أحمد عابدين
في خمسينات وستينات القرن الماضي، وإبان حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كانت مصر هي القوة الأبرز والأهم في دوائرها السياسية والجيوسياسية سواء داخل إقليم الشرق الأوسط عبر تيار القومية العربية الذي رعاها ناصر، أو في الكثير من دول أفريقيا بدعم حركات التحرر من الاستعمار أو خطط بناء التنمية، وكذلك دولياً عبر عدد من المنظمات مثل منظمة دول عدم الانحياز. وقد أخذ هذا الدور في الانحسار عقب هزيمة مصر في حرب يونيو عام 1967 ثم إبان حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك، وصولاً إلى ثورة يناير وما أعقبها من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية داخلية جعلت مصر وفق آراء الكثيرين تابعاً لبعض القوى الإقليمية، لاسيما الخليجية. إلا أنه وخلال السنوات القليلة الماضية عادت مصر لتلعب أدواراً إقليمية ودولية عديدة، فماذا أعاد القاهرة إلى هذا الموقع من جديد.
فلسطين
في نهاية مايو /أيار2021، ظهر رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، اللواء عباس كامل، وسط قطاع غزة برفقة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بالقطاع والرجل الأقوى ، يحيى السنوار، وذلك بعد انتهاء جولة الحرب بين الفصائل الفلسطينية بقيادة حركة حماس وإسرائيل بعد وقف اطلاق النار الذي دعت إليه ورعته القاهرة. حيث مثلت صورة وزير المخابرات برفقة السنوار علامة على عودة العلاقات بين الحركة والدولة التي كانت قد شهدت توتراً شديداً بعد إطاحة الجيش المصري بالرئيس الراحل محمد مرسي، كما مثلت هذه إشارة لا تُخطئها عين على عودة النفوذ المصري للقطاع الذي تلقى وعداً من الرئيس المصري بمنحة تُقدر بنصف مليار دولار للمساعدة في جهود إعادة الاعمار.
تقول مصادر مصرية مُطلعة على الملف بأن مشهد رئيس الاستخبارات المصري وسط القطاع هي نتيجة جهود استخباراتية وسياسية وأمنية كثيفة تمتد منذ عام 2015، حينما بدأ التوتر بين الدولة المصرية وحركة حماس في الخفوت وبدء مرحلة جديدة من التعاون خاصة على صعيد محاربة التنظيمات المتطرفة على جانبي الحدود المصرية الفلسطينية، وخاصة تنظيم ولاية الدولة الإسلامية وفرعه “ولاية سيناء”، وهو ما انعكس على النواحي الأخرى السياسية والاقتصادية، وخاصة مع تصاعد نفوذ يحيى السنوار داخل الحركة، وهو الأسير السابق لدى تل أبيب والذي تم الإفراج عنه عام 2011 بجهود استخباراتية مصرية تقول المصادر أنها لم تنقطع عن العمل على الحدود الشرقية المصرية حتى في أصعب اللحظات.
ليبيا
قبيل ذلك بقليل كانت الحدود الغربية المصرية على صفيح ساخن، حيث تأزم الوضع الليبي أكثر بإرسال تركيا لقوات ومعدات لمساندة حكومة طرابلس غرباً في مواجهة قوات اللواء خليفة حفتر حليف مصر والامارات شرقاً، وهو ما أنذر بوقوع صدام عسكري مباشر بين تركيا ومصر التي أعلنت على لسان رئيسها وضع خط أحمر بين سرت والجفرة يمثل الأمن القومي المصري ستدخل مصر عسكرياً إذا تم اجتيازه، إلا أن ذلك لم يحدث بعد دخول وساطات دولية كبرى أدت إلى تغير المشهد بشكل كامل وصعود مجلس رئاسي وحكومة جديدين في طرابلس على مقربة كبيرة من القاهرة التي أظهرت ذلك بوضوح خلال زيارة وزير المخابرات، عباس كامل، الذي حرص على التجول في شوارع طرابلس لإظهار تغير المعادلة الجديدة.
