لن تجد إسرائيل الأمن إلا من خلال السلام مع الفلسطينيين وجيرانها العرب.
نيكولاس فان دام
كان بالإمكان تفادي هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 ببساطة، لو كانت إسرائيل على استعداد للتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين منذ زمن بعيد. وقد سنحت الفرصة مرات عديدة، ولكن إسرائيل تخيلت أنه باستطاعتها الإبقاء على الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى الأبد بالتزامن مع تقليل عدد الفلسطينيين إلى أدنى حد ممكن في نهاية المطاف.
وكانت إسرائيل على قناعة بأنها تستطيع الإفلات بأفعالها كلها دون مواجهة أي عواقب أو مساءلة، وذلك لأن معظم دول العالم الغربي، وخاصةً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، غضت الطرف عن جرائم الحرب التي لا تُحصى وانتهاكات القانون الدولي التي ارتكبتها إسرائيل. ولذلك تُعد هذه الدول مسؤولة مسؤوليةً مشتركةً عن جرائم إسرائيل.
ولا شك أن هذا كله لم يبدأ في السابع من أكتوبر، حين هاجمت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إسرائيل مما أسفر عن مقتل نحو 1100 إسرائيلي، بل بدأ الأمر في منتصف القرن التاسع عشر، عندما تبنت الصهيونية رؤية مسيحية إنجيلية عن نهاية الزمان، وأقدمت على ما زعمت أنه محاولة لإنقاذ يهود أوروبا من معاداة السامية.
ومع نهاية ذلك القرن تحولت الصهيونية إلى مشروع استيطاني استعماري في فلسطين، وأخذت تستهدف السكان الأصليين باعتبارهم غرباء يشكّلون عقبة رئيسية أمام إنشاء دولة يهودية “ديمقراطية” في قلب العالم العربي2.
وقد التزم الصهاينة مفهوم “الديمقراطية” الإسرائيلي مع اليهود فقط، لا الفلسطينيين أصحاب الأرض وسكانها الأصليين، إذ تجاهلتهم إسرائيل، أو عدّتهم على الأقل عقبةً في طريق الهيمنة اليهودية الصهيونية الكاملة على فلسطين.
تصرف الصهاينة الأجانب القادمون من أوروبا والولايات المتحدة وغيرهما كما تفعل طيور الوقواق التي تضع بيضها في أعشاش الطيور الأخرى ثم تستولي عليها، وهو ما حدث للفلسطينيين، بعدما احتكرت إسرائيل الأرض ودفعت السكان الأصليين خارج أرضهم.
وخلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، لما اتضح أن اليهود الصهاينة قد جاؤوا إلى فلسطين للاستيلاء عليها، بدأ الفلسطينيون في التصدي لهجرة الصهاينة وثاروا مراراً وتكراراً، ولكن دون جدوى. إذ تجاهل الصهاينة والانتداب البريطاني وفاعلون آخرون حق الفلسطينيين في تقرير المصير.
أُسست دولة إسرائيل وتاريخها اللاحق على الإرهاب اليهودي الصهيوني واسع النطاق. ورغم أن تاريخ “السابع من أكتوبر” قد يكون صادماً لكثير من الإسرائيليين، فإن تواريخ الأعمال الإرهابية الصهيونية والإسرائيلية الأفظع بحق الفلسطينيين لا حصر لها، ولم تُمح بالتأكيد من الذاكرة.
أُحيي هنا ذكرى مجزرة دير ياسين في 9 أبريل عام 1948، والتي شكّلت اللبِنة الأولى لــ”خطة دالت” الإسرائيلية التي كانت تستهدف تنفيذ تطهير عرقي ممنهج على نطاق واسع ضد الفلسطينيين. وتولت منظمة الإرجون الإرهابية الصهيونية تحت قيادة مناحم بيجين (من بيلاروسيا) ومنظمة شتيرن تحت قيادة إسحاق شامير (من بولندا)، اللذان توليا رئاسة وزراء إسرائيل لاحقاً، تنفيذ هذه الخطة (قبل إعلان تأسيس دولة إسرائيل). وليس من الواقعي أن يتوقع الإسرائيليون والجماعات المؤيدة لإسرائيل أن ينسى الفلسطينيون وغيرهم تلك الذكرى ويسامحوا من ارتكب جرائم الحرب تلك في حقهم.
