يمثل وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله توقفًا هشًا في الأعمال العدائية، مما يسلط الضوء على التوازن الضعيف للقوى في ظل تصاعد الانتهاكات وتغير الديناميكيات الجيوسياسية.
علي نور الدين
في 27 تشرين الثاني 2024، دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل حيّز التنفيذ، لينهي بذلك نحو شهرين من الحرب الإسرائيليّة الموسّعة على لبنان. الاتّفاق الذي جاء بناءً على وساطة أميركيّة، قادها مبعوث الولايات المتحدة إلى لبنان عاموس هوكستاين، كان عرضة لتجاوزات إسرائيليّة متواصلة، تجاوز عددها الـ 60 خرقًا خلال الأسبوع الأوّل من وقف إطلاق النار.
وفي واقع الأمر، بدا أنّ تطبيع هذه الخروقات المتكرّرة سيكون خطّة إسرائيل لما بعد الحرب الموسّعة في لبنان، لفرض نزع سلاح الحزب الله بشكلٍ تدريجي.
تفاصيل الاتفاق والرهانات الإسرائيليّة
الدخول في تفاصيل الاتفاق، وورقة الضمانات الأميركيّة الجانبيّة التي تم تقديمها لتل أبيب، يمكن أن يكشف بعض رهانات إسرائيل للمرحلة المقبلة. فبنود الاتفاق المُعلنة نصّت على تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي يفرض نشر الجيش اللّبناني وقوّات حفظ السلام الدوليّة جنوب نهر اللّيطاني في لبنان، أي في المنطقة المتاخمة لحدود إسرائيل الشماليّة. كما ينص القرار 1701 على سحب الحزب لترسانته العسكريّة إلى شمال النهر، في مقابل امتناع إسرائيل عن تنفيذ أي هجمات على امتداد الأراضي اللّبنانيّة.
لم يكن هناك ما يثير قلق لبنان في نص القرار 1701، الذي صدر أساسًا بعد الحرب الإسرائيليّة على لبنان عام 2006. غير أنّ الخطير في ذلك كان حصول إسرائيل على ورقة ضمانات أميركيّة جانبيّة ذات بنود سريّة، من خارج الاتفاق المُعلن مع لبنان. ونصّت هذه الورقة –التي تسرّب مضمونها لاحقًا- على اعتراف الولايات المتحدة بحق إسرائيل في التحرّك في أي وقت كان داخل لبنان، بهدف التعامل مع أي تهديدات في المستقبل. وفي الورقة عينها، تتعهّد الولايات المتحدة بتبادل المعلومات المخابراتيّة مع إسرائيل، بما في ذلك صور الأقمار الصناعيّة، لمكافحة وقطع سلاسل توريد سلاح حزب الله.
من حيث المبدأ، لم يكن هناك ما يمنح ورقة الضمانات الأميركيّة أي مشروعيّة أو قيمة قانونيّة. إذ بحسب القانون الدولي، لا يمكن لأي إدارة أميركيّة أن تقدّم تعهّدات من تلقاء ذاتها، تتنازل بموجبها عن سيادة بلد آخر. إلا أنّ الخطير في حالة لبنان اليوم، هو أن الولايات المتحدة هي من يرأس اللّجنة المكلّفة بمراقبة تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار. كما تملك صلاحيّات واسعة للتنسيق مع قوّات حفظ السلام والجيش اللّبناني، وجمع المعلومات منهما، وذلك بهدف تطبيق الاتفاق.
ولعلّ أبرز دليل على حجم الصلاحيّات الأمنيّة التي ستمسكها الولايات المتحدة في جنوب لبنان، كان تكليف الجنرال جاسبر جيفرز بتمثيلها عسكريًا في لجنة الإشراف على تطبيق وقف إطلاق النار. وجيفرز هو أحد أبرز الضبّاط الأميركيين الضليعين في إدارة تدخلات الولايات المتحدة في العراق وسوريا وأفغانستان، وفي تنسيق المعلومات المخابراتيّة وبرامج التدريب والتوجيه مع “شركاء” الجيش الأميركي في تلك المناطق.
على هذا النحو، تراهن إسرائيل على الدور الأميركي في توجيه اليونيفيل والجيش اللّبناني أمنيًا ومخابراتيًا، لتطويق مساحات نفوذ حزب الله في جنوب لبنان. كما تراهن على الدور الأميركي نفسه لضبط المعابر البريّة والبحريّة والجويّة في لبنان، ومنع إمداد حزب الله بالسلاح، وفق آليّات تنسيق خاصّة تحاول الولايات المتحدة التفاهم عليها مع الدولة اللّبنانيّة. ولتنفيذ هذا الدور الأميركي، سيكون على الولايات المتحدة تعزيز حضورها في جنوب لبنان بعناصر مختصّة بمهام التنسيق الأمني والمخابراتي وجمع المعلومات.
رهان إسرائيل الآخر، سيكون تثبيت وتكريس فكرة تدخلاتها العسكريّة اليوميّة في لبنان، تمامًا كما جرى خلال الأسبوع الأوّل من وقف إطلاق النار، والتزامًا ببنود ورقة الضمانات الأميركيّة. وبهذا الشكل، سيكون الجيش الإسرائيلي حاضرًا لضرب نقاط تواجد الحزب، أو محاولات تمرير السلاح له، في حال لم يتجاوب الجيش اللّبناني أو قوّات حفظ السلام الدوليّة مع هذا الهدف. والتنسيق المخابراتي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، سيكفل حصول تل أبيب على المعلومات المطلوبة عند الحاجة.
