شهد شمال غرب سوريا، وتحديداً منطقة إدلب، تصعيداً عسكرياً واسع النطاق في مايو 2019، بغاراتٍ جوية عديدة من قبل الحكومة السورية وروسيا. بالإضافة إلى ذلك، شن الجيش السوري والقوات المعاونة هجماتٍ برية، وسيطروا على عدة مواقع، ولا سيما في شمال حماة. ما هو سبب هذا التصعيد؟ هل هذه هي الحملة الأخيرة لاستعادة آخر معقلٍ رئيسي للمتمردين في سوريا؟
الإجابة باختصار هي لا، فقد أوضح مراسل وكالة آنا نيوز الروسية الذي كان متواجداً عند الخطوط الأمامية وأحد أعضاء تشكيل موالٍ للحكومة والذي ينحدر في الأصل من محافظة إدلب، أن الهدف من العمليات الحالية ليس استعادة المنطقة الشمالية الغربية بأكملها. بدلاً من ذلك، يتمثل الهدف في استعادة مناطق محددة. وكما قال المصدر الثاني: “إنها عمليات ضغطٍ فحسب لتنفيذ بنود اتفاقية المناطق المنزوعة السلاح.”
كما قدم المراسل الروسي المزيد من التوضيح: “لم يمتثل المتمردون لاتفاق سوتشي وأطلقوا قذائف الهاون على مناطق آمنة وقاعدة حميميم الجوية. كما شنوا عدة هجماتٍ على مناطق الجيش السوري من مناطقهم في شمال حماة وسهل الغاب والريف شمال- شرق اللاذقية. تهدف هذه العملية إلى الضغط على المتمردين وتنفيذ الاتفاق بالقوة، إلى جانب فتح طريق حلب -اللاذقية وحلب – دمشق.”
بمعنى آخر، ينبع التصعيد الحالي من إحباط الحكومتين الروسية والسورية من تركيا بسبب فشلها المتصوَّر بعدم التزامها بالصفقة في اتفاقية سوتشي. تم توقيع الاتفاقية في سبتمبر 2018 بين تركيا وروسيا ودعت إلى الحفاظ على منطقة “تخفيض التصعيد” الأصلية التي تم الاتفاق عليها في إدلب. التزمت روسيا بضمان عدم وجود عملياتٍ عسكرية ضد إدلب، لكن الاتفاق ينص أيضاً على إنشاء “منطقة منزوعة السلاح” بعرض 15-20 كيلومتراً يتم فيها إخلاء “جميع الجماعات الإرهابية المتطرفة” بحلول 15 أكتوبر 2018. وعلى الرغم من الإتفاق بقيام كلٍ من روسيا وتركيا بتسيير دورياتٍ مشتركة لفرض تنفيذ المنطقة منزوعة السلاح، إلا أنه تم الإتفاق أيضاً على فتح الطرق السريعة إم 4 (حلب-اللاذقية) وإم 5 (حلب-حماة).
تعكس الاتفاقية رغبة روسيا في تعزيز مصالح الحكومة السورية (خاصة فيما يتعلق بالانتعاش الاقتصادي في فتح الطرق السريعة) مع مراعاة المخاوف التركية من احتمال زيادة اللاجئين باتجاه الحدود التركية في حال شن هجومٍ واسع النطاق على إدلب. وعلى الرغم من صعوبة تحديد كيف ستتم الأمور على وجه الدقة على المدى الطويل في إطار سيناريو التنفيذ الكامل للاتفاقية، فمن المحتمل أن روسيا تصورت “هبوطاً سلساً” في نهاية المطاف وعودة منطقة إدلب إلى سيطرة الحكومة السورية.