ويشترك مؤيدو الصهيونية في الغرب معهم في عامل واحد، وهو أنهم يريدون هجرة اليهود إلى أي مكان آخر بعيدا عن دولهم.
وينطبق ذلك على المسيحيين “الصهاينة” الأوائل، وكذلك على اللورد بلفور صاحب وعد بلفور سيئ السمعة، بالإضافة إلى معظم الأجانب الذين دعموا إسرائيل دعماً لا لبس فيه. لم يكن بلفور – الذي لم يحاول إخفاء معاداته للسامية- يرغب في هجرة اليهود المضطهدين من روسيا ومناطق أخرى من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا العظمى، بل أراد لهم الذهاب إلى منطقة أخرى، أي فلسطين في هذه الحالة.
وقد اتخذ كثير من داعمي إسرائيل الموقف ذاته، فإذا سألنا كثيراً من أولئك الداعمين دولاً كانوا أو شعوباً عن استعدادهم لقبول واستيعاب ملايين اليهود في إسرائيل ليكونوا مواطنين في بلدانهم، فسوف يعتريهم الغضب وتنتابهم الصدمة، إذ يفضّلون إلقاء المشكلة على عاتق الآخرين، أي الفلسطينيون والدول العربية في هذه الحالة.
حضرت ذات مرة محاضرة ألقاها أحد أعضاء الكنيست الإسرائيلي، والذي قرأ بحماس مطلع وعد بلفور الذي ورد فيه أن “حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”. ولكن ذلك الإسرائيلي نفس أغفل الجزء الثاني من الوعد، والذي جاء فيه “على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين”.
بعبارة أخرى، كان على المستوطنين اليهود في فلسطين بالطبع أن يأخذوا بعين الاعتبار الغالبية العظمى من السكان الذين تبلغ نسبتهم 90% (!). ولو أن مبادئ وعد بلفور – إن كانت لها أي شرعية – كانت محل احترام، لما صارت تلك المسألة إشكالية كبرى للفلسطينيين، لكن اليهود الصهاينة لم يفعلوا ذلك وتجاهلوا الجزء الثاني من الوعد تماماً.
في البداية، أصبح اليهود الصهاينة مواطنين فلسطينيين تحت الانتداب البريطاني. ومع ذلك، بعد تأسيس إسرائيل، بدؤوا ينكرون وجود فلسطين والفلسطينيين، وروّجوا الكذب لشعاراتهم الخيالية مثل أن فلسطين “وطن بلا شعب”، وأنها “مقدرة لليهود” لأنهم “شعب بلا وطن”.
ولم يكن هدف حماس الرئيسي من هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر، والذي أُطلق عليه اسم “طوفان الأقصى”، سوى إعادة فلسطين إلى أجندة السياسة الدولية. إذ أن حماس لم تظن أن لديها أي أمل في النصر أبداً على إسرائيل التي تمتلك أقوى جيش في الشرق الأوسط على الإطلاق من خلال طائراتها الشراعية ودراجاتها النارية ومدافعها الرشاشة وصواريخها البدائية.
وقد نجحت حماس بالتأكيد في إعادة فلسطين إلى الأجندة السياسية مرة أخرى، وذلك على الرغم من التكلفة المادية والبشرية الهائلة التي فاقت توقعات الحركة على الأرجح. وعلى أي حال، فإن حماس لم تكن لديها أي فرصة ولو بسيطة في تهديد وجود إسرائيل.
ولولا هجوم حماس، لاختفت فلسطين حتماً من الأجندات السياسية، خاصةً وأن إسرائيل نجحت على ما يبدو في التحايل على القضية من خلال عقد اتفاقيات سلام منفصلة مع دول عربية مختلفة عُرفت باسم اتفاقيات إبراهيم.
لم تتعلم إسرائيل أي دروس من حرب أكتوبر 1973 والتي بدأتها مصر وسوريا فقط من أجل استعادة أراضيهما المحتلة في سيناء وهضبة الجولان3. إذ تخيلت إسرائيل على نحو مخالف للواقع أن بإمكانها الإبقاء على تلك الأراضي المحتلة للأبد. ولذلك كان هجوم مصر وسوريا في السادس من أكتوبر مفاجئاً لها تماماَ، مثلما كان هجوم حماس بعد خمسين عاماً في السابع من أكتوبر مفاجئاً. وبسبب غرور إسرائيل بتفوقها العسكري، لم تكن في ذلك الوقت مهتمة على الإطلاق بأي محادثات سلام مع مصر، فضلاً عن سوريا.