تصوّرات حزب الله للمرحلة المقبلة
من الجهة اللّبنانيّة، كانت الحكومة هي الطرف الذي وافق رسميًا على اتفاق وقف إطلاق النار، بعد مسار من المفاوضات التي قادها رئيس المجلس النيابي –وحليف حزب الله المقرّب- نبيه برّي. لكنّ هذه الموافقة لم تكن لتصدر عن الحكومة لولا تلقيها معلومات تفيد بموافقة حزب الله على نص الاتفاق، من خلال قنوات التواصل المفتوحة بين الحزب وبرّي.
لم يجد حزب الله نفسه معنيًا بورقة الضمانات الأميركيّة الجانبيّة، على اعتبار أنّها خارج البنود التي التزم لبنان بتنفيذها في اتفاق وقف إطلاق. بعض التحليلات، ترى أن حزب الله كان مدركًا لخطورة هذه الورقة الأميركيّة، التي ستمهّد لتنسيق أمني رفيع المستوى بين الولايات المتحدة وإسرائيل، غير أنّه اضطرّ لتجرّع “كأس السم” –بحسب هذا الرأي- لتجاوز مرحلة الحرب الإسرائيليّة القاسية على لبنان، ومن ثم التفرّغ لإعادة بناء قوّته لاحقًا.
ولإبطال الرهان الإسرائيلي، اختار الحزب إعادة التركيز في خطابه على العلاقة الوثيقة التي تجمعه بالجيش اللّبناني، وذلك للحؤول دون وضع جنود الجيش في مواجهة الحزب في المستقبل. أمّا بالنسبة للخروقات الإسرائيليّة، فاختار حزب الله الرد بقصف مواقع عسكريّة شمال إسرائيل، لوضع معادلة تمنع تطبيع انتهاك السيادة اللّبنانيّة بشكلٍ متكرّرٍ. مع الإشارة إلى أنّ الحزب يعلم حكمًا أن استقرار الحياة المدنيّة في شمال إسرائيل ستبقى رهن الهدوء على جبهة جنوب لبنان، وهو قد يشكّل بحد ذاته عاملًا رادعًا لإسرائيل في المستقبل.
إلى جانب جميع هذه الحسابات، يضع حزب الله نصب عينيه ترميم هيكليّته القياديّة، بعد كل الاغتيالات التي طالت الصف القيادي الأوّل على المستويين السياسي والعسكري. كما تعامل الحزب ببراغماتيّة مع الشؤون السياسيّة الداخليّة، فاختار الإعلان عن اتجاهه لتسهيل انتخاب رئيس للجمهوريّة، ربما لإدراكه بطبيعة التحديات التي ستواجهها الدولة اللّبنانيّة في مرحلة إعادة الإعمار لاحقًا.
تطورات الساحة السوريّة
لقد أضعفت نتائج الحرب في لبنان بشكلٍ كبيرٍ قدرة حزب الله على دعم حلفائه في دمشق ضد المعارضة المُسلّحة، كما حدث في المراحل الأولى من الصراع السوري. ويبدو أن هذا التحول في الديناميكيات قد ساهم في تسهيل النجاحات الأخيرة التي حققتها المعارضة السورية. فبعد وقف الأعمال العدائية في لبنان، شنت المعارضة حملة عسكرية من معاقلها في ريف حلب وإدلب.
وفي الأيّام الأخيرة، سيطرت قوات المعارضة على حلب وحمص وحماة، حتى استولت أخيرًا في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 على دمشق، ما أدى إلى سقوط نظام بشار الأسد وفراره لاحقًا من البلاد. وقد تراجع الجيش السوري، وانسحب حزب الله من سوريا، متخليًا عن معقله الأساس في القصير ــ وهي منطقة حيوية لنفوذه في البلاد وعمليات تهريب الأسلحة إلى لبنان.
لقد كان لانهيار نظام الأسد عواقب فورية وعميقة على حزب الله. فمع خسارة القصير، أصبحت قدرة الحزب على الحفاظ على نفوذه في سوريا والحفاظ على طرق إمداد الأسلحة الحيوية إلى لبنان معرضة للخطر بشكلٍ خطيرٍ. كما أدى تقدم المعارضة إلى تعطيل ممرات الأسلحة الرئيسة التي تمر عبر سوريا إلى وادي البقاع الشمالي، وهو شريان حياة حيوي لأسلحة حزب الله. إن انسحاب حزب الله من سوريا يزيد من تآكل موقعه اللّوجستي والاستراتيجي في المنطقة.
ونظرًا لهذه التطورات السريعة، أصبح المشهد السياسي في لبنان الآن مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالوضع في سوريا. ومع سقوط نظام الأسد، سوف تصبح قدرة حزب الله على المناورة في لبنان ــ وبخاصةٍ في عملية تنفيذ اتفاقات وقف إطلاق النار ــ مقيدة على نحو متزايد. وربما يفسر هذا السّياق ردود أفعال الحزب الحذرة نسبيًا إزاء الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، والتي أصبحت الآن تحدث بشكلٍ شبه يومي، على الرغم من تصاعد نطاقها وتكرارها.