العراق
وخلال شهر يونيو 2021 شهدت العاصمة العراقية بغداد زيارة رئيس الجمهورية المصري وهي الزيارة الأولى من نوعها منذ قرابة ثلاثين عام، لتشير إلى عودة للنفوذ والحضور المصري على الساحة العراقية بعد عقود من التوتر والغياب، وهي الزيارة التي تعتبر حلقة هامة في المشروع/الحلف الثلاثي الطموح بين مصر والعراق والأردن والمسمى ب”الشام الجديد.” وفي أغسطس 2020 أعلن رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، عن المشروع قائلاً في حوار لصحيفة الواشنطن بوست الأمريكية “إن مشروع الشام الجديد وفق النسخة الأوروبية سيتم طرحه على قادة مصر والأردن، موضحا أن المشروع سيُتيح تدفقات رأسمال والتكنولوجيا بين البلدان الثلاثة على نحو أكثر حرية”.
وقد بدا التحالف بشراكة بين العراق الغني بالنفط والذي سيمد الأردن ومصر باحتياجاتهم عبر أنبوب نفط من البصرة إلى العقبة ومن ثم إلى مصر حيث سيتم تكرير كميات أخرى ويُعاد تصدريها من مصر إلى أوروبا، وبالمقابل فإن مصر ستمد العراق بالكهرباء عبر توسعة مشاريع الربط القائمة حاليا بين القاهرة وعّمان، بالإضافة إلى تسهيلات اقتصادية وتجارية تفتح الآفاق إلى استثمارات نفطية وغير نفطية تستوعب العمالة المصرية الضخمة. تبع ذلك زيارة لرئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إلى بغداد وقع خلالها اتفاقية حملت عنوان “النفط مقابل الاعمار” والتي تتضمن مساهمة الشركات المصرية وعلى رأسها القطاع العسكري (الهية الهندسية للقوات المسلحة، وزارة الإنتاج الحربي، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية) بجانب شركات عامة وخاصة في مجالات النقل والموارد المائية والصحة والبيئة والعدل والاستثمار والإسكان والإعمار والصناعة والتجارة والمالية، في مقابل توريد بغداد لكميات نفط ضخمة للقاهرة التي تمتلك قدرات تكرير هائلة بتكريره وإعادة تصديره، كما امتد التعاون إلى الجانب العسكري حيث تقوم القاهرة بتدريب قوات الجيش العراقي، وهو ما سيشهد توسعاً بعد انسحاب القوات الأجنبية من بغداد والمقرر الانتهاء منه عام 2022.
وفي يوليو 2021، أعلن السفير المصري في بيروت، ياسر علوي، عن فوز شركة المقاولين العرب بمشروع تطوير ميناء طرابلس حيث أهم مناطق تركز النفوذ التركي في لبنان، وهي المناسبة التي استغلها علوي للتأكيد على الحضور المصري المكثف مؤخراً هناك قائلاً “مصر ليوم في طرابلس وغدًا في صيدا وصور وعكار والبقاع وكل لبنان”. وقبل ذلك بأيام شهدت القاهرة زيارة قائد الجيش اللبناني، العماد جوزيف عون، الذي استقبل استقبال رسمي عالي المستوى من رئيس الجمهورية وقادة الجيش والمخابرات الذين حرصوا خلال الأشهر التي سبقت الزيارة على إرسال عدة سفن عسكرية تحمل مساعدات للجيش اللبناني، بجانب مساعدات أخرى ضخمة حملها الجسر الجوي المصري بعد مأساة انفجار مرفأ بيروت.
افريقيا
أما افريقيا فقد بدا وأنه لا بديل عن عودة الدور والنفوذ المصري بعد أن أصبح وجودها مهدداً بفعل سد النهضة الذي أقامته اثيوبيا على نهر النيل، شريان الحياة للمصريين. وخلال أشهر قليلة قام الجيش المصري بتنفيذ عدد من التدريبات العسكرية المشتركة مع السودان، وتوقيع اتفاقيات عسكرية مع كل من كينيا، ورواندا، وبوروندي، وأوغندا، وجيبوتي التي شهدت زيارة الرئيس المصري لها كأول زيارة من نوعها في تاريخ الدولتين.