وكان اهتمام إسرائيل أقل من ذلك في ما يخص أي اتفاقات سلام جادة مع الفلسطينيين، لأن ذلك يعني ضمنياً أن عليها تسليم الفلسطينيين أراضيهم التي احتلتها منذ حرب عام 1967، فضلاً عن تبادل بعض الأراضي الأخرى أيضاً. ولكن حزب الليكود الحاكم أعلن عام 1977 أن “يهودا والسامرة [الضفة الغربية] لن تُسلما إلى أي إدارة أجنبية” وأن ” المنطقة ما بين نهر الأردن والبحر [الأبيض المتوسط] لن تخضع لأي سيادة بخلاف إسرائيل”.
وبينما مُنع الشعار المؤيد للفلسطينيين “فلسطين حرة من البحر إلى النهر” وتعرض لانتقادات لاذعة في عدد من الدول الغربية الداعمة لإسرائيل باعتباره “تهديداً لإسرائيل”، أصبح شعار الليكود المماثل مسلّماً به من دون أي تداعيات على إسرائيل. وذلك رغم أن هذا الشعار قد وُضع موضع التنفيذ منذ عقود من الزمن من خلال العديد من جرائم الحرب البشعة بحق الفلسطينيين.
وإذا أخذنا إعلان حزب الليكود في الاعتبار، فسنخرج باستنتاج واضح مفاده أن أي حكومة إسرائيلية تحت قيادة الليكود منذ عام 1977 لم تكن على استعداد للانسحاب من الضفة الغربية والقدس الشرقية، فضلاً عن قبول حل الدولتين.
ويُعد وجود نحو 750 ألف مستوطن يهودي غير شرعي في الأراضي المحتلة بالضفة الغربية والقدس الشرقية أوضح مؤشر على نية إسرائيل احتلال تلك الأراضي للبقاء فيها. وتعرضت المستوطنات لانتقاد الدول الغربية بين الحين والآخر باعتبارها “عقبة أمام السلام”، لكن النقد لم يتجاوز ذلك.
وباستثناء بعض التصريحات السياسية التي انتقدت ذلك الوضع، لم يتطرق الأمر إلى أي عقوبات، وظل كثيرون في الغرب يصورون إسرائيل باعتبارها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، و”الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”، و الدولة التي “جعلت الصحراء تزدهر”، وغير ذلك من كليشيهات البروباجندا الصهيونية المنافية للواقع. وقد مرّ ذلك بينما ترتكب إسرائيل آلاف إن لم يكن ملايين من جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، وحملات التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وأشكال بشعة من التمييز ضد الفلسطينيين داخل إسرائيل نفسها والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. 4
ليست القضية الرئيسية الآن مجرد مسألة وقف إطلاق النار في غزة، بل تتعلق بكثير من الأمور من أجل التوصل إلى حل نهائي للفلسطينيين ووجود الإسرائيليين في أرضهم فلسطين وفي العالم العربي. وإن التوصل إلى اتفاق سلام هو وحده الكفيل بمنع وقوع هجمات مماثلة في المستقبل، وذلك لأن السلام يعني انتفاء الذريعة. ولن تجد إسرائيل الأمن إلا من خلال السلام مع الفلسطينيين وجيرانها العرب.
فما هي التوقعات التي قد نشهدها في المستقبل؟ يبدو أن ثمة سيناريوهين رئيسيين:
1- استمرار العدوان الإسرائيلي كما هو حاله منذ بداية الوجود الصهيوني في فلسطين وحتى الآن. ويعني هذا السيناريو أن تستمر الحرب إلى أجل غير مسمى من دون أي آفاق حقيقية للسلام والأمن لإسرائيل والمنطقة. وسوف يؤدي ذلك إلى خلق المزيد من الأعداء لإسرائيل مثلما حدث على مدار القرن الماضي. ولن يكون هناك احتمال بأن نرى تلاشياً تدريجياً للكراهية العربية تجاه إسرائيل بسبب أفعالها، إن كان ثمة احتمال لحدوث ذلك أصلاً. فحتى بعد مرور 45 و30 عاماً منذ توقيع مصر والأردن على اتفاقيات السلام مع إسرائيل، ما تزال علاقتها بهما باردة للغاية خاصةً بسبب سلوك إسرائيل العدواني والذي يتضمن ارتكاب العديد من جرائم الحرب.
