إقليم كردستان العراق، الذي يشكل نموذجا ناجحا لباقي محافظات العراق لجهة الأمان والانتعاش الاقتصادي والخدمي، بات محاصرا بنيران الأزمات أكثر من أي وقت مضى.
حسين علي الزعبي
إقليم كردستان العراق، الذي يشكل نموذجا ناجحا لباقي محافظات العراق لجهة الأمان والانتعاش الاقتصادي والخدمي، بات محاصرا بنيران الأزمات أكثر من أي وقت مضى. أزمات كردستان العراق ذات مستويات ثلاثة. ويتعلق المستوى الأول من أزمات الإقليم بالقوى الفاعلة فيه. ويتصل المستوى الثاني بالعلاقة مع الحكومة المركزية في بغداد. وأما المستوى الثالث فيرتبط بالعلاقة مع دول الجوار.
واشتد أوار المستوى الثالث من أزمات الإقليم منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية العراقية في عام 2021. بيد أن أزمات هذا المستوى وصلت إلى ذروتها بعد اندلاع الاحتجاجات في إيران. وتتهم طهران الإقليم باستضافة أحزاب انفصالية تسعى لزعزعة نظام حكمها. وتزامن ذلك مع الحملة العسكرية التي تشنها تركيا ضد عناصر حزب العمال الكردستاني التي تتخذ من جبال قنديل شمالي العراق مقار لها.
يسيطر الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني بشكل رئيسي على الحياة السياسية في الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي استنادا إلى معاهدة مارس 1970 الموقعة بين الحكومة العراقية والمعارضة الكردية. وفي عام 1991، أنشئت في الشمال منطقة حظر الطيران بعد حرب الخليج الثانية. وبمغادرة القوات العراقية كردستان العراق في أكتوبر 1991، غدت المنطقة مستقلة ذاتيًا بحكم الواقع. إلا أن أيًا من الحزبين الكرديين لم یعلن الاستقلال في ذلك الوقت. ولا يزال الإقليم يعتبر نفسه جزءاً من العراق في سياق حكم “اتحادي” فيدرالي كما ينص الدستور العراقي.
الفيدرالية
يقوم الاتحاد الفيدرالي على مجموعة من الأسس أبرزها وجود دستور اتحادي يبين الأسس التي تقوم عليها الأقاليم داخل الدولة. ويحدّد الدستور الاختصاصات والسلطات الاتحادية وصلاحيات الأقاليم. وجرت العادة على أن يستند حكم الأقاليم إلى وجود رئيس وحكومة وبرلمان مصغر. وتتمتع الأقاليم بنسبة من الثروات الباطنية والاقتصادية وفق نسبة عدد سكانه إلى عدد سكان الدولة الاتحادية.
ويجري انتخاب حكومات الأقاليم بإشراف الحكومة المركزية وجهات مستقلة. ولا يحقّ للإقليم تبادل التمثيل الدبلوماسي أو إقامة سفارة أو هيئة مصالح مشتركة مع دول أخرى إلا بموافقة الحكومة المركزية.
أما أهم الاختصاصات التي تتمتع بها عادة الحكومة الفيدرالية المركزية فتتمثل بالدفاع، والسياسة الخارجية، والسياسة الاقتصادية. وتضع الحكومة الفيدرالية خطط التنمية بعد مشاورة الحكومات الإقليمية. كما أنها تصدر العملة وتدير المصارف وتنظّم الميزانية العامة. ومن صلاحياتها تحديد المبالغ اللازمة لميزانيات الأقاليم، فضلاً عن الرقابة المالية وإدارة الشؤون المدنية وشؤون الجنسية والأجانب والإقامة والسفر. ويحقّ للحكومة المحلية (الإقليمية) إصدار التشريعات الخاصة بها لمنح الجنسية شرط عدم ذلك مع الدستور الفيدرالي.
ويتمتع إقليم كردستان العراق بحكم ديمقراطي برلماني. ويتواجد في برلمان الإقليم 111 مقعدًا. وكان مسعود البارزاني أول من شغل منصب رئيس إقليم كردستان العراق. وتم انتخاب البارزاني رئيساً للإقليم في بداية عام 2005. كما أعيد انتخابه في عام 2009. وفي يونيو 2019، تم انتخاب نيجيرفان بارزاني رئيساً جديداً للإقليم المكوّن من ثلاث محافظات هي دهوك وأربيل والسليمانية.
معادلة جديدة
ولّدت الانتخابات التشريعية الأخيرة والتحالفات الأولية التي نتجت عنها حالة استقطاب وانقسام سياسي هو الأكثر حدة منذ سقوط النظام السابق. وطال هذا الانقسام القوى السياسية في الإقليم. وتحالف الاتحاد الوطني الكردستاني مع الإطار التنسيقي المكوّن من قوى سياسية شيعية مدعومة إيرانياً. في المقابل، تحالف الحزب الديمقراطي الكردستاني مع التيار الصدري وقوى سنية.