يقول الدكتور سيد غنيم، رئيس مركز دراسات الأمن العالمي والدفاع IGSDA، أن خفت بشكل كبير ليس فقط من بعد ثورة يناير وإنما خلال الثلاثين وربما الأربعين عامًا الماضية، سواء بدعم حركات التحرر في افريقيا أو عن طريق الأزهر والكنيسة وإرسال البعثات، كما كانت مصر ترسل مستشارين عسكريين إلى الدول مثلما كان الوضع مع الفريق سعد الدين الشاذلي والمشير أحمد إسماعيل، بجانب التبادل التجاري، ودعم الحكومات الموالية لمصر، وهو ما توقف تماما وخاصة في شرق أفريقيا ودول حوض النيل التي انعدم نفوذها داخلها تقريبا، وكان تركيز مصر افريقيا منصب على ثلاث جبهات هي حوض النيل والدول المطلة على البحر الأحمر والقرن الافريقي، ودول الساحل والصحراء في غرب أفريقيا.
ولقد غاب هذا الدور المصري الإقليمي لأسباب عدة منها في اليمن حيث هناك تاريخ من الخلاف المصري السعودي، وكذلك في سوريا حيث كان هناك دور لدول الخليج في دعم العناصر السلفية الجهادية ضد بشار الأسد، أو الدعم الإسرائيلي لبعض هذه التنظيمات وهو ما يتعارض مع رؤية مصر الاستراتيجية الممتدة التي تعادي أي قوة دينية سواء سلفي جهادي او اخوان مسلمين، وكذلك في لبنان الذي هو امتداد رئيسي لأزمات الشام، ووجود حزب الله كأقوى الأطراف وتابع لإيران حيث لا تريد مصر أن تتورط في هذه الأزمات خاصة خلال فترة حكم الرئيس السيسي الأولى والتي كان هناك تركيز شديد على تدعيم العلاقات الخليجية للخروج بمصر من الأزمات المتعددة التي اشتدت عقب ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013.
وقد عادت القاهرة لتمارس دورًا إقليميًا مؤخراً سعياً للحصول على نصيب من النفوذ الإقليمي، وهو ما أعتقد أنها كان مخططا له من بعد ثورة يونيو عام 2013، وتولي السيسي منصب رئيس الجمهورية قادماً من مقعد وزير الدفاع، وذلك عبر عدد من الاتفاق العسكرية مع بعض دول حوض النيل والقرن الافريقي، وإظهار دور جديد في الساحل والصحراء والذي بدأ الآن حيث تقيم مصر مركزاً للتدريب يركز على هذه المنطقة، ويأتي عودة دورها النسبي في العراق والأردن كإعادة لفتح ملف مجلس التعاون العربي الذي كان هناك بوادر لإنشائه بين الدول الثلاث ومعهم اليمن كنظير لمجلس تعاون الخليجي عام 89، لكنه لم يكلل بالنجاح بسبب غزو العراق للكويت، والآن يعود الأمر من جديد لمصالح الدول الثلاث الاقتصادية والأمنية والسياسية، ويتوقف نجاح هذا التحالف على شكل التعاون واستقراره ونجاحه في اكتساب ثقة القوى الثلاث المهتمة بالمنطقة: الغرب وروسيا والصين.
وعلى الرغم من عودة هذا الدور بمظهر رد الفعل إلا أنه يأتي كاستراتيجية ضرورية بأساليب جديدة خاصة في افريقيا، وسيعمل على تقويته التوسع في التعاون العسكري من خلال التدريبات والتواجد مثلما حدث في السودان، وذلك لمصلحة استراتيجية لضمان منطقة حيوية مستحقة وضرورية لمصر سواء في العمق الاستراتيجي الجنوبي والشرقي، لحفظ الحقوق المائية في نهر النيل وحفظ الأمن القومي في البحر الحمر وباب المندب وقناة السويس، ومواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة في غرب أفريقيا وكسب أصوات ونفوذ داخل افريقيا لمواجهة النفوذ الاثيوبي حيث يقع مقر الاتحاد الافريقي.
[1] https://arabic.euronews.com/2021/05/31/egypt-intelligence-chief-in-gaza-meets-hamas-leadership
[2] https://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2011/10/12/جلعاد-شاليط-صفقة-الألف-أسير