2- أن “تخاطر” إسرائيل بالتوصل إلى اتفاق سلام مع أعدائها في المنطقة، وهو ما يعني الانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة (1967) ومرتفعات الجولان، وقبول إقامة دولة فلسطينية. وفي حال توصلت إسرائيل إلى السلام مع جيرانها العرب كافةً، فإن ذلك لا يعني أنها ستكون في مأمن تام من المساءلة، أو أنها محصّنة من أي هجمات عربية ضدها مستقبلاً بهدف تسوية الحسابات عن جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل مرات لا تُحصى وأفلتت من العقاب بعدها. وقد كتب الزعيم الصهيوني الروسي زئيف جابوتنسكي عام 1923 أنه “ما دام العرب يشعرون بأن ثمة أملا بطردنا [اليهود الصهاينة في فلسطين]، فسوف يرفضون التنازل عن هذا الأمل”.5
ولكن إسرائيل لن تكون في خطر حقيقي طالما حافظت على تفوقها العسكري.
يعني السيناريو الأول أن إسرائيل وجيرانها لن يشهدوا سلاما أبداً. أما السيناريو البديل فيعني أن السلام قد يحل بين جميع الأطراف. وبما أن إسرائيل ليست مستعدة الآن للانسحاب طواعية من الأراضي الفلسطينية المحتلة (وكذلك من الأراضي السورية)، فسيكون لازماً أن تُرغم على ذلك.
أما السيناريو الثاني، فيصب في مصلحة أنصار إسرائيل أيضاً خاصة على المدى البعيد. ولكن ما دامت الدول المؤيدة لإسرائيل لا تسعى إلى إرغامها على هذا الحل، فلا بد إذً أن تقبل بأن الحرب سوف تستمر بلا نهاية، وهو ما يتعارض مع مصالحها ومصالح شعوب الشرق الأوسط.
قد يؤدي التخلي عن إجبار إسرائيل على السلام بشكل غير مباشر إلى جرّ العديد من الدول على غير رغبة منها إلى حرب إقليمية أوسع نطاقاً قد تكون لها عواقب مدمرة، ربما تشمل الدول العربية الحليفة للعديد من دول الغرب، بل وربما بعض أنصار إسرائيل من الغرب نفسه. وبذلك ستتحول إسرائيل بترسانتها النووية الضخمة من أصل استراتيجي، كما يفترض حلفاؤها وأصدقاؤها، لتصبح على الأرجح عبئاً هائلاً وخطراً على المنطقة بأكملها وما وراءها.
ولكن، ثمة طريق للحل. فالمسألة كلها هي مجرد اختيار للبديل المناسب من أجل منع مزيد من الكوارث التي يمكن تجنبها.
1.نيكولاس فان دام هو السفير الهولندي السابق في إندونيسيا وألمانيا وتركيا ومصر والعراق والمبعوث الخاص لسوريا. وعمل في لبنان والأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة وليبيا في بداية مشواره الدبلوماسي. كما نُشرت له بعض الكتب منها “The Struggle for Power in Syria” و “Destroying a Nation: The Civil War in Syria”.
2. Ilan Pappé, Lobbying for Israel on both sides of the Atlantic (2024), pp. 51-52.
3. Amnon Kapeliouk, Not by Omission. The case of the 1973 Arab-Israeli war (2022).
4.بحساب 750 ألف فلسطيني تعرضوا لتطهير عرقي، و750 ألف مستوطن يهودي، والعقاب الجماعي لأكثر من مليوني غزاوي، وقتل أكثر من 40 ألف مدني في غزة منذ السابع من أكتوبر، فسيكون لدينا ثلاثة مليون ونصف جريمة حرب إسرائيلية. والواقع أن عدد جرائم الحرب الإسرائيلية يتجاوز الملايين، بما في ذلك جرائمها في لبنان وسوريا والأردن ودول أخرى.
5. https://en.jabotinsky.org/media/9747/the-iron-wall.pdf