وكان التحالف الثاني قد طرح مشروع حكومة الأغلبية الوطنية. وبحسب الكاتب العراقي حاتم عبد الواحد، فإن هذا المشروع كان له أن يسحب البساط من تحت الميليشيات المسلحة عبر حصر السلاح بيد الدولة والمضي في توجهات من شأنها إعادة هيبة الدولة. وقال عبد الواحد لفنك إن الاتحاد الوطني “اختار التحالف مع حلفاء إيران لوجود علاقات تاريخية بين هذا الحزب وإيران منذ فترة حكم نظام صدام حسين”.
ومن الأسباب التي دفعت الحزب للمضي قدماً في التحالف مع الإطار التنسيقي وعود الأخير بدعم مرشح الحزب لمنصب رئيس الجمهورية في مواجهة مرشح الحزب الديمقراطي. ويأتي خيار الاتحاد الوطني الكردستاني في سياق المنافسة التقليدية مع الحزب الديمقراطي للاستحواذ على الحصة الأكبر من رصيد المكون الكردي على مستوى إدارة الإقليم أو على مستوى الحكومة الحيادية.
خريطة التحالفات الأولية سقطت، كما يرى عبد الواحد، بفعل ضغوط القوى السياسية والفصائل المسلحة على حلفاء التيار الصدري. وتمثّل هذا الضغط بقصف مقرات أحزاب ائتلاف السيادة ومقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني والضغط الإيراني على مقتدى الصدر.
الزيارات التي قام بها إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس، للضغط على الصدر تزامنت مع استهداف الحرس الثوري الإيراني لمدينة أربيل بذريعة وجود مقرات للموساد. ويرى عبد الواحد أن الهدف الحقيقي من الضغط كان دفع مسعود البارزاني للتخلي عن تحالفه مع الصدر.
الصدر فاجأ حلفاءه بإعلانه سحب 73 نائبا من البرلمان، ليتحول أصحاب مشروع الاغلبية الوطنية إلى أقلية في البرلمان. وصار لزاماً على أصحاب المشروع السير في ركب الإطار التنسيقي لتشكيل حكومة توافقية. وهذا ما حصل. إلا أن الحزب الديمقراطي اشترط للمشاركة في هذه الحكومة “تصفير” المشاكل التي كانت عالقة بين أربيل وبغداد.
وعود حكومة الإطار
دخل الحزب الديمقراطي الكردستاني في التحالف الحكومي الجديد. وجاء ذلك بعد موافقة الإطار على المطالب الكردية وأبرزها تجميد قرار المحكمة الاتحادية بمنع إقليم كردستان من تصدير نفطه، وإقرار قانون النفط والغاز عبر البرلمان العراقي. أما فيما يتعلق بتطبيق المادة 140 من الدستور العراقي، فقد اشترط الديمقراطي إلغاء قرار سحب البيشمركة من مدينة كركوك المتنازع عليها. كما اشترط الحزب أموراً أخرى لها طابعٌ عام، منها أن تكون الحكومة كاملة الصلاحية وأن تجري انتخابات مبكرة.
واستبعد الدكتور حذيفة المشهداني، وهو باحثٌ مختص في الشؤون العراقية، أن ينفّذ الإطار التنسيقي ما وعد به. وقال المشهداني لفنك: “سيماطل الإطار في تحقيق هذه المطالب. ما يدلّ على تلك المماطلة هو بدء حكومة الإطار التنسيقي بقضية كركوك المعقدة”.
والمادة 140 من دستور 2005 تتعلق بالمناطق التي تعرضت للتغيير الديمغرافي ولسياسة التعريب على يد نظام صدام حسين. وتنص المادة على آلية تضم ثلاث خطوات. وتتمثل الخطوة الأولى في “التطبيع” التي تعني علاج التغييرات التي طرأت على التركيبة السكانية في كركوك والمناطق المتنازع عليها. أما الخطوة الثانية فهي الإحصاء السكاني في تلك المناطق. وتتمثل الخطوة الثالثة في إجراء استفتاء قبل 31 ديسمبر 2007 لتحديد ما يريده سكان المدينة.
وفي الوقت الذي يرى فيه العرب والتركمان أن المادة بحاجة للتعديل مع انقضاء الإطار الزمني الخاص بتطبيقها، فإنهم يتهمون الأحزاب الكردية بجلب مئات الآلاف من الأكراد للسكن في تلك المناطق لتغيير هويتها الديمغرافية. وفي 3 ديسمبر 2022، جدّد الأحزاب والنواب التُركمان موقفهم الرافض لتطبيق المادة 140، محّذرين في الوقت ذاته من إمكانية اندلاع حرب أهلية بمحافظة كركوك المتنازع عليها بين أربيل وبغداد، في حال المضي في إجراءات تطبيق هذه المادة.