وفي وقتٍ سابق من هذا العام، بدأت تركيا في نشر دورياتٍ في المنطقة كجزءٍ من التطبيق المفترض لاتفاقية سوتشي، ومع ذلك، لم يتم تنفيذ معظم الشروط الأخرى للاتفاقية. وعلى الرغم من أن الاتفاقية لم تحدد “الجماعات الإرهابية المتطرفة” التي سيتم إخلاؤها من المنطقة المنزوعة السلاح، فمن شبه المؤكد أنه من وجهة نظر روسيا على الأقل، إن هذه الجماعات تضمنت هيئة التحرير الشام، والتي تُشكل مشكلةً على وجه الخصوص لكونها العنصر الفاعل المُسيطر في شمال غرب سوريا. ومن الجدير بالذكر أن هيئة تحرير الشام انبثقت عن جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا، إلا أنها قطعت علاقاتها بالقاعدة.
كان موقف هيئة تحرير الشام تجاه اتفاق سوتشي مثار جدلٍ كبير في الأوساط الجهادية، فمن وجهة نظر الجهاديين الأكثر تشدداً، كان من المفترض أن تمتثل هيئة تحرير الشام للاتفاق من خلال السماح بوجود الدوريات التركية وتجميد الخطوط الأمامية العسكرية في الشمال الغربي. ينظر هؤلاء الجهاديون إلى موقف هيئة تحرير الشام المفترض باعتباره جزءاً من نمطٍ أوسع غير مقبول للجماعة بالتنازل عن المبادىء للتوصل إلى اتفاقٍ مع تركيا، التي تحجم عن مواجهة هيئة تحرير الشام عسكرياً.
ومع ذلك، قبل التصعيد الأخير، كان هناك اشتباكاتٌ محلية بين القوات الموالية للحكومة والمتمردين وهجماتٍ على قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية. كما لم يتم إنشاء منطقة حقيقية منزوعة السلاح وتطهيرها من هيئة تحرير الشام وغيرها من الجهاديين.
من جانبها، من غير المحتمل أن تشارك تركيا في تدخلٍ عسكري مباشر نيابة عن المتمردين، لكن يمكنها “التصعيد المضاد” بشكلٍ غير مباشر في محاولة لإقناع روسيا والحكومة السورية بأن تكلفة هجومها المحدود الحالي سيكون ذو ثمنٍ باهظ. فعلى سبيل المثال، يشارك بعض أفراد “الجيش الوطني” لقوات المتمردين المتمركزة في ريف حلب الشمالي الذي تحتله تركيا في عملياتٍ على الخطوط الأمامية. ونظراً لعدم قدرة قوات الجيش الوطني على التعبئة والانخراط بالعمليات دون موافقةٍ تركية، فلا بد أن تركيا سمحت بمشاركتها كجزءٍ من التصعيد المضاد.
كما كان هناك أيضاً تقارير تفيد بأن تركيا قدمت أسلحةً إضافية لقوات المتمردين، بما في ذلك صواريخ تاو المضادة للدروع والتي يتعين على الولايات المتحدة الموافقة على إخراجها من المخازن. إن سماح الولايات المتحدة بتعزيز المتمردين لترسانتهم بهذه الطريقة يعكس معارضتها الخاصة للحملة العسكرية من قبل الحكومة السورية وروسيا، على الرغم من أن الولايات المتحدة استُبعدت من إطار العمل الأصلي لخفض التصعيد واتفاق سوتشي.
في المقابل، قد يؤدي هذا التصعيد المضاد إلى دعمٍ إيراني أكبر لحليفها السوري، إذ يمكن بالتأكيد رؤية وحدات المقاتلين السوريين المدعومة من إيران في محافظات اللاذقية وحماة وحلب، في المناطق القريبة من الخطوط الأمامية في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، إلا أنهم لم يلعبوا أي دورٍ قيادي في الهجوم الحالي. بيد أن هذا قد يتغير إذا ما استمر التصعيد.
على أي حال، في حين أن القتال سيكون صعباً بالنسبة لكلا الجانبين، فإن ميزان القوى يميل في نهاية المطاف ضد المتمردين، دون تدخلٍ عسكري مباشر من جانب أي ممثلٍ دولي بالنيابة عنهم.