ورجال الدين وقادة العالم يرددون أن الإسلام ليس جزءاً من المشكلة.

لكن جمعية نهضة العلماء الإندونيسية، أكبر حركة مجتمع مدني مسلمة في العالم وأقربها إلى الاعتدال، سبحت عكس التيار بتأكيدها على أن الإسلام جزء من المشكلة.

لكن من المهم كذلك الانتباه إلى تأكيد الجمعية على أنه ليس الإسلام وحده من يحوي مضامين تشريعية قديمة وبالية أو إشكالية اليوم، بل أغلب الديانات كذلك إن لم يكن جميعها.

فقد أصبح ذلك جلياً في اليهودية. ولا يقتصر ذلك على صعود أكثر الحكومات انتماءً إلى اليمين المتطرف والقومية المتعصبة والمحافظة الدينية في تاريخ إسرائيل.

بل تجلّى ذلك في فرض إسرائيل أنّ حل الدولتين لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منتهي الصلاحية، وأنه ما من حل غير حل الدولة الواحدة وأنه أمر واقع.

من غير المرجّح أن يتغير هذا الوضع، فهو ليس طارئاً. ولذلك، أصبح السؤال عمّا ينبغي أن تكون عليه طبيعة هذه الدولة هو ما يجب أن يُتخذ القرار بشأنه ويدور حوله جوهر الصراع اليوم.

ويرى الباحثون مايكل بارنيت وناثان براون ومارك لينش وشبلي تلحمي في مقالهم المنشور مؤخراً في مجلة فورين أفيرز بعنوان “واقع الدولة الواحدة في إسرائيل: حان الوقت للتخلي عن حل الدولتين” أن “خيار الدولة الواحدة ليس احتمالاً مستقبلياً، بل هو موجود بالفعل، بغض النظر عمّا يعتقده الناس. فثمة دولة واحدة تتحكم فيما بين البحر الأبيض المتوسط ​​ونهر الأردن من دخول وخروج الأشخاص والبضائع، وتشرف على الأمن، وتقدر على فرض قراراتها وقوانينها وسياساتها على ملايين الأشخاص رغماً عنهم”.

وقد ترتكز رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على القومية المتشددة أكثر من الدينية المتشددة، رغم إظهاره التأييد لحل الدولتين ومحاولته الترويج لنفسه باعتباره صوتاً معتدلاً في الحكومة المتطرفة التي يرأسها.

ومع ذلك، فإن رؤية نتنياهو لا تواجه حتى سعي اليهود المتدينين إلى الاستحواذ على أراضي الفلسطينيين. فقد أكد عام 2019 أن “إسرائيل ليس دولة لكل مواطنيها” وإنما هي “دولة للشعب اليهودي فقط” وذلك بعد عام من تمرير الكنيست قانوناً بهذا الشأن.

علاوة على ذلك، يقرر خلق إسرائيل للحقائق على الأرض احتمالية بقاء الدولة الواحدة، وفي مقدمتها المستوطنات اليهودية التي تحول دون وجود أحياء فلسطينية قانونية ومستدامة، وتضع الأساس لممارسة سيادة الأمر الواقع الإسرائيلية وفقاً لتفسيرات المتدينين المتطرفين والقوميين والعنصريين للتشريع الديني.

عندما يتعلق الأمر بالسياسات الإقصائية والقمعية تجاه الآخر، فإن التأويل الديني الصهيوني المتشدد للتشريع اليهودي يتقاطع في عديد من النواحي مع أفكار تنظيم “الدولة الإسلامية” المتشدد، حتى وإن لم تؤيد أو تدعو إلى تطرف مماثل. ووصلت وحشية تنظيم الدولة إلى درجة قطع الرؤوس والاستعباد، وهو ما أفزع اليهود والمسلمين وأتباع الديانات الأخرى على حد سواء.

ويتعارض المفهوم الصهيوني الديني للدولة الواحدة في إسرائيل/فلسطين تماماً مع المفاهيم التقليدية مثل الدولة ثنائية القومية في إسرائيل/فلسطين التي تتمتع فيها المجتمعات باستقلال ثقافي، أو مفهوم الدولة المدنية التي يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية بغض النظر عن الإثنية أو العرق أو الدين.

وتستدعي المقاربة الدينية الصهيونية لحل الدولة الواحدة العقائد الإشكالية للتشريع اليهودي أو الهالاخاه.

وفي الواقع، يعد ظهور مقاربة الهالاخاه التي عززها صعود الحكومة الإسرائيلية الحالية انعكاساً لفشل الصهيونية في خلق دولة تجمع جميع اليهود بغض النظر عن تدينهم أو آرائهم الاجتماعية والسياسية والدينية بدل أن تكون دولة قبيلة يهودية تخط بالضرورة مساراً يختلف عن مسار غالبية اليهود الذين هم ليسوا جزءاً من الدولة.

كما يفسر التركيز على التشريع الديني اليهودي ما يبدو تعسفية وإذلالاً ووحشية وقسوة مفرطة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. فلا يمكن فهم ذلك كله إلا بإعادة جذوره إلى المفاهيم التشريعية اليهودية.

وتتضح مخاطر ترك العقائد الإشكالية في التشريعات الدينية دون تغيير في تعبيرات الصهيونية الدينية المتطرفة. وشأنها في ذلك شأن مختلف أشكال الإسلام المحافظ المتشدد كالوهابية والجهادية المتمثلة في تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، والقومية الهندوسية والمسيحية.

وقالت لارا فريدمان رئيسة مؤسسة السلام في الشرق الأوسط: “للّغة ثقلها وتأثيرها“. وردت فريدمان على المزاعم القائلة بأن الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود كان استثنائياً، وذلك بدل مساواته باضطهاد بقية الجماعات الدينية والإثنية الأخرى، بما في ذلك الفلسطينيون.

ويتيح الفشل في إصلاح التشريعات الديني تبرير المتشددين، بغض النظر عن دينهم، تشددهم وعنصريتهم وعنفهم استناداً إلى الشرائع الدينية.

وقد بدا القاضي الشرعي الفلسطيني محمد عبد الحافظ يوسف عزام مؤيداً لما قالته فريدمان عن تأثير اللغة، وذلك في مؤتمر حول دور التشريع الديني في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

بتطبيق مفاهيم التفوق العنصري، رأى القاضي الأزهري أن الشريعة الإسلامية حالت دون إبرام صفقة للسلام مع إسرائيل.

وقال: “لا دليل على تضمن المذهب السني ما يدعو إلى السلام”*.

وانتقد القاضي عنوان المؤتمر “بناء السلام بين إسرائيل وفلسطين على أساس فقه الحضارة عند أهل السنة والجماعة والتشريع اليهودي (الهالاخاه)” لأنه يضع الفقه السني أساساً للسلام.

واستشهد عزام بالآية الرابعة من سورة الإسراء، التي تسمى كذلك بسورة بني إسرائيل، وفيها يقول الله: “وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً” (الإسراء:4)

وقد تدل الآية على استثنائية اليهود، لكن علماءً بارزين فسروها تفسيراً أكثر حدّة.

واعتبر السيد أبو الأعلى المودودي، أحد أبرز علماء القرن العشرين، السورة إنذاراً للكفار “ليأخذوا العبرة من نهاية بني إسرائيل المأساوية وغيرهم من الأمم ويعودوا إلى الطريق قبل انتهاء الأجل القريب”.

وقال المودودي: “أنذر القرآن بني إسرائيل “انتفعوا بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) لإنّها فرصتكم الأخيرة. فإن تصرفتم الآن كما كنتم تتصرفون، فسوف تلقون عاقبة وخيمة”.

ومثلما بيّن عزام الذي تناول العقائد الإشكالية في الشريعة الإسلامية، فقد أثرت المفاهيم الشرعية اليهودية التي لا تقل عنها إشكالية في السلوك الصهيوني والإسرائيلي تجاه الفلسطينيين من اليوم الأول. فقد كانوا راسخين في المفاهيم القديمة عن الهوية اليهودية.

وقال الباحث السياسي مناحم كلاين: “لطالما كان الشعب اليهودي متمركزاً حول الإثنية، مؤمناً بتفوق جماعته الإثنية على بقية الأمم. وهو تصورٌ متعالٍ فجّ يتفوق فيه اليهودي على غير اليهودي. لكن على مدار التاريخ، افتقد هذا التعالي قوة الدولة وأجهزتها للسيطرة على غير اليهود”.

وكلاين هو واحد من عدة باحثين حدّدوا ملامح التعبيرات الحالية عن اليهودية المتشددة. ويطلق عليها كلاين المشيحانية اليهودية ويعتبرها “يهودية جديدة“.

ويرى كلاين أن “هذه اليهودية الجديدة لم تتشكل في بيت مدراش (مكان دراسة التوراة) كما كانت اليهودية الكلاسيكية، وإنما تشكلت في إطار نظام إسرائيلي مهيمن على الفلسطينيين. وتطورت المركزية حول الإثنية من أحد أشكال الوعي الذاتي إلى منهج عمل، ومن مهمة عالمية إلى القمع والاحتلال”.

وقال كلاين: “لقد مرت المشيحانية اليهودية بتحول كبير. وتصور الكتابات اليهودية الكلاسيكية قدوم عصر المشياح بعد حدوث كارثة أو أزمة كبرى، وآلام ميلاد المشياح، وحرب يأجوج ومأجوج. وكل هذه الأحداث تمثل جزءاً في التحول المشيحاني من التاريخي إلى ما يتجاوز التاريخي”.

وأضاف: “في المقابل، المشيحانية اليهودية الجديدة هي نتاج نجاحٍ تاريخي، وتحقيق السيادة اليهودية وممارسة السلطة على غير اليهود ممن حولهم”.

بدوره، أوضح عالم الاجتماع الإسرائيلي جدعون شافير ما يصفه بأنه تطور من امتياز يهودي علماني متصور برّر المطالبة بأرض فلسطين بناءً على الدين والإثنية والعرق، إلى مفاهيم عن التفوق اليهودي متجذرة في التشريع الديني اليهودي كما صاغها أعضاء الحكومة الإسرائيلية الحالية وأنصار الصهيونية الدينية المتشددة.

ولكلّ بحث منهما أهميته نظراً إلى ما يحتله الدين والتشريع الديني من صدارة في المطالبة الإسرائيلية بكامل فلسطين. وتسلط الادعاءات بالأحقية في الأرض ومعاملة الفلسطينيين الضوء على التعاليم الدينية اليهودية، كما فعلت أحداث 11 سبتمبر مع الإسلام من قبل.

وفي الوقت الحالي، تستمد الجماعات القومية المتشددة والمتدينين المتطرفين والمستوطنين مبادئهم من الصهيونية الدينية. وما زالت درجة انعكاس ذلك على توجهات غالبية الشعب الإسرائيلي غامضة، حتى مع فشل المظاهرات الأخيرة ضد إصلاحات حكومة نتنياهو القضائية في أخذ مخاوف الفلسطينيين بعين الاعتبار.

وأجرت القناة 13 الإسرائيلية استطلاعاً للرأي كشفت من خلاله أنه لو أُجريت الانتخابات اليوم، فإن حزب الليكود كان ليخسر 12 مقعداً من 32 مقعداً له في البرلمان. ورأى 71% من المستطلعين أن نتنياهو فشل في رئاسة الوزراء.

وأظهر الاستطلاع أنّ حال الأحزاب القومية المتطرفة والدينية المتشددة كان ليكون أفضل، إذ تبين أنها كانت لتخسر خمسة مقاعد من 25 مقعداً لها في البرلمان. وبعبارة أخرى، تمثل هذه الأحزاب أقلية ملتزمة نسبتها 20% من الشعب اليهودي الراسخ في إسرائيل، وهي نسبةٌ كبيرة، لكنها تبقى أقلية.

ومع ذلك، وبحسب استطلاع الرأي، ما كان تحالف نتنياهو ليظفر من الانتخابات الجديدة بأغلبية برلمانية.

بيد أنّ لنتائج الاستطلاع دلالات تتجاوز المنظور الذي يفرضه التحالف على مسار السياسة الإسرائيلية المتشددة في الضفة الغربية المحتلة والحدود الإسرائيلية مع غزة ولبنان وسوريا.

وحتى الآن، تشير الأرقام إلى أن التحفظ الديني المتشدد قد خاص جولاتٍ هامة على مستوى إعادة صياغة الصهيونية الدينية، ولكن تلك المحاولات لم تحصل بعد على تأييد أغلبية الجمهور العلماني التقليدي في إسرائيل.

كما أن هذه المحاولات بحاجة للقيام بما هو أكثر للحصول على قبول الصهيونيين المعتدلين. ويأتي هذا التصوّر على الرغم اتفاق الصهيونيين المتدينين بحسب قول الكاتب الإسرائيلي الصهيوني المتدين إيهود نيور، على أن “إسرائيل ليست دولة قومية بالمفهوم الغربي. بل إنها تحقيقٌ لنبوءات الكتاب المقدس التي تقول إن الشعب اليهودي كان من المفترض دائماً أن يكون في الأرض المقدسة وأن يتبع التوراة المقدسة، وإن فعلوا ذلك، فسيكون نوراً للعالم”.

وفي هذا السياق، يضيف نيور التالي: “هناك مهمة عالمية لليهودية. لقد اضطررنا إلى التفكير في ذلك بسبب الشتات وآلام ألفي سنة من الاضطهاد. الفكرة هي أن هناك أيديولوجية وراء هذا الاعتقاد الديني. إنه نهجٌ ديني وأيديولوجية سياسية في الوقت نفسه”.

ومع ذلك، فإن ظهور مفاهيم الهيمنة اليهودية الدينية له عواقب بعيدة المدى على حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، خاصة مع إدراك لاحتمالية تحقيق حل الدولتين وقبول الإسرائيليين والفلسطينيين حقيقة أنه محكوم عليهم بالعيش معاً في دولة واحدة.

ويكمن السؤال حول تأثير ذلك الإدراك على الرأي العام الإسرائيلي، والأهم من ذلك، أي دولة سيتصورها بذلك الإدراك.

ويقول كلاين: “في القرن الحادي والعشرين، نتج عن توسع المستوطنات وتحوّل السلطة الفلسطينية إلى مقاول يعمل لحساب إسرائيل نظامٌ واحد بين نهر الأردن والبحر المتوسط. فالمستوطنات لا تبنى ‘هناك’ بعيدا؛ بل ‘هنا’. فعلياً، إنه نظامٌ يقوم على الهيمنة اليهودية. ويكاد يكون عدد اليهود الذين يعيشون تحت هذا النظام مساوياً لعدد الفلسطينيين أو أقل قليلاً منه”.

كما أوضح السيد كلاين أن “الهيمنة اليهودية أيضاً رد فعل على التحدي الذي يطرحه مواطني إسرائيل الفلسطينيون. فإن اندماج هؤلاء المتزايد في المجال العام وسوق العمل اللذين يسيطر عليهما اليهود، مع تأكيدهم المتواصل على هويتهم الفلسطينية، وتعاونهم مع منظمات المجتمع المدني اليهودي، أدى إلى خلق واقع مختلط بالنسبة لهم أيضاً. إنه هجين عرقي مدني”.

وأضاف: “على الرغم من تعرّض هؤلاء الفلسطينيين للتفرقة والتمييز، فإن مواطنتهم مضمونة. وبالتالي، فهم يشكلون تهديداً لأسس النظام العرقية.”

رجالٌ مثل وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش يتصورون دولة يهودية دينية مبنية على الشريعة اليهودية، حيث يختفي الفلسطينيون منها في أفضل السيناريوهات، ولكنهم في الواقع سيتعرضون للتمييز والقمع السياسي، وسيُعاملون معاملة مواطنين من الدرجة الثانية.

ومع إدراك ذلك متأخراً، يبدو أن التطور من العلمانية نحو هيمنة دينية يهودية مبررة كان حتمياً.

وجاء ذلك التطور نتيجة تناول نصوص دينية مختلفة. فالحركة العمالية العلمانية واليسار، اللذان حكما إسرائيل في العقود الأولى من تأسيسها، استمدا أسس النظام من مصدر التشريع واللاهوتية الحاخامي الرئيسي، أي وهو التلمود.

وعلى عكس التناخ، فإن التلمود يركز تركيزاً أقل على تاريخ حياة اليهود في أرض إسرائيل في العصور القديمة. بل إن ما يركز عليه يجعله منهجاً للصهيونيين المتدينين والقوميين المتطرفين مثل بن غفير وسموتريتش.

وحسبما قال كلاين: “لم يكن من الممكن قيام دولة لها سيادة ذات أغلبية يهودية من دون التطهير العرقي الذي حدث في حرب 1948 وما تلاها من أحداث. في ذلك الوقت، بدأ نوع جديد من اليهودية يكتسب شكلاً وجوهراً. وتسارع ذلك التكوين بعد 1967 مع إنشاء المستوطنات. فقد حلت أسفار يشوع والقضاة والملوك الثاني في المدارس محلّ أسفار الأنبياء الذين دعوا إلى العدالة الاجتماعية والنظام الأخلاقي – كسفر إشعياء وإرميا وعاموس.”

وقد غذّى ذلك الانتقال من الحظوة إلى الهيمنة، كما يصفه عالم الاجتماع شافير، غزو إسرائيل للأراضي العربية عام 1967 وصعود زعيم اليمين مناحم بيغن بعد مرور عقد من الزمان لينظر إلى الضفة الغربية المحتلة كأراضي يهودا والسامرة الكتابية، وليس كدولة فلسطينية مستقبلية.

أثار هذا الانتقال أسئلة قانونية صعبة لدى الحاخامات الصهيونيين وعلماء الدين. فرغم أن “وصايا الفتوحات الحربية القاسية” التي دونها موسى بن ميمون في مؤلفه الديني “مشناه توراة” حرّمت عودة السيادة عربية على الأراضي المحتلة، إلا أنه كان يجب تحديد وضع سكان الأراضي المحتلة، وفقاً لما قاله شافير.

هل يمكن اعتبارهم “غير توشاف”، أي من غير اليهود المقيمين في أرض إسرائيل، وبأي شروط؟ أهم عبدة أوثان، أم أنهم من الملتزمين بالوصايا السبع لأبناء نوح التي تشكل المبادئ المفروضة على غير اليهود؟ هل قبلوا بالهيمنة اليهودية؟ وإن كانوا قد قبلوا، فهل كان من الضروري “ازدراؤهم وإذلالهم” وفقاً لوصايا بن ميمون، وكيف يستطيع المرء فعل ذلك؟ وما هو مصيرهم إذا استحال تعريفهم كغير توشاف، ولم يكن لديهم الحق في البقاء على الأرض؟

تجنب الإسرائيليون الإجابة عن هذه الأسئلة قبل الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عام 1967. وتجاهلتها إسرائيل بشكل فعال بينما كانت تحاول تحديد كيفية التعامل مع الأقلية غير اليهودية داخل حدودها القانونية. وبعد عام 1967، تغيرت إرادة الإسرائيليين وقدرتهم على مواصلة التجاهل بفعل تغير ديموغرافية الأراضي المحتلة، والتي حملت قدسية كبيرة عند للقوميين المتدينين.

لم يعد التملص من الإجابة خياراً. فالغزو اليهودي سلك منهجاً لا يختلف عما كان عليه الفتح الإسلامي، حيث كان انخراط الفاتحين سياسياً واجتماعياً سعياً إلى نظام اجتماعي في بلاد الإسلام يمكنه أن يوفّق بين الإسلام والحداثة.

مبادئ دولة الهالاخاه الصهيونية المتشددة ليست مختلفة عن مفاهيم تنظيم الدولة الإسلامية عن الخلافة، والإسلام السياسي، والفكر الجهادي، من حيث ما تعنيه لعامة الناس وأقليّتهم.

وبطبيعة الحال، فإن مراكمة الدعم لثيوقراطية يهودية أو إسلامية اقتضت أن يؤدي الدين المُسيس دوراً أكبر في تحديد الهوية.

وكيفما هو الحال في تنظيم الدولة الإسلامية، فإن التسييس ينطوي على طموح توسعيّ. ومن منظور الصهيونيين المتشددين، فإن دولة الهالاخاه الصهيونية هي دولة إسرائيل المسيطرة على كامل أرض إسرائيل القديمة، والتي حتماً لن يكون فيها مكان أو مقام لغير اليهود.

في حرب 1967، اقتضت الفرصة والضرورة أن يتم الاعتماد على الصهيونية المتشددة، حيث لم تعد السيطرة على الأرض مجرد إشكالية نظرية. وفي هذا الوضع، لم يعد بالإمكان “تجاهل وصية ميراث اليهود في أرض إسرائيل واستيطانها”.

وكانت النتيجة أنها أصبحت آلة حرب في صراع بين مفهوم صهيونية الهالاخاه المتشددة لأرض إسرائيل، ومفهوم الصهيونية العلمانية لدولة إسرائيل.

كانت معركة حقيقية. لم تكن كتلك المناقشات حول طبيعة “الدولة الإسلامية”، حيث طالت المناظرات التشريعية حول القوانين الحاكمة لشؤون الدولة، والحرب، وسياسات التعامل مع الأقليات لألف عام، فلم تكن تلك الأمور تشغل المجتمع الذي ليس له سيطرة على أرضه أو شؤون بلده الذي عُومل فيه كالأقليات.

يقول كلاين: “لم يسبق في التاريخ اليهودي أن يكون لليهود دولة ذات نفوذ إقليمي وتحكم شعباً آخر. لم تتح الفرصة لليهود قط ذلك الخليط من السيادة، والقوة، والهيمنة التي يستخدمونها الآن في قمع شعب آخر”.

وأشار برانت روزن، مؤسس مشارك للمجلس الحاخامي في مؤسسة الصوت اليهودي من أجل السلام، ورئيس سابق لجمعية إعادة الإعمار الحاخامية، إلى أنه “لطالما كانت اليهودية دين شتات. وقد عاش اليهود في شتات على مر تاريخهم… والسؤال هو كيف نضمن سلامة اليهود؟ هل يكمن الحل في القومية أو القومية العرقية؟ … سلامة اليهود على حساب سلامة شعب آخر ليست سلامة على الإطلاق.”

لم يكن لدى الصهيونيين المتدينين أدنى مساحة للتعامل مع التغيرات الهائلة في هيكل وشرعية الدولة منذ أن قام موسى بن ميمون بتدشين القانون اليهودي في القرن الثاني عشر.

الوصايا حملت منظوراً لا يبشر بالخير لليهود أو لغيرهم، وخاصة في القرن الحادي والعشرين. ورغم ذلك، فإنّ إنجاز ميمون المكون من 14 مجلداً هو مرجعيتهم الرئيسية.

لقد أثر ما دشنه بن ميمون من مبادئ اليهودية على التفكير التشريعي الإسلامي. وبقي ذلك الأثر في اليهودية والإسلام، رغم كونه لم يعد ملائماً للزمان أو الغرض.

إن مصطلح “غير توشاف” في الهالاخاه ليس مختلفاً بالكلية عن مصطلح الذميَ، لكنه قد اكتسب صلة مفاجئة بالواقع بعد مرور ألف عام.

فالغير توشاف، مثل الذميَ، عليه دفع الجزية، وليس له من الحقوق ما لليهود.

وكان بن ميمون يقول إن الغير توشاف يجب أن يكونوا “إذلّة ومهانين”، وليس لهم أن يرفعوا رؤوسهم في مواجهة إسرائيل، أو أن يُعاملوا معاملة تفضيلية.

يقتضي تأويل الصهيونية المعاصرة لتلك المبادئ أن تجبر حكومة إسرائيل الغير توشاف على القبول بسيادة الدولة اليهودية الإسرائيلية، ومعارضة ذلك يعرضهم لسلب أراضيهم. ويتغلغل هذا المبدأ في السياسات الإسرائيلية.

لقد تحول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى معادلة صفرية، حيث يكون البقاء “إما لنا، وإما لهم”. وإن جاءت الرياح بما تشتهي سفن الصهيونية المتشددة، فإنّ حلّ الدولة الواحدة التي تساوي بين مواطنيها وتحميهم جميعاً لن يكون مطروحاً.

إن ما يقتضيه المنطق هو الضغط على إسرائيل، خاصة من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. لا شك أن الضغط سيساعد، ولكن تماماً كما أخذت جمعية “نهضة العلماء” على عاتقها مواجهة المسائل القانونية والأيديولوجية والدينية التي تجعل الإسلام جزءاً من المشكلة بدلاً من الحل على عاتقها، سيتعيّن على اليهود القيام بالشيء ليهوديّتهم.

أحداث 11 سبتمبر أبرزت إشكاليات الإسلام للعالم. وبالمثل، قد تواجه إسرائيل واليهود وضعاً مماثلاً إن فاقمت السياسات الإسرائيلية الوضع في الأراضي المحتلة والقدس الشرقية.

تنويه: ورد في مقالة دورسي ترجمة خاطئة نقلها كاتب المقال عن مترجمة المؤتمر الذي شارك فيه الشيخ عزام. وقال عزام باللغة العربية التالي: ” لا يوجد هناك أي تكافؤ بين هاتين القوتين أو هذين الطرفين لكي أقول إن هنالك إمكانية لعمل أو تأصيل فقهي في الشريعة الإسلامية من أجل إيجاد تبريرات للاحتلال الإسرائيلي لما يقوم به في فلسطين التاريخية”.

ملاحظة

الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.

ملاحظة

تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع https://www.jamesmdorsey.net/ في 17 نيسان 2023