تصفير مشاكل أو الكونفدرالية
الوعود الأخيرة التي حصل عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني تشابه ما حصل عليه من وعود أثناء تشكيل التحالفات السابقة. واعتاد نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق ورأس الإطار التنسيقي، نكث تلك العهود بمجرد حصوله على الأصوات البرلمانية الكفيلة بتشكيل الحكومة. ولهذا السبب، تضغط القوى السياسية الكردية باتجاه تحقيق المطالب التي شاركت في الحكومة على أساس الوعد بتنفيذها.
وفي هذا السياق، دعا الرئيس العراقي عبد اللطيف جمال رشيد، وهو كردي، إلى ضرورة حلّ الخلافات والقضايا العالقة بين أربيل وبغداد. كما دعا رشيد إلى تشريع قانون النفط والغاز بشكل يرضي الطرفين. يأتي ذلك في الوقت الذي أشار فيه مسرور بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان، إلى وجود فرصة جديدة لإيجاد حلّ جذري لكل المشكلات. أما عرفات كرم، وهو مسؤول شؤون العراق في مقر رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، فأطلق تحذيراً إلى الإطار التنسيقي الشيعي. وجاء التهديد في تغريدة قال فيها: “إذا فشل الإطار في تصفير المشكلات بين بغداد وأربيل، فالكونفدرالية هي الحل الأنجع لإنهاء معاناة الشعوب العراقية”.
الكونفدرالية حلمٌ يسعى إليه العديد من الساسة الكرد للخلاص من الحالة الفيدرالية. ويتكون الاتحاد الكونفدرالي من رابطة تُكوِّن أعضاؤها دولاً مستقلة ذات سيادة. ويستند على مبادئ أساسية من أبرزها أن لكلّ دولة عضو حق الانسحاب متى شاءت لكونها دولة مستقلة. أما أعضاء الدولة الفيدرالية فليس لهم الحق لأنهم يعتبرون أقاليم وجزءاً لا يتجزأ من الدولة الفيدرالية، إلا في حال الاتفاق على إجراء استفتاء شعبي. ومن أبرز الفروق بين الفيدرالية والكونفدرالية أن كلّ خرق للقانون الدولي من قبل أحد أعضاء الدولة الكونفدرالية يتحمل نتائجه وحده وليس بقية الأعضاء والعكس هو الصحيح في الفيدرالية.
وليست هناك جنسية موحدة لمواطني الدولة الكونفدرالية، في حين أنها واحدة في الاتحاد الفيدرالي. ويتعدد رؤساء الدول بتعدد الدول في الاتحاد الكونفدرالي. ويكون لكل دولة رئيسها. أما الدولة الفيدرالية، فتتميز بوحدة رئيس الدولة.
جبهتان شمالية وشرقية
تفرض الجغرافيا السياسية لإقليم كردستان العراق والتوزع الديمغرافي للكرد في إيران وتركيا دفع أثمان الاضطرابات المتعلقة بالقومية الكردية في هاتين البلدين. وهذا ما بدا واضحا عبر انعكاس ما يحدث من احتجاجات في إيران على الإقليم. ووصل الأمر بإسماعيل قاآني إلى تهديد ساسة العراق، خلال زيارة غير معلنة إلى بغداد، بتنفيذ عملية عسكرية برية في شمال العراق ما لم يتم “نزع سلاح الجماعات الكردية المعارضة لإيران في شمال العراق، وتحصين الحدود لمنع التسلل”.
الباحث المختص في الشأن العراقي حاتم عبد الواحد يرى أن الضغط لا يتعلق بشكل مباشر بتسليح الأحزاب الكردية الإيرانية، وهو أمرٌ تنفيه أربيل. ويؤكد عبد الواحد أن الضغط يرتبط بما يمثله نموذج إقليم كردستان من حالة جاذبة للكرد في إيران وفي تركيا. كما أن الإقليم، والكلام لعبد الواحد، بات ملجأً للمعارضين من العراقيين، لاسيما من الشباب الشيعة الذين شكلوا الخطر الأكبر على المنظومة الحاكمة في بغداد والموالية لإيران.
ويرى الباحث حذيفة المشهداني أن أحد أهم أهداف الضغط الإيراني هو إجبار بغداد على ضبط الحدود عبر الجيش العراقي، بما فيه فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران. وبحسب المشهداني، فإن سير بغداد في هذا المسار يضمن لطهران وجود فصائل مسلحة ذات انتماء إيديولوجي موالي لتطلعاتها في صلب الدولة العراقية.
أما في الشمال، فما زالت الضربات التي توجهها تركيا لعناصر حزب العمال الكردستاني في شمال العراق تشكّل ضغطا على البنية المجتمعية الكردية في الإقليم. كما أنها تؤثر على حالة استقرار الإقليم بشكل عام والاستقرار الاقتصادي بشكل